مجلة الرسالة/العدد 247/القصص
- لعناوين أخرى، أنظر مقهى سورات
مجلة الرسالة/العدد 247/القصص
مقهى صورات
للفيلسوف الروسي تولستوي
كان في بلدة صورات من أعمال الهند مقهى يجتمع فيه المسافرون من جميع أطراف العالم فيتحاورون ويتسامرون.
وفي يوم من الأيام هبط إلى هذا المقهى عالم روحاني فارسي أفنى حياته في درس اللاهوت وفي التأليف فيه. ومن كثرة ما فكر وقرأ وكتب وناقش اختلط عليه الأمر وأصبح لا يعتقد حتى بوجود إله. فلما سمع الشاه بذلك نفاه عن بلاد فارس.
وكان لهذا الرجل عبد أفريقي لا يفارقه لحظة، فلما دخل سيده المقهى جلس هو على صخرة بجانب الباب تحت أشعة الشمس يطرد عنه الذباب. فلما استوى الفارسي على أحد المقاعد طلب من النادل كوباً من الأفيون. ولم يكد يفرغ من شربه حتى أخذ الأفيون يعمل عمله في رأسه، فقال يخاطب عبده من الباب وقد كان مفتوحاً:
(قل لي أيها العبد البائس هل تعتقد بوجود إله؟)
فأجاب العبد: (طبعاً). وفي لمح البصر أخرج من منطقته تمثالاً صغيراً من الخشب وقال: هاهو ذا. ذلك الإله الذي حماني وحرسني من يوم ولدت. وكل واحد من بلدنا يعبد الشجرة التي منها صنع هذا الإله.
دهش كل من كان في المقهى لهذه المحاورة الشاذة بين الفارسي وعبده. وما أتم العبد كلامه حتى انبرى له واحد وكان من أتباع برهمة إله الهنود وقال: (أيها الغبي الحقير! أتعتقد أن في الإمكان أن يحمل الله في منطقة رجل؟ لا يوجد غير إله واحد هو برهمة، إنه أعظم من جميع العالم، لأنه خلقه. برهمة هو وحده الإله العظيم، ولأجله شيدت المعابد على ضفاف الكانج وفيها يعبد البراهمة كهنته الحقيقيون الذين هم وحدهم يعرفون الإله الحقيقي دون سواهم. لقد مضي عشرون ألف سنة على ظهوره، وبالرغم من الفتن والثورات المتوالية ظل هؤلاء الكهنة قابضين على ناصية الأمور، وما ذلك إلا لأن برهمة قد حرسهم وحماهم طول هذه السنين).
قال ذلك البرهمي وهو يعتقد إنه أقنعهم جميعاً، إلا أن صيرفياً يهودياً كان حاضراً فأجابه قائلاً: (كلا، ثم كلا. إن معبد الإله الحقيقي ليس في الهند، والإله الحقيقي ليس إله البراهمة، وإنما هو إله إبراهيم واسحق ويعقوب، ولا يحمي أحداً غير شعبه المختار. . . بني إسرائيل. إن شعبنا هو شعبه الذي يحبه، وما تشردنا في أنحاء العالم إلا لأنه يريد تجربتنا. ولقد وعد بجمع شتات شعبه في أورشليم، وعندئذ - في معبد أورشليم، أعجوبة العالم القديم بعد رده إلى سالف عزه ورونقه - سوف يحكم الإسرائيليون جميع الأمم).
وهنا أجهش اليهودي بالبكاء، وأراد أن يستمر في الكلام إلا أن مبشراً إيطالياً قاطعه قائلاً: (إن هذا الذي تقوله ليس حقاً، لأنك تنسب الظلم إلى الله جل جلاله. وإنه لمن المستحيل أن يحب الله شعبك أكثر من بقية الشعوب. إن كان حقّاً ما يقال من أن الله في القديم قد فضل الإسرائيليين واصطفاهم على باقي العالمين، فإنه قد مضى ألف وتسعمائة سنة على خروجهم عليه وإغضابهم إياه، مما أدى إلى هلاكهم وتشريدهم في بقاع الأرض حتى لا ينتشر مذهبهم. ولقد اضمحل إلا من بعض أنفاس تصعد هنا وهناك. إن الله سبحانه وتعالى لا يفضل أحداً على أحد، ولكنه يدعو هؤلاء الذين يبغون الخلاص إلى أحضان كنيسة روما الكاثوليكية، ولا خلاص لمن كان خارج حدودها).
فألتفت قسيس بروتستانتي - اتفق إن كان حاضراً - إلى المبشر الإيطالي بوجه ممتقع وأخذ يقول له:
(كيف جاز لك أن تقول أن لا خلاص إلا لمن كان تابعاً لمذهبكم؟ لا يخلص إلا هؤلاء الذين يخدمون الله من صميم قلوبهم كما جاء في الإنجيل وكما أشار به المسيح).
عندئذ التفت إلى هذين المسيحيين، تركي من موظفي الكمارك في صورات، وقد كان جالساً في المقهى يدخن في (غليون)، وقال لهما بلهجة المسيطر:
(اعتقادكم في الديانة المسيحية باطل. لقد حل محلها قبل ألف ومائتي سنة دين صحيح هو دين محمد (ص). ليس لك إلا أن تجيل بصرك في أرجاء العالم لترى انتشار هذا الدين الصحيح في أوربا وآسيا، حتى في بلاد الصين المستنيرة. لقد قلتما أنتما إن الله غضب على اليهود وازدراهم. وذكرتما على سبيل المثال حالة اليهود الآن وما يقاسونه من ذلة ومسكنة، فما أحرى بكما أن تعترفا بصحة دين محمد لأنه هو الوحيد الظافر المنتشر طولاً وعرضاً. لا ينجو سوى تابعي محمد (ص) خاتم أنبياء الله).
وهنا أراد الفارسي، وهو من أتباع الرسول العربي (ص) أن يتكلم؛ إلا أن جدالاً عنيفاً شجر بين جميع الأجانب الموجودين المنتمين إلى مذاهب شتى، فقد كان بينهم مسيحيون من الحبشة، ولاميون من تيبت، واسماعيليون ومجوس؛ وكان جدالهم في الله وكيف يجب أن يعبد؛ وكل يؤكد أن الله الحقيقي لم يعرف ولم يعبد إلا في بلده.
لم يبق واحد في المقهى لم يشترك في هذا الجدال والصياح إلا صينياً من أتباع كونفوشيوس. كان جالساً يرشف الشاي ويستمع إلى المتكلمين دون أن ينبس ببنت شفة. فلما رآه التركي جالساً على هذه الحالة تقدم إليه محاولاً اجتذابه إلى رأيه بهذه الكلمات: (أنت لم تنطق أيها الصيني العزيز حتى الآن بكلمة، ولم يكدر صفوك كل هذا الصخب، ولكنك إن تكلمت ففي وسعك أن تؤيد ما أقول. لقد حكى لي بعض التجار الصينيين الذين يطلبون مني المعونة، أنكم معشر الصينيين تعتقدون على كثرة ما عندكم من الأديان والمذاهب أن الديانة الإسلامية هي أفضل الديانات وأنكم تعتنقونها عن طيبة خاطر. أيّد إذن كلماتي وأبن لنا رأيك في الله الحقيقي ونبيه).
فهتف القوم صائحين: (حسن، حسن) ثم التفتوا إلى الصيني وقالوا (أسمعنا رأيك في هذا الموضوع).
فاغمض الصيني عينيه وأخذ يفكر ثم فتحهما ثانية وأخرج يديه من كمي ردائه العريضين وطواهما على صدره وأخذ يتكلم بصوت هادئ رزين:
سادتي: يظهر لي أن الذي يحول دون اتفاق الناس في قضايا الدين يرجع خاصة إلى الزهو الفارغ. فإن تفضلتم فأصغيتم إلي فسأقص عليكم قصة توضح لكم ما غمض من هذه المشكلة:
تركت الصين قاصداً هذه البلاد على ظهر باخرة إنكليزية طافت حول العالم. وقد رست هذه بنا الباخرة على الساحل الشرقي من جزيرة صومترا لنفاد الماء. وكنا جماعة من مختلف الأجناس، وكان الوقت ظهراً، فنزلنا إلى البر وجلسنا تحت شجرة من شجر جوز الهند على شاطئ قريب من القرية. ولما جلسنا تقدم نحونا رجل أعمى علمنا بعدئذٍ انه فقد بصره من كثرة ما حدق في الشمس محاولاً سبر أسرارها ومعرفة كنهها. سعى كثيراً للوصول إلى مبتغاه وأطال التحديق في الشمس دون أن يدركه إعياء حتى احرق وهج الشمس عينيه فاصبح أعمى. وبعدما فقد بصره صار يكلم نفسه: (نور الشمس ليس سائلا، إذ لو كان كذلك لكان في الإمكان صبه من آنية في أخرى وتحريكه كما يحرك الهواء الماء؛ ولا هو نار، إذ لو كان ناراً لأطفئه الماء، ثم هو ليس روحاً لأنه منظور، ولا هو مادة لان المادة تنقل، وبما أن نور الشمس ليس سائلا ولا نارا ولا روحاً ولا مادة فهو إذن لا شيء).
على هذه الطريقة كان يحاور. وبنتيجة تحديقه المستمر في الشمس وكثرة التفكير فيها كما أسلفنا فقد بصره وعقله وأصبح لا يعتقد بوجود الشمس.
وكان لهذا الأعمى عبد يقوده، فلما اقتربا منا أجلس العبد صاحبه تحت شجرة وارفة، ثم التقط جوزة من الأرض وأخذ يصنع منها سراجاً: أبتدأ أولا بتقشير الجوزة، ثم أخذ ليفة فبرمها ثم عصر دهناً من الجوزة في القشرة، ثم نقع الفتيلة فيها فاصبح له من ذلك سراج يضيء له الظلام.
وهنا تنهد الأعمى وقال لعبده: (ألم أكن على حق حين قلت لك يا عبد أن لا وجود للشمس؟ ألا ترى هذا الظلام الدامس؟ ومع ذلك يقول الناس بوجود الشمس! إذا كان صحيحاً ما يقولون، فما هي؟)
قال العبد: (لا أعرف ما هي الشمس. تلك ليست مصلحتي، ولكني أعرف ما هو النور ها قد صنعت نوراً أستطيع به أن أخدمك وأن أجد كل ما أطلبه في الكوخ).
وهنا التقط العبد قشرة الجوز قائلاً: (هذه شمسي) وكان رجلاً اعرج جالساً وإلى جانبه عكازه ينصت إلى هذا الحوار الشائق، وما كاد يلفظ العبد كلمته الأخيرة حتى أغرق في الضحك وقال يخاطب الأعمى:
يظهر انك ولدت أعمى! ولما كنت لا تعرف ما هي الشمس فسأقول لك ما هي. الشمس كتلة من نار تخرج من البحر كل صباح، وترتفع ثم تهبط كل مساء، وتتوارى بين جبال جزيرتنا. لقد رأى الناس جميعاً هذا، ولو كنت بصيراً لرأيتها أنت أيضاً.
ثم أعقبه سماك كان يستمع إلى الحديث موجهاً الكلام إلى الأعرج:
(يظهر لي أنك لم تر ما وراء جزيرتك. ولو طفت كما طفت أنا في زوق الصيد لعلمت أن الشمس لا تغيب في جبال جزيرتنا، ولكنها كما تشرق من البحر كل صباح، تغيب في البحر كل مساء. إن هذا الذي أقوله لك صحيح لا شك فيه لأني أشاهده بعيني كل يوم).
وهنا قاطعه هندي كان من جماعتنا قائلاً: لشدَّ ما يدهشني أن أسمع هذا الهراء من رجل عاقل مثلك! كيف يجوز لكتلة نار أن تهبط في الماء ولا تنطفئ؟ الشمس ليست كتلة نار أبداً بل هي إله يدعى (ديفا) وهو ما ينفك يركب عجلة يدور بها حول جبل فيدو الذهبي فتهجم عليه في بعض الأحيان الحيتان المشئومتان (راكو وكيتو) وتبتلعانه؛ وعند ذلك تصبح الأرض في ظلام. إلا أن كهنتنا لا ينفكون يصلون ويضرعون لذلك الإله حتى يطلق سراحه. لا يظن أن الشمس تضيء بلدته وحدها إلا من كان غبياً مثلك لم يبرح جزيرته قط).
فقاطعه ربان سفينة مصرية وقال له: (أنت أيضاً مخطئ، ليست الشمس إلهاً ولا هي تدور حول الهند ولا حول جبلها الذهبي فحسب) لقد طوفت كثيراً في البحر الأسود وعلى طول سواحل جزيرة العرب، ورأيت أيضاً مدغشقر وجزائر الفلبين، وفي كل هذه الأماكن تبزغ فيها الشمس، مما يدل على أن الشمس لا تضيء الهند وحدها ولكن تضيء الأرض كلها؛ ولا هي تدور حول جبل واحد وإنما تشرق في الشرق الأقصى وراء جزر اليابان، ثم تغرب بعيداً. . . بعيداً في الغرب وراء الجزيرة البريطانية. ولهذا السبب يسمي اليابانيون بلدتهم (نيبون) ومعناه (مولد الشمس). أعرف هذا جيداً لأني رأيت كثيراً، وسمعت اكثر من جدي الذي ركب البحار كلها).
وكان يريد المصري أن يستمر في حديثه لو لم يقاطعه بحار إنكليزي كان في سفينتنا قائلاً:
(لا يعرف أحد عن حركات الشمس قدر ما يعرفه الناس في إنكلترا. ليس للشمس مشرق ولا مغرب، وإنما هي تدور دائماً حول الأرض. إن هذا الذي أقوله لا شك فيه. ألم ننته الآن من طوافنا حول العالم ومع ذلك لم نصطدم بالشمس؟ أينما حللنا وجدنا الشمس تطلع صباحاً وتغيب مساء كشأنها هنا!.
وأخذ الإنكليزي عصاً وراح يرسم دوائر على الرمل ليرينا حركات الشمس وكيف تدور حول الأرض، إلا أنه لم يستطع شرحها بوضوح فقال مشيراً إلى ربان السفينة: اترك شرحها إلى هذا الرجل فهو أعلم بذلك مني)
وكان ربان الفينة رجلا ذكياً يصغي إلى الحديث بسكون دون أن ينبس بكلمة، فلما طلب منه الكلام اتجهت الأنظار إليه وبدأ يقول: (أنتم تحاولون التضليل وما تضلون سوى أنفسكم. إن الشمس لا تدور حول الأرض، بل الأرض هي التي تدور حول الشمس مرة في كل سنة، وتدور حول نفسها مرة في كل أربع وعشرين ساعة. فيتضح من هذا أن لا فرق بين اليابان وجزر الفلبين وسومطرا وأفريقيا وأمريكا وأوربا وغيرها، فإن نصيب الجميع من أشعة الشمس واحد. فالشمس إذاً لا ترسل نورها على جبل واحد ولا جزيرة واحدة ولا بحر واحد حتى ولا على أرض واحدة، وإنما تستضيء بنورها جميع الكواكب أيضاً. فلو نظرتم في السموات عوضاً عن نظركم إلى الأرض لأدركتم كل هذا ولما زعمتم بعد ذلك بأن الشمس تضيء لكم أو لمدينتكم فقط).
هكذا تكلم الربّان الحكيم، وإذا تكلم فإنما يتكلم عن خبرة واسعة من كثرة ما ساح في البحار ومن طول ما حدّق في السموات.
هذا الذي قيل في الشمس يقال أيضاً في الدين. إن السبب الذي يحول دون اتفاق الناس في مسألة الدين إنما هو التفاخر وما يسببه من شحناء. كل رجل يريد إلهاً له، أو على الأقل إلهاً خاصاً لأمته، وكل أمة تريد أن تحصر في معبدها الله الذي لا يسعه العالم.
وما هذه المعابد بالنسبة إلى العالم الذي خلقه الله ليجعل فيه الناس أمة واحدة وديانة واحدة ألا وهي الإنسانية؟
لقد شيدت المعابد الإنسانية على غرار هذا المعبد الذي شيده الله للناس، كل معبد له أحواضه وأقبيته وصوره ونحوته ونقوشه وكتبه ومذابحه ومحاريبه وكهنته. ولكن أيوجد معبد له حوض كحوض الأقيانوس أو قبو كقبو السموات؟ وأين تلك المصابيح الباهتة التي تضيء المعابد الإنسانية من الشمس والقمر والنجوم؟ أو تلك الصور الجامدة من رجال أحياء تغمر قلوبهم بالحب؟
وهل يوجد وصف في أي سفر من الأسفار عن كمال الله وحسنه أروع وأبسط من هذه النعم التي أسبغها الله على عباده لخيرهم وسعادتهم؟ وهل من تضحيات أسمى وأرفع من هذه التي يقدمها الرجال والنساء على مذبح الحب؟ ثم ما هذه المذابح المنصوبة في الكنائس إذ قيست بقلب رجل كريم يطفح حباً وحناناً وقد رضى الله به مذبحاً لتقديم القرابين له.
كلما سما الإنسان في فهم الله ازداد به علماً، وكلما ازداد به علماً اقترب منه، وذلك باحتذائه إياه في إحسانه وعطفه وحبه.
ليكف إذن ذلك الذي يرى نور الشمس يغمر العالم عن احتقار ذلك الرجل الخرافي الذي يرى في معبوده قبساً من هذا النور. ليكف حتى عن ازدراء الكافر، لأنه أعمى ولا يرى الشمس البتة).
هكذا تكلم الصيني تابع كونفوشيوس، فصمت كل من كان في المقهى ولم يعد أحد يدعي أن ديانته هي الفضلى.
يوسف روشا