مجلة الرسالة/العدد 25/الأحنف بن قيس

مجلة الرسالة/العدد 25/الأحنف بن قيس

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1933


للأستاذ احمد أمين

ضئيل الجسم، صغير الرأس، متراكب الأسنان، مائل الذقن، ناتئ الوجنة، غائر العينين، خفيف العارضين، أحنف الرِّجل، ليست خصلة تدل على قبح المنظر إلا وهو آخذ منها بحظ، تنبو عن مرآة الإحداق، وتتفادى من شخصه الأبصار، وهو مع هذا سيد قومه، سيد تميم، وهي ما هي في العظمة، إن غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب. خطير النفس، بعيد المرمى، ما زال يسود حتى بلغ مرتبة لا يسمو إليها أمل، ومنزلة لا يتعلق بها درك، إذا أوفد وال وفداً إلى خليفة فالأحنف أحد الوفد أو رئيسه وخطيبه، وإذا اختلف الأمراء على الخلافة فالأحنف من أول من يفكرون في اصطناعه، وإذا حزب الأمر، وعظم الخطب، فالأحنف من يفزع إليه في المشورة. دوى اسمه بين المسلمين في الأحداث الأولى للإسلام، وخرج منها على كثرتها وتعقدها واضطراب الأهواء فيها، نقي السيرة، يقر بعظمته من كان له ومن كان عليه، وظل اسمه علما رفيعا في نواح مختلفة على مر الأزمان، إن أُرِّخت الحروب الإسلامية فأحد قادتها وغزاتها، وإن ذكرت الأخلاق فأحد أشرافها ونبلائها، وان أرخ الأدب والخطب والحكم والأمثال فهو ابن بجدتها.

ولد قبل الإسلام ولكن لم ينل شرف الصحبة لرسول الله (، ووقف من أول أمره وهو فتى موقفا يدل على قوة عقله وصدق نظره، فان رسول الله (أرسل رجلا إلى بني سعد رهط الأحنف فجعل يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف لقومه: إنه يدعو إلى خير، ويأمر بخير، فلم لا نجيب دعوته، وسرعان ما ساد تميما وهي قبيلة من أعز القبائل وأقواها وأشرفها، كانت تسكن مساحة كبيرة من جزيرة العرب تشمل نجداً وجزءاً من البحرين وجزءاً من اليمامة، وانقسمت تميم لكثرتها إلى فروع كثيرة كانت تتعادى أحيانا وتتحالف أحيانا، ولذلك لم يكن عجيباً أن يتهاجى الفرزدق وجرير شر هجاء، وكلاهما من تميم، ولكنهما من فرعين مختلفين. حاربت تميم نفسها ومن حولها في الجاهلية، وشغلت حروبها أياما كثيرة من أيام العرب. وكان لتميم راية في الحروب خاصة على صورة العقاب، كما كانت راية بني أسد على صورة الأسد، ثم أسلمت وحسن إسلامها، ولكنها ارتدت أيام الردة إلى أن ردها خالد ابن الوليد إلى الطاعة، وكفرت عن ردتها بما بذلت من جهود في الفتوح، حتى إذا تم الفتح سكن بعضها الكوفة وبعضها البصرة، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة. وقد ظلت تميم في الإسلام وفيها من ألوان البداوة، ومن هذا النوع من البداوة ما بدا من نزعتهم الخارجية، فقد كثر الخوارج من تميم، وكان قطرىّ بن الفُجاءة وكثير ممن تبعه من الازارقة من قبيلة تميم.

وأنجبت تميم كثيرا من نوابغ الشعراء لا يعنوننا الآن، كما أنجبت كثيراً من السادة والأشراف والعظماء، وكانوا سلسلة كسلسلة الذهب متصلة الحلقات يتعلم بعضهم من بعض خلق السيادة كما يتعلم العلم على الأساتذة، وكان أستاذ الأحنف ابن قيس في السيادة (قيس بن عاصم) المنقري التميمي الذي قال فيه رسول الله (لما رآه (هذا سيد أهل الوتر) وقد قيل لقيس هذا: صف نفسك، فقال أما في الجاهلية فما هممت بملأمة، ولاحُمتُ على تُهمة، ولم أر إلا في خيل مغيرة أو نادي عشيرة، أو حامي جريرة، وأما في الإسلام فقد قال الله تعالى (ولا تزكوا أنفسكم) وقد نزل في البصرة كتلميذه الأحنف، وتعلم الأحنف من الحلم، ولما مات قال فيه القائل:

عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما

وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدَّما

خلف الأحنف قيسا في السيادة، وكان أبو موسى الاشعري واليا على البصرة فبعث بوفد منها إلى عمر بن الخطاب فكان الأحنف أحدهم وخطب بين يدي عمر يسترعيه النظر لأهل البصرة. فاعجب به عمر وقال (هذا والله السيد!) فدوت هذه الكلمة في الأنحاء.

أكثر الواصفون في ذكر الأحنف ومزاياه وسيادته، والسيادة أنواع، وقد ترى لكل سيد طعماً لا تجده في سيد آخر، ولكل سيد نقطة تتركز فيها عظمته قد لا يشترك فيها سيد آخر، فسيدٌ عظمته في شجاعته، وسيد عظمته في سخائه وسيد عظمته في قول الحق يجهر به والسيف على رأسه، فان نحن سئلنا عن مركز العظمة في الأحنف، فعظمته كانت تتركز في خصلتين تتصل إحداهما بالأخرى اتصالا وثيقا: انه منح نظرا صائبا يتعرف به المحاسن والمساوئ، ومعالي الأمور وسفسافها، وقلَّ أن يخطئ في ذلك، ثم منح إلى ذلك إرادة قوية يحمل بها نفسه على ما أدرك من معال ومحاسن مهما كلفه من مشقة وحمله من جهد، فلو علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه؛ وهي (كما ترى) نقطة ارتكاز يحمل فوقها كثير من الفضائل، على حين أن نقطة الارتكاز عند كثير من السادة لا تتحمل إلا فضيلة واحدة.

وهذا يفسر كل ما روي عن الأحنف، كان لا يعبأ بالمال، وكان لا يعبأ بالحياة، وكان يفر من الشرف والشرف يتبعه، وكان يخضع للحق إذا لزمه خضوع الذليل المستخدي، وإذا كان الحق بجانبه دافع عنه دفاع المستأسد الضاري، يقف أمام علي وأمام معاوية وأمام زياد بن أبيه فيجهر بالحق الصريح من غير مجمجمة ولا مواربة ولا يبالي ما بعده.

تولى في زمن عمر بن الخطاب فتح خراسان فدوخ الفرس وملكهم يزدجرد ولقي من الحروب ما تشيب من هوله الولدان، ولكنه صبر وظفر، وأنجد ملك الفرس الترك وأهل فرغانة والصغد فلم يكن فيهم أمام الأحنف وجنده غناء.

ووقف الأحنف العربي البدوي وليد الصحراء في شملته يطارد يزدجرد المتوج ربيب النعمة، وعصارة المدنية، وسليل الأكاسرة، ونتاج الحروب المنظمة بين فارس والروم، في العدد والعديد، والجنود والبنود، فظفر التميمي بسيد فارس وطارده حيثما حل حتى جاوز حدود بلاده وخرج منها لا إلى رجعة، (وأقبل أهل فارس - كما يقول ابن الأثير - على الأحنف فصافحوه ودفعوا إليه الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل ما كانوا عليه زمن الأكاسرة، واغتبطوا بملك المسلمين)

فلما نشبت الحرب بين علي ومعاوية رأى الحق في جانب علي فانضم إليه بقومه، وأعان عليا بسيفه ورأيه، فاشترك معه في حرب صفين ونصحه إلا يكون أبو موسى الاشعري حكما، وظل مخلصاً له العمل والقول حتى قتل علي. ودانت البلاد لمعاوية فأطاع معاوية في شمم وإباء، فقد دخل عليه يوما فقال له معاوية: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين، فقال له يا معاوية لا تذكر ما مضى منا، ولا ترد الأمور على أدبارها، فان السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا. والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمد إلينا شبراً من غدر إلا مددنا إليك ذراعا من ختر، وان شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو من عفوك. فقال له معاوية فإني أفعل، ثم استرضاه ومن معه.

ولما أراد معاوية أن يبايع لأبنه يزيد أخذ الناس يتكلمون مدح يزيد والثناء عليه، ويمدحون معاوية على عمله والأحنف ساكت، فقال له معاوية، مالك لا تتكلم يا أبا بحر وكانت كنيته فقال قولته المشهورة: (أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت) فكانت كنايته أبلغ من التصريح.

ويظهر أنه بعد أن قتل علي رأى من المصلحة للمسلمين أن يشايع الأمويين، فان هذا أقرب إلى الوحدة وأدعى إلى الألفة حتى مع ما هم فيه من ظلم أحيانا وطغيان أحيانا، يدل على ذلك تاريخه وقوله فقد استنصر به الحسن بن علي علىمعاوية فلم يجبه وقال (قد بلونا حسنا وآل حسن فلم نجد عندهم ايالة الملك ولا مكيدة الحرب) وكان بينه وبين عبد الله بن الزبير جفاء. فلم يشايعه في الخروج. ورأيناه ينصح قوما من تميم أرادوا أن ينضموا إلى ابن الزبير إلا يفعلوا.

ولكنه كان يطيع الأمويين وولاتهم طاعة الحازم العاقل، ينقدهم فيما يرى ويمحضهم النصح في صدق وإخلاص، وله كموقف مع زياد من خير المواقف أثراً في تاريخ الإسلام، فقد هم زياد أن يقتل الموالي لكثرتهم ومزاحمتهم العرب فاستشار الأحنف فقال، إن ذلك ليس لك، إن رسول الله (لم يقتل من الناس من قال لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله وانهم غلة الناس، وهم الذين يقيمون أسواق المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصابين وقصارين وحجامين؟ فأذعن زياد لرأيه ونزل على إشارته، ويقول الأحنف انه ما بات ليلة أطول منها خشية أن ينفذ زياد فكرته.

ووقف في البصرة موقفا بديعا يصلح بين القبائل المختلفة المتعادية من الازد وبكر وعبد القيس، ويبذل من ماله ديات لما يقع من القتل حتى يلتئم صدعهم ويجتمع شملهم ويعيشوا في البصرة عيشة هادئة مطمئنة.

لقد عابوا عليه انه ذُكر أمامه الزبير بن العوام عندما ترك القتال يوم الجمل ومر ببني تميم فعابه الأحنف وقال جمع الزبيريين الناس يقتل بعضهم بعضا ويريد أن ينجو إلى أهله! فتبعه رجل سمع هذا القول فقتله، فقال الناس إن الأحنف قتل الزيبر بكلامه.

كما عابوه بأنه كان سميعا مطيعا لجاريته (زبراء) حتى كان الناس يكنون عن وقوع الحرب بقولهم (غضبت زبراء) لأنها إذا غضبت غضب الأحنف، وإذا غضب الأحنف شرعت الأسنة وانتضيت السيوف.

ولكن أي عظيم لا يعاب؟ وكفى الأحنف نبلا أن كانت عيوبه من هذا القبيل لا تخدش شرفا ولا تجرح عرضا

وللأحنف ناحية أخرى بديعة هي ناحية أدبية غزيرة أمدت كتب الأدب العربي بغذاء صالح قوي، هو ما روي عنه من جُمل حكيمة جمعت إلى حسن اللفظ وقوته، جودة المعنى وصحته، ونضحت عليها صفات الأحنف النبيلة الشريفة وكانت خلاصة لحياة حافلة بالتجارب. كانت هذه التجارب والمعاني في دماغ ارسطو اليوناني الفيلسوف فصاغها صياغة علم وفلسفة، وكانت في دماغ الأحنف بن قيس العربي البدوي فصاغها في شكل حكم وأمثال وجمل موجزة، تحمل معاني

غزيرة، فكان لكل مزايا منهجه في النظر ومنهجه في القول

لقد وصل الأحنف في الإسلام ما بدأ به أكثم بن صيفي من الحكم في الجاهلية، وزاده الإسلام غزارة وفيضا، وكانت حياته العملية من حروب واتصال بالسلطان والولاة وخبرة بالناس ونزاعهم وأنظارهم، وسيادته وكثرة سؤال الناس له عما سوده مددا صالحا يستقي منها حكمه وأقواله، من مثل قوله: (انصف من نفسك قبل أن يُنتصف منك، ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة، شريف من دنئ، وبر من فاجر، وحليم من أحمق. لا خير في قول إلا بعقل، ولا في منظر إلا بمخبر، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في حياة إلا بصحة وأمن ومن حق الصديق أن تحتمل له ثلاثاً: ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة، الخ وله أقوال في الولاة وفي الصداقة وفي السؤدد وفي مكارم الأخلاق ملئت بها كتب الأدب، تدل على صدق نظر، وصحة التجربة، وقدرة على صياغة ذلك في جمل رصينة

من أجل هذا كله نال عند الناس منزلة قل أن يطمع فيها طامع، يعجب الناس بعقله حتى يقول سفيان: ما وزن عقل الأحنف بعقل أحد إلا وزنه، ويعجبون بسيادته وهيبته حتى يقول القائل:

إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ... ظللن مهابة منه خشوعا

فلله الأحنف قائدا في الحروب لا يبارى، ولله الأحنف سيدا في قومه مطاعا، ولله الأحنف حكيما مجربا، ولله الأحنف بليغا مفوها، ولله السعدية إذ رثته فقالت: (نسأل الله الذي ابتلانا بموتك، وفجعنا بفقدك أن يوسع لك في قبرك، وأن يغفر لك يوم حشرك، فلقد عشت مودوداً حميدا، ومت سعيداً فقيدا، ولقد كنت رفيع العماد، وارى الزناد، ولقد كنت في المحافل شريفا، وعلى الأرامل عطوفا، ومن الناس قريباً، وفيهم غريبا، وإن كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين. رحمنا الله وإياك.)

لقد عمر طويلا ومات سنة 69 هـ ودفن بالكوفة فرحمة الله عليه.