مجلة الرسالة/العدد 248/داء الشعور بالحقارة أيضا

مجلة الرسالة/العدد 248/داء الشعور بالحقارة أيضا

مجلة الرسالة - العدد 248
داء الشعور بالحقارة أيضا
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 04 - 1938


ً

للأستاذ عبد الرحمن شكري

قرأ أديب مقالة داء الشعور بالحقارة فقال إن الصفات التي ذكرتها صفات شائعة في النفس الإنسانية. وكأنه بهذا القول يريد أن ينكر أن في النفس ما يصح أن يسمي داء الشعور بالحقارة فذكرت الأديب بأن صفات الخير والشر كلها موجودة في كل نفس، فلكل نفس منها نصيب قل أو كثر، ولكن هذه الحقيقة لا تمنع من تفاوت النفس تفاوتاً عظيماً حسب نصيبها من صفات الخير أو الشر. ولا نريد أن ننكر أن جرثومة الحقارة تلفي حتى في النفوس العظيمة؛ هذا أمر نريد أن نثبته وإلا ما استطاع القارئ أن يعترف بما ذكرناه في مقالتا من أن داء الشعور بالحقارة قد يصير وباء في بعض البيئات، وأن له عدوى كعدوى الأمراض الجثمانية؛ فلولا هذه الجرثومة التي تشترك فيها النفوس قاطبة ما استطاعت نفس أن تؤثر في نفس أخرى وأن تحملها على محاكاتها في الأفعال أو الأقوال الناشئة من شعورها بالحقارة

إن صفات الخير أو الشر شائعة في النفوس الإنسانية؛ وهذا سبب العدوى وسبب المحاكاة. ولكن شيوع صفة من الصفات في النفوس لا يجعلها مرضاً مزمناً، وإنما تصير تلك الصفة مرضاً إذا غلبت على النفس وصارت محور أعمالها وأقوالها وطغت على كل صفة أخرى أو حاولت هذا الطغيان وتملكت المشاعر. وفي هذه الحالة يكون الداء النفسي في اشد حالاته، ولكن له حالات أخف وأهون

وقد ذكرنا أن ذيوع داء الشعور بالحقارة يكون أعظم في الأمم التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة، غلبة تشعرها الذلة والمسكنة سواء أكان الغالب قاهراً أتاها من الخارج أو حاكماً من أبنائها. وتظهر أعراض هذا الداء إذا قَلت تلك الغلبة أو زالت أسبابها وزادت الحرية، فتبرز وتعظم صفات القلق والألم والحقد والحسد خشية أن يفطن أحد إلى ما يشعر به صاحب داء الشعور بالحقارة في سريرة نفسه. وقد يكون شعوراً غامضاً لا يتبينه تماماً فيتعاظم تعاظماً لا اطمئنان فيه، لأنه تساوره الأحقاد والحسد فيتم تعاظمه عما يبطنه من الشعور وما يعالجه من داء الحقارة. وفي بعض النفوس يظهر الداء بمظهر التواضع وتحقير النفس تحقيراً يخالطه الحقد والحسد والقلق، فتنم هذه الصفات أيضاً عم يعالجه المرء في سريرة نفسه من الشعور بالحقارة. وقد يعالج هذا الشعور وهو لا يدركه ولا يفطن له تماماً، وقد يدعي المتواضع المصاب بداء الحقارة أنه أكرم خلقاً من المتعاظم بهذا الداء. ولم نقل أن داء الشعور بالحقارة لا يظهر إلا في تلك الأمم التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة، وإنما قلنا إن ذيوعه فيها أكثر، وصفاته ومظاهره أكثر تنوعاً وتعدداً، وأعراضه أشد: من حب للظهور ومن دس وكيد وحقد وحسد. ولم نقل إن الكيد والحقد والحسد والتنافر ليس لها إلا هذا السبب وإلا هذا المصدر، فلها أيضاً أسباب اخرى، ولكن إذا ظهرت الصلة بينها وبين داء الشعور بالحقارة في مثل تلك الأمة أو البيئة الموصوفة كان هذا الداء هو سببها، وحتى في حالات الأفراد المصابين بهذا الداء في بيئة سليمة منه قد تظهر صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة ظهوراً ليس مثله ظهور. أما في البيئات الموبوءة فليست الصعوبة في معرفة صلات هذه الصفات والمظاهر بالداء، وإنما الصعوبة في حصرها وعدها ولم شعثها وتشعبها تشعباً عظيماً؛ وهذا التشعب والتفرع قد يبعدها عن اصلها لكثرة الفروع وفروع الفروع حتى يخيل للرائي أن لها أسباباً أخرى غير داء الشعور بالحقارة الذي هو منبتها وجذرها وجزعها في تلك البيئة، فتتكاثر صفاتها أمام الباحث تكاثر الظباء على خراش. على أن العقل لا يجد صعوبة في أن يفهم منشأ هذا الداء التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة تشعرها الذلة والمسكنة، ثم جاءت الحرية. ومن لوازمها أن يخفى الحر ما يشعر به من صفات متوارثة أو غير متوارثة، وهذه الرغبة في إخفاء ما في نفسه من داء الشعور بالحقارة قد تصير داء يتلمس كل وسيلة شريفة أو دنيئة، وقد يشرف بصاحبه على الجنون أو يبلغه، وقد يدفع إلى الجرم. وفي اعتقادي أن مباهاة التعس للتعس من فقراء الفلاحين مباهاة ربما دعت إلى الجرم الإثم من اجل سبب تافه إنما تنشأ من هذا الداء ومن هذه المؤثرات الاجتماعية القديمة الحديثة. وكذلك حب الظهور الذي قد يؤدي بالأملاك ويؤدي إلى خراب الأسر إنما هو داء الشعور بالحقارة الخفي يبرز في شكل تعاظم مصحوب بالقلق والحقد والحسد. وهذه المظاهر تشاهد أيضاً في نفوس بعض الموظفين والطلبة وسكان المدن الكبيرة. ولابد أن نقول مرة ثانية إن صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة في بيئة اعتورها ذل ثم حرية بعد ذل طويل، صلات ظاهرة لا تنكر، وإن تلك الصفات ليست في شكلها الذي تشترك فيه النفوس البشرية عامة بل زادت واشتدت حتى صارت داء، وإنه لا يرجى رقي ولا تصلح تربية ولا يصلح تعليم ولا ترجى ثمراته كلها إلا إذا عولج داء الشعور بالحقارة وأعراضه

وكانت الحرية الكاشفة عن هذه الصفات الكامنة أشبه الأشياء في فعلها بالخمر التي تظهر الصفات الكامنة؛ فإذا كانت في طبع المرء شراسة أظهرتها الخمر إذا سكر، وإذا كان في طبعه إسراف زادته الخمر إسرافاً حتى يكاد السكران يخلع كل ثيابه ويتصدق بها على الناس؛ وإذا كان في طبعه ميل إلى الإجرام دفعته الخمر إلى ارتكاب الكبائر

وليس بين القراء من لم يشاهد مريضاً بداء الشعور بالحقارة، ولكن ذيوع هذا الداء في بيئة يجعله مألوفاً ألفة تفقده الغرابة، فلا يشعر به الإنسان في تلك البيئة إلا إذا بحث عنه وتعمد الفطنة له

وكلما كان المصاب بداء الشعور بالحقارة مفلساً من العلم أو الذكاء كانت لجاجته في جداله وحديثه اعظم، وكان غضبه إذا خولف أشد، وكان ادعاؤه العلم بكل شيء أوفى وأتم ادعاء، وكان حقده على من يخالف رأيه ابعد أثراً وأطول عمرا واعمق مقرا من نفسه، حتى ليكاد يأتي ربه يوم القيامة وأوضح أثر في نفسه حقده على من خالفه في رأيه في الحياة الدنيا. والويل لك إذا عاشرت من اشتد به داء الشعور بالحقارة، فإنك إذا عاونته حقد عليك من اجل فضلك عليه الذي يهيج شعوره بدائه، وإذا لم تعاونه حقد عليك أيضاً من اجل حاجته إليك التي تهيج شعوره بدائه. وكلما كان المصاب بداء الشعور بالحقارة مفلساً من المال ادعى الثروة، وقد يبلغ به داء الشعور بالحقارة منزلة يضن فيها بما معه من المال على عياله كي يظهر في المجالس والنوادي وبين الغرباء، بمظاهر الأريحية والسخاء والثروة. وهو يتلطف، وقد يتذلل لمن يريد أن يقنعه أن صفات الأريحية والسخاء من صفاته وإن لم يكن من طبعه إلا الشراسة والحقد. وهو يحقد على كل من لا يمكنه من الظهور بمظهر التعاظم والأريحية ومن لا يهيئ له السبيل إلى ذلك، وعلى من لا يضحي بكل شيء في سبيل تهيئة وسائل الظهور له، وعبثاً تحاول أن تظفر لدى من اشتد به هذا الداء بوفاء أو ود، وعبثاً تحاول أن تفهمه حقيقة الأمر، فإنه يخادع نفسه حتى يعتقد أنك تحسده على ماله من مظاهر العظمة أو الأريحية أو الذكاء النادر أو على منزلته في قلوب الناس. وفي البيئة التي يذيع فيها داء الشعور بالحقارة يعتقد كل إنسان أنه عظيم الشأن، أو يحاول أن يعتقد هذا المعتقد وأن يحمل الناس على اعتقاده، ويرى أن اكبر جريمة في العالم هي أن يجيد إنسان أو أن يظن أن إنساناً أجاد (وان لم يكن قد أجاد) في عمل أو قول أو جهد أو رأي أو صنع، سواء أكانت الأعمال والأقوال مما يرجى فيه الخير للجميع أو مما فيه خير خاص، وسواء أكان فيها نفع للمريض بداء الشعور بالحقارة أو لم يكن فيها نفع، وهذا الحقد الذي يشعر به هؤلاء قد يخفى نفسه ويظهر بمظهر العبث؛ وقد لا يخفى نفسه. وقد يدعي الغيرة على الخير والفضل، وقد لا يدعي، وهو دائماً كالحيوان في الغابة متحفز للوثوب والظهور إذا أتيحت الفرص، فإذا لم تتح الفرص لم يثب. وكثيراً ما تراه في اوجه أصحابه عبوساً خاصاً ينم عن جنون الحقد، وفي مثل هذه البيئة لا يعد المريض بداء الشعور بالحقارة المشقة مشقة إذا كانت من أجل إحباط عمل زميل أو غير زميل، كأنما تلك البيئة رقعة الشطرنج بين يدي لاعبين ماهرين لا يبقى كل منهما ولا يذر.

ولعل السبب في أن الإنسان في تلك البيئة التي اعتورها ذل طويل ثم حرية لا هم له إلا منع غيره من الظهور (وكلما كان الظهور بالإجادة في صنع أو قول كان الخوف منه أعظم) أقول لعل السبب هو الرجوع بالسريرة وبالنفس إلى عهود ذلك الذل الطويل وطغيان الذين ظهروا في تلك العهود طغياناً سبب ذلك الذل الطويل وسبب داء الشعور بالحقارة؛ وربما ظهر الظاهرون في تلك العهود بقدرة أو إجادة فأصبح المرضى بداء الشعور بالحقارة، حتى بعد تلك العهود القديمة البائدة، يكرهون كل ظهور بقدرة أو إجادة لأن فيه مذلة لأنفسهم

وهؤلاء الناس قد يتعاونون في إظهار من برز بقدرة أو إجادة ولكنهم قلما يفعلون ذلك ألا إذا كانوا يرجون في إظهاره إظهاراً لأنفسهم وإبرازاً لها واكتساباً لأنفسهم شيئاً من الشهرة بالإجادة التي لصاحبهم، أو إذا كانوا يرجون منه أن يعاونهم بقدرته على الظهور وإشباع نهمتهم منه

ويبدو داء الشعور بالحقارة أيضاً بين طائفة الخدم والحشم والرعاع فيحسبون انهم يخفون ما يشعرون به من ضعة منزلتهم الاجتماعية بمحاكاة من هم ارفع منهم منزلة في اللباس أو في فتل الشارب أو في التنحنح أو في الفكاهة أو في التعالي والتعاظم على أصحاب الحاجات وكل من يريد مقابلة مخدوميهم. وإذا كان المخدوم أيضاً مصاباً بداء الشعور بالحقارة ويخفيه بالسفاهة حرت وصرت لا تدري أياخذ الخادم من أخلاق مخدومه أم يأخذ المخدوم من أخلاق خادمه. وكثيراً ما يتخذ كل منهما الآخر نصيراً في خصوماته التي يخلقها من اجل شعوره بالحقارة. والفلاح الذي يغري المجرمين والأشرار بمن لا يحييه وهو جالس على المصطبة ولا يتزلف إليه مثل الموظف الصغير المنزلة أو كبيرها الذي يغري الأشرار ممن لا يتزلف إليه

وهذه الطوائف كلها تجني على الصغار بتأثير قدوتها فيهم. وكثيراً ما يكون سبب إساءة التلميذ أدبه رغبته في حب الظهور الناشئة من هذا الداء. وحب الظهور صفة عامة في النفوس كما قلنا، ولكنها في البيئات المريضة بداء الشعور بالحقارة تتخذ شكلاً وضيعاً خاصاً وهي تكون مصحوبة بالصفات النفسية الوضيعة التي ذكرناها. ومما يدل على أن داء الشعور بالحقارة ينشأ بسبب عصور الغلبة التي تشعر بالذلة والمسكنة أن صفاته تكثر وتشيع بين العبيد وأبناء الأرقاء، أو من كان أجدادهم أرقاء في العصور الغابرة وبين أبناء الشعوب التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة خلقت التواء في الخلق ولؤماً. ولعل هذا الأمر يفسر ما نقرأ في محاكمات قضايا الروسيا من أعمال أبالسة أدنياء كانوا أرقاء أو مغلوبين على أمرهم عصوراً طويلة، فلما نالوا الحرية أظهرت ما كمن في نفوسهم، وهذا سواء أكانت هذه الأعمال قد فعلها من نسبت إليهم أم انهم حملوا على الاعتراف بها كدباً بوسائل جهنمية، ولا ينفي هذا الاستنتاج أن السياسة الدولية وعمالها السريين قد يستبيحون كل جريمة ضرورية وغير ضرورية في تنفيذ أغراض السياسة السرية وملحقات تلك الأغراض.

ومن التلاميذ الصغار من يصاحب أهل الفساد أو المصابين بداء الشعور بالحقارة، فيريد أن يخفي التلميذ شعوره بالنقص أو الفساد الذي لحقه بإساءة أدبه. وكثيراً ما يحاكي الصغار هذه الطوائف حتى من كان منها من الرعاع فيحاكونهم في مشيتهم وإشاراتهم وأقوالهم، ويحسبون أن تلك المحاكاة تكسبهم رجولة وبطولة من غير أن يشعروا أن الرعاع أو منهم اكبر منهم منزلة واعظم علماً من المصابين بداء الشعور بالحقارة يصدرون ويردون في أقوالهم وأعمالهم إشاراتهم وحركاتهم وهم مسيرون لا مخيرون، وانهم في كل هذه الأحوال طوع شعورهم بالحقارة وطوع الرغبة في ستر ذلك الشعور فكأنهم لعب خيال الظل يحركها المحرك من وراء ستار

عبد الرحمن شكري