مجلة الرسالة/العدد 25/أم عربية

مجلة الرسالة/العدد 25/أم عربية

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1933



للآنسة سهير القلماوي. ليسانسييه في الآداب

مكة أرض الله المقدسة في حصار الكعبة بيت الله الحرام يروح فيها الجند ويجيئون. ألوية هنا ورماح هناك، أسلحة وآلات وجنود داخل المدينة، قائدهم رجل في السبعين هو عبد الله بن الزبير خليفة الحجاز. وجنود حول المدينة كفاهم قوة انهم جند الشام، وكفاهم رهبة أن قائدهم شاب في الثلاثين هو الحجاج بن يوسف الثقفي. جو مكة كله هلع والتياع وكأنما كل شيء يوحي إلى أهلها إن استسلموا فالحرب ضروس والموت على الأبواب.

ماجت مكة بكثرة الوافدين عليها ليؤدوا فريضة الحج. ولكن جند الشام لم يترك مكانه، وجند مكة لم يبرح محاصرا لا يستطيع خروجا. لم يستطع الحجاج ولا جنده الطواف بالبيت بل ظلوا محرمين مكانهم لابسين الدروع فوق الإحرام ولم يستطع ابن الزبير الخروج إلى عرفة فنحر هديه في مكة. جاء جند الشام فافسد على الحجاز كل شيء، سلي الأمن أهلها، وشوه شعائر الدين المقامة بها، وبشرها بأفول مجدها السياسي بتحول مركز الخلافة عنها. الشام الفتية جاءت لتضطر الحجاز الهرمة إلى أن تقنع بما يقنع به الهرم من الحياة.

هدأت الحركة في مكة بعض الشيء منذ رجع الحاجون إلى أوطانهم. ولكن نفوس أهلها في حركة وأي حركة، هلع وخوف وقلق. لقد طال بها الحصار وضاقت نفوس أهلها فلا يستطيعون احتمال المزيد، طال الحصار واشتد الضيق، وصعب الامتحان وكلما صعب الامتحان قل عدد الناجحين: كل يوم يسير فوج إلى القائد الشاب طالبا الأمان. التفت الزبير فإذا هو قليل الأعوان قليل العدة، شيخ تربطه بالحياة خيوط واهية. ما مصيره؟ الموت. وما مصير آماله وهي آمال قطر وآلام شعب؟ ألم يكد يتم له الأمر لولا ظهور مروان في الميدان؟ ألم يكن العراق خاضعا له بآلام بعد أن قتل مصعب المختار؟ ولكن مصعبا قتل، وبقتله أفلتت العراق من يد الزبيريين، وغدا سيقتل هو ويفلت الحجاز من يد الزبيريين بعد أن لم يبق بها إلا هو.

(أما والله إنا لا نموت حتف انفنا كميتة آل أبي العاص، وانما نموت فعصا بالرماح وقتلا تحت ظلال السيوف) هكذا خطب الناس بالأمس لما نعى إليه أخوه مصعب. هو لا يخاف الموت، وإنما آمال لا يمثلها إلا هو، آمال كاد أن يصل إليها وما زال يأمل في الوصل إليها، آمال شيعة له في جميع الأقطار العربية، من يقوم بها من بعده؟

خمسون ليلة وأهل مكة يعانون من الحصار كل ضيق. لابد من انفجار، لابد من حدث حاسم، فلقد كادت أن تزهق الأرواح. جند الشام لا يضيرهم استمرار الحصار، ولكن أهل مكة، أهله وشيعته ورعيته يعانون من الأهوال. صمم ابن الزبير على القتال، أبناء حمزة وحبيب لا يزالون معه، فتيان من خيرة الفتيان أحدهما يقود فريق، والآخر يقود الفريق الآخر. وخرج ابن الزبير من بيته في الليلة الخمسين ليلقي على ابنيه تعاليم معركة الغد.

(حمزة!. . حمزة!. . حبيب!. . حبيب!. .)

ولكن أحدا لم يجب. وبدأت الحقيقة تتكشف لناظره الحزين قليلا قليلا، فإذا هي أبشع مما كان يقدر. حمزة وحبيب ابناه تركاه في هذا الضيق! والى أين؟ إلى عدوه، إلى من حاصره، وأذاقه هو وأعوانه كل كرب وضيق. وتلاشت صورة القلة من أل أعوان أمام هذه الخيبة. أي ألم؟ أي يأس؟ أي حسرة؟ لم يعد شيء يرجى.

بينما اليأس يحرق قلب الشيخ حرقا إذا بعروة الزبير يناديه. ماذا يريد منه عروة؟ عروة يناصر عبد الملك وهو في أمان من هذا الحصار وهذا الجند. ماذا يبغي عروة منه في ساعة اليأس هذه. عروة رسول أمل جديد جاء ليعرض عليه الأمان بشروط مرضية. هم يعطونه كل ماله: املاكه، سلامته، حريته التامة، كل شيء إلا الخلافة. وفي ساعة اليأس يرى اليائس بصيص النور ضياء ساطعا وهاجا، ولكن السن أملت عليه التدبر فليترو قليلا وليستشر. ولكن من يستشر؟

في ركن من أركان بيت عبد الله بن الزبير قبعت عجوز في المائة من سنها عجوز لها من تجارب الحياة ذخر ثمين، ولها من الصحة ورجاحة العقل رغم هرمها ما شهرت به، ولكن لها فوق هذا كله منزلة في نفس عبد الله لم يبلغها أحد. هي أمه هي أسماء بنت أبي بكر الصديق. فليستشرها هي.

واقترب الابن من أمه الوالهة التي جثم الحزن على قلبها طويلا. لقد فجعت حديثا في ابنها مصعب بعد أن ملأ ذكره الآفاق، بعد أن استولى على قطر من أهم الأقطار العربية وهو العراق، بعد أن قاتل فقتل في ميدان الجهاد كريما شريفا شهما شهيدا. ولكن حزنها لم يشفع لها لدى الدهر فما زال الدهر يلوح لها بين حين وآخر، يسلب ابنها عبد الله أعز أولادها وأطيرهم ذكرا وأكثرهم جهادا. دنا ابنها منها وسألها:

- كيف تجدينك يا أماه؟

- إني لشاكية

فقال لها وكأنه يحدث نفسه اليائسة:

- إن في الموت راحة. فأجابته:

- لعلك تمنيه لي وما احب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك، إما قتلت فاحتسبك، وإما ظفرت فقرت عيني بك.

صدمه جواب أمه، وكأنما كان جواباً عما أتى يستشيرها فيه، كيف يسألها؟ ولكنها لا تعرف عما عرضوه عليه شيئا، وفي صوت متهدج قال لها:

- أماه لقد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير، ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة. والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا. . فما رأيك؟ وجاشت في صدر الأم عواطف ونوازع شتى كلها تتزاحم فلا يتاح لأحدها فرصة التغلب أو الظهور - حنان، شفقة، خوف، شجاعة، حب لولدها، حب لوطنها، حب لربها وللحق ولرسول الحق ولتعاليم الحق. ظلت كل هذه تتصارع في صدر العجوز صراعا عنيفا، وظلت الأم تعاني آلام هذا الصراع حينا وآلام الهزيمة لكل عاطفة تهزم منها، كل عاطفة جزء منها فصراعها يؤلمها وهزيمتها تكاد تقتلها.

ولكن حميتها العربية انتصرت أخيرا وتغلبت من كل هذه العواطف: العواطف الخلقية بأسماء بنت أبي بكر الصديق.

وفي صوت ملؤه اليقين قالت لولدها:

- أنت اعلم بنفسك، إن كنت تعلم انك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك ولأتمكن من رقبتك غلمان بني أمية، وان كنت إنما ردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك. . كم خلدوك في الدنيا؟ القتل أحسن.

القتل أحسن ولكن ماذا بعد القتل؟ لن يتورع الجبار من ارتكاب شيء، لن يردعه دين ولن يردعه خلق، فقال وكأنما الحقيقة تمثلت له قبل وقوعها.

- أماه! إني أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي

ورفعت ستر المستقبل المغيب عن عين الأم فرأت ابنها مصلوبا، وتمثل لها ما سيلاقيه المصلوب من احتقار وتشهير وضحك واستهزاء، ولكن الحق. الحق وروح من سفكت دماؤهم في سبيله أملت عليها الجواب

- الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ. فامض على بصيرتك واستعن بالله.

سرت روح الأم إلى ابنها فقشعت من صدره كل يأس وكل خوف، وظلت كلماتها تتردد في نفسه كوجيب قلبه، القتل أحسن، القتل أحسن، حلت الشجاعة محل اليأس، وحل جلال الحق محل الخوف من الموت والمثلة. لم يعد يألم لشيء إلا لتلك الثكلى التي ستفقده بعد فقد أخيه بالأمس.

- أماه إني مقتول يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، إن ابنك لم يتعهد إيثار كفر ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في امان، ولم يتعهد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم من عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء عندي آثر من رضى ربي.

ثم رفع رأسه إلى السماء قائلا:

- اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكن أقول تعزية لأمي حتى تسلو عني

خيم الصمت على الأم وولدها وقد أحست أنها ستراه لآخر مرة كما أحس هو بذلك. وترقرق الدمع حارا ملتهبا في عين العجوز. الدمع الذي ظل محتبسا من أهوال الأيام الأخيرة انفجر في الموقف الذي يجل عن كل دمع.

بدأ ابنها يحس شيئا من الإحجام بعد أن صمم على القتال والاستشهاد، وخاف أن يستولي عليه هذا الشعور إن لم يسرع بتنفيذ ما صمم عليه. وكأن الأم ما زالت بروحها تدفعه إلى الاستشهاد كما حضته بقولها منذ قليل فأسرع نحو الباب بعد أن قبلها قائلا

- (أماه لا تدعي الدعاء لي)

- (لا ادعه لك أبدا) وكأنها تريد أن تذكره فقالت

- (فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق) خرج ابن الزبير من عند أمه فإذا الفجر لاح والمؤذن يدعو إلى الصلاة فليذهب إلى المسجد إذن، عسى أن يبعث الله إلى القلب طمأنينة يجتاز بها قلاقل اليوم

صلى ابن الزبير صلاة حارة أرسل بها إلى ربه ما وسعه من الشكوى، وما استطاع من الرجاء، وأحس بان روحا من العالم الأعلى حلت في نفسه من جديد، فلم يعد شيخا ضعيفا بل أصبح شابا مندفعا في ميدان الاستشهاد.

ظل ابن الزبير بعد الصلاة في المسجد طويلا ترن كلمات أمه في أذنه حينا، ويصلي إلى ربه حينا آخر فيقول:

يا رب إن جنود الشام قد كثروا ... وهتكوا من حجاب البيت أستارا

يا رب إني ضعيف الركن مضطهد ... فابعث إلي جنودا منك أنصارا

لم يطل الزمن بابن الزبير حتى هاجمه جند الشام من كل فوج. لاذ بأستار الكعبة ملاذه وملاذ غيره من قبل، ولكن الحجاج لا يردعه عن غايته رادع مهما عظم، فرمى الكعبة بالمجانيق وحميت المعركة الفاصلة لا بين المؤمنين والمشركين وإنما بين المؤمنين يمثل كل فريق منهم رأياً جديداً وسياسة جديدة. كانت معركة بين سياسة الشام الفتية، وسياسة الحجاز الهرمة، بين الخلافة كما كانت، وبين الخلافة كما تكون، بين النظم السياسية القديمة، وبين النظم السياسية الحديثة، هي معركة القديم والحديث يكررها التاريخ فلا يمل من تكرارها. معركة القديم والحديث، هل يفوز بها إلا الحديث.