مجلة الرسالة/العدد 246/العام الهجري

مجلة الرسالة/العدد 246/العام الهجري

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1938


1357

أهل هلال المحرم والعالم المسكين يكاد يفلت من قيوده ويتحلل من نظمه؛ فكأنما ارتد إلى عهوده الأولى يترصد الفرائس في ألفاف الشجر وأجواف الحفر، ويتعقب الطرائد في بطون الأودية ومخارم الجبال، ثم يشتد عليه سلطان الغرائز المهلكة فيستنشي رَوْح الحياة فلا يجده، ويلتمس ظل الأمان فلا يدركه، ويبتغي عزاء النفس فلا يناله

هذه أوربا العالمة العاملة القوية، قد استحال بنو آدم فيها إلى هياكل صناعية، تتحرك بالبنزين، وتسير بالقيادة، وتعمل بالحيلة، وتهتلك في السبق، حتى أوشكت أن تصطدم فتتحطم

أين الروح الذي كان يحييها؟ وأين النور الذي كان يهديها؟ رجعا إلى مصدرهما الإلهي في الشرق يوم تجهمت لحواريي المسيح، وتنكرت لخلائف محمد، وبنت الأخلاق على قواعد الاقتصاد، والديمقراطية على استبداد الأحزاب، والسلام على طغيان القادة. فكان من ذلك فجيعتها الأليمة في سلامها ونظامها وخلقها، لأن مطامع الاقتصاد لا يقوم عليها خلق، ونوازع الأفراد لا يثبت بها نظام، ونوازي القواد لا يدوم عليها عهد؛ حتى عصبة الأمم التي جمعت فيها أوربا ما بقي لديها من هدى الأنبياء وحكمة الفلاسفة، دفن أشلاءها هتلر في النمسا، بعدما قطع أوصالها الدتشي في الحبشة!! فحال أوربا اليوم كحال الضواري الأوابد، تتباعد بالأثرة، وتتدانى بالخديعة، وتتدافع بالقوة؛ ثم أعوزتها الأنياب والأظفار فجعلت مصانع التجار مسالح، وصهرت أجور العمال أسلحة. وأخذ الساسة والطغاة يتجاوبون بالزئير فوق المنابر، فملئوا الصدور بالرعب، وزعزعوا البيوت بالقلق، وسمموا الحياة بالهم، ونزعوا من قلوب الناس طمأنينة العيش وحرية التصرف ولذة التملك، فانقلبوا عبيداً مسخرين لهذه النظم الطاغية، لا يجدون سلاماً في الأرض، ولا يعتقدون نعيما في السماء!

أخطر ببالك أمم التمدن الحديث، فهل تجد غير صولة تناهض صولة، ودولة تبلع دولة، وأنظمة عراها تغير الإنسان فهي تحتظر، وأخرى هدي إليها الضلال فهي تنتظر؛ والشعوب بين أنصار هذه وأنصار تلك مواد تهلك في التجارب، وأموال تنفق في الأهبة، وأرواح تزهق في الصراع، وآمال تذهب مع الريح؟

دع هذا العالم المجهود البائس وجل جولة بالفكر في بلاد العالم الإسلامي، فهل تجد إلا السلام في المجتمع، والوئام في الأسرة، والسكينة في النفس، والرضا في العيش، والثقة في الحاكم، والأمل في الله؟ ذلك هو الفرق بين نظام يضعه الخالق ونظام يضعه المخلوق. وذلك هو الفرق بين مجتمع يعيش بالروح، ومجتمع يعيش بالآلة. وذلك هو المفهوم من دين سماه الله الإسلام، وجعل تحية أهله (السلام)، وقرن فيه الصلاة دائما بالسلام، وعرف أهله بأنهم (الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)

ذلك هو معنى الإسلام وذلك هو مبدأه. وتستطيع أنت بأيسر الفهم أن ترجع الإسلام وفروعه إلى تحقيق هذا المعنى وتطبيق ذلك المبدأ؛ فالصوم والصلاة سلام الفرد. والحج والزكاة سلام المجتمع؛ والسنن والأنظمة والآداب التي انشعبت من هذه الأصول دستور ثابت خالد يحقق لهذا الإنسان، طريد العدوان وعبد الطغيان، أحاديث أحلامه، وهواجس أمانيه، من الأخوة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب فيها المدارك؛ لأنه دستور لم يوحه الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاه الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، ويصلح نظاماً بنظام، وينقذ إنساناً بإنسان

إن الإسلام بشريعته السمحة، وسياسته الحكيمة، قد أزال الفروق، وعدل المقاييس، وألف القلوب بالبر، وشفى الصدور بالتعاون، فلا يمكن أن يعيش في ظله نظام هادم ولا نحلة مفرقة. افتحوا ثغوره للنظم الحمراء التي تشيع الفزع هنا، وتثير الحرب هناك، فسترونها تفد جارفة وفود النسور الخاطفة، ثم لا تلبث أن تقع من دون ذراه المنيعة، مهيضة الجناح، ناسلة الريش، لا تقوى على زفيف ولا حفيف! وفي تركية الدليل الحاسم، فإن بينها وبين الشيوعية جواراً وصداقة وعلاقة؛ ومع ذلك لم تستطع الشيوعية - على فجورها وجرأتها - أن تقتحم على الإسلام غِيله.

إن في الإسلام من ديمقراطيته واشتراكيته وأخوته مناعة على كل شر، ومثابة لك جنس، ومودة لكل دين. فانتصاره انتصار للعقل، وانتشاره انتشار للعدل، وسيادته سيادة للسلام!

أحمد حسن الزيات