مجلة الرسالة/العدد 25/التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟

مجلة الرسالة/العدد 25/التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟

مجلة الرسالة - العدد 25
التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1933



بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين

على الرغم من انتشار الحضارة في مدن الغرب والشرق وتأصل المدنية والمعرفة فيهما منذ عشرات السنين فلا يزال الكثيرون في بعض مناحي تفكيرهم واعتقاداتهم مقيدين بأغلال خرافية يؤمنونبالتفاؤل والتشاؤم على نفس النمط الذي كان يعتقد به من عاشوا في عصور ما قبل التاريخ وبعده.

ما اعجب هذا الإنسان. .! خضعت له عناصر الطبيعة وطمأنت من كبريائها أمام جبروته، ودفع بسفينته إلى المحيطات الثائرة تشق عبابها آمنة لا تهاب غدرها، وبعقله الجبار دانت له العلوم وتفتحت الأسرار، ومع ذلك ما زال هذا الإنسان على ما بلغ منسيادة ومدنية وحضارة وثقافة يستمسك ببعض الأوهام الخرافية التي استمسك بها أسلافه وقد كانوا اقل منه حضارة وتعلما واستنارة، وسيظل عبدا لها مهما قرأ وتثقف.

إن الحضارة لن تقضي على الخرافات مطلقا، وكل ما هنالك أن الناس يستبدلون خرافة بخرافة تحت ضغط المدنية، ولكنالأساس واحد والأصل لا يتغير.

من العجب أن الغربيين يعتقدون أن الشرق (مهد الخرافة) وان أهله هم اكثر الشعوب تعلقا بالخرافات وإيمانا بها، ويعزون هذا التعلق وذاك الإيمان إلا أن هؤلاء لا يزالون في ضلالات الجهل. ومعنى ذلك أن الغرب بما وصل إليه من الحضارة ورقي العلم والأدب قد تجرد عن مثل هذه الأوهام، ولكن الواقع غير ذلك فما زال قوم منهم من أرقى الطبقات يعتقدون أحط الخرافات التي لا تقوم على أساس علمي.

ولئن صدق هؤلاء المتقولون وانتحلوا للشرقيين عذرا من الجهل فماذا يقولون عن أنفسهم وهم الذين يدعون سيادة الشرق استنارة وحضارة. . .؟!

فقد سألت إدارة إحدى كليات المعلمين لمقاطعة (ونكونسن) الأمريكية 488 طالبا أن يذكروا الخرافات التي يعرفونها والتي سمعوا بها، فأجمعت ردود الطلبة على خرافات بلغت زهاء 1225 خرافة.

وهناك في الغرب طائفة من الكتب بمختلف اللغات مقصورة على البحث في الخرافات والمعتقدات المختلفة.

يقول الدكتور كلارك ويسلر وهو من العلماء العاملين في متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك: (يظهر أن المدنية وقد درجت وتطورت من مهد الجهالة لا زالت ذات صلة بطريقة التفكير التي تسيطر على العقول البدوية في الجاهلية الأولى، فالسحر والخرافات يلعبان الى الآن دورا كبيرا في الحياة العصرية).

ويقول أحد علماء النفس من الفرنسيين: (إن الخرافات لم تنج منها أمة في الزمن الغابر ولا في العصر الحاضر وإن تأصل عادة التفاؤل أو قلة ظهورها لا علاقة لها بحالة الشعوب ومبلغ رقيها وتقدمها في الحضارة.)

ووجه الدكتور ا. باودن مدير كلية المعلمين بولاية (مكسيكو) الجديدة بالولايات المتحدة وأحد كبار علماء النفس الأمريكيين سؤالا إلى جمهرة من الناس ولفيف من المعلمين هذا نصه:

إذا كنت ذا تعلم جيد وصحة طيبة تشتغل بجد وضميرك مرتاح. . . أتظن أن هناك قوة تحيد بك عن سوى الصراط وتميل بك قسرا إلى تغيير سبيلك المرسوم؟) فكانت إجابة 77 في المائة من تلك الجمهرة من الناس (نعم) و 62 في المائة من المعلمين.

فزهاء ثلثي الأمريكيين تقريبا من المعلمين يؤمنون بالتفاؤل والتشاؤم.

إن للبيئة والإقليم والدين شيئا من التأثير في الطباع وفي الأجسام، ولكن التأثير الأعظم للوراثة.

للخرافات الشائعة أصول تتفق وعقلية الإنسان الأول، وسبيلنا إلى فهمها أن نعرف أحوال المتوحشين الآن وعقائدهم وكيفية تعليلهم للأشياء والحوادث، لأن المشابهة تكاد تكون تامة بين المتوحش الذي يعيش الآن في أواسط أفريقيا واستراليا، وبين الإنسان الأول، بل يمكننا أن نقول إن المتوحشين هو أسلافنا المعاصرون الآن.

إن معظم الخرافات التي ترجع إلى التفاؤل والتشاؤم ليست كلها ناشئة عن أسباب تاريخية وحوادث وقعت في الأزمنة الماضية، فكم من خرافات عاشت دهورا بلا سبب، ويرجع هذا إلى ما جبل عليه الإنسان من سرعة تصديقه بكل ما يسمعه.

لا تجد أمة تخلو من اعتقادات خرافية راسخة في عقول أهلها ولكن بعض الخرافات تكاد تكون شائعة بين معظم الشعوب، وقد جمعنا في هذا المقال من أوثق المصادر طائفة من الخرافات الكثيرة الشيوع مع تعليل اصلها وفقا لآراء الباحثين.

البوم

أول ما يلفت النظر من الخرافات هو البوم، فمعظم الناس يتشاءمون منه، ويقولون إن رؤيته تجلب المصائب وتجر النوائب، فهو طائر الشؤم وناعي الخراب، وان الأوربيون يتشاءمون من صوت البوم ويتطيرون منه أيضا. فالمشهور عنه انه يتخذ الأماكن الخربة المهجورة والمحال المظلمة مأوى له، ولذلك قرنت في ذهن الإنسان صورة الخراب مع البوم، ومن هنا نشأ التشاؤم، وهو يقيم في الأماكن الخربة ليأكل ما يجده من الفيران والجرذان والحشرات والبعوض وغيرها.

إن البوم غالبا يعشش في أجواف الأشجار، ولكن بعضها يعشش بين الصخور وعلى الرمال وفي البيوت الخربة ومن ذلك قول بعضهم:

يا قصر جمع فيك الشؤم واللؤم ... متى يعشش في أركانك البوم

ومن أنواع البوم الهامة وهي مشهورة في قصص العرب؛ والصدى وهو الوارد في قول توبة:

ولو أن ليلى الاخيلية سلمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح

وقد جاء في كتاب سراج الملوك إن عبد الملك بن مروان أرق ليلة فاستدعى سميراً له يحدثه، فكان فيما حدثه به أن قال يا أمير المؤمنين (كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها، فقالت بومة البصرة: لا افعل حتى تجعل لي صداقها مائة ضيعة خراب، فقالت بومة الموصل: لا اقدر على ذلك الآن ولكن إن دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة فعلت لك ذلك.)

الغراب

ومن الخرافات الشائعة التشاؤم من الغراب، ويعرف في الشام بالزاغ والقاق، وفي العراق بالزاغ والغراب.

وكان الرومانيون يقولون: إذا طار الغراب عن يسار إنسان أنبأ بالشر وجلبه عليه. وانه يسبق المقاتلين إلى ساحة الوغى ينتظر وقوع القتلى. وإذا طار فوق بيت فلا بد أن يموت أحد فيه. وإذا وقع به أذى انتقم ممن آذاه ولو بعد موته. وكثيرون من الإنجليز يعتقدون أن نجاحهم في الدنيا نتج عن حمايتهم لغراب عشش في بستانهم، وانه إذا قتل قصدا فلا بد أن يموت أحد من الأسرة على اثر ذلك. ويقول أهالي اسوج إن الغربان التي تنعق في المستنقعات ليلا هي أرواح القتلى الذين قتلوا غيلة، ولذلك حمي الغراب من الأذى في كثير من البلدان الشمالية.

وكان العرب يتشاءمون من الغراب، قال أبو الفرج المعافى ابن زكريا في كتاب الجليس والأنيس: (كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسن فجئنا على العادة فجلسنا عند بابه وإذا إعرابي جالس كانت له حاجة فوقع غراب على نخلة في الدار فنعب ثم طار، فقال الإعرابي: إن هذا الغراب يقول أن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام، قال فزجرناه فقام وانصرف ثم خرج الأذن من القاضي إلينا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتماً، فقلنا له مالخبر؟ قال رأيت البارحة في النوم شخصاً يقول:

منازل عباد بن زيد ... على أهليك والنعم السلام

وقد ضاق صدري لذلك. فدعونا له وانصرفنا، فلما كان في اليوم السابع من ذلك اليوم دفن)

قال القاضي أبو الطيب الطبري: سمعت هذه الحكاية من لفظ شيخنا أبي الفرج المذكور.

وقال يعقوب بن السكيت: (كان أمية بن أبي الصلت وهو شاعر مسيحي مشهور من فحول شعراء الجاهلية، في بعض الأيام يشرب، فجاء غراب فنعب نعبة، فقال له أمية: بفيك التراب! ثم نعب أخرى فقال له أمية: بفيك التراب! ثم اقبل على أصحابه وقال: أتدرون ما يقول هذا الغراب؟ زعم أني اشرب هذه الكأس فأموت، وأمارة ذلك انه يذهب إلى هذا الكوم فيبتلع عظما فيموت. قال فذهب الغراب إلى الكوم فابتلع عظما فمات، ثم شرب أمية الكأس فمات من حينه)، وهذه الحكاية من أقاصيص العرب.

والتشاؤم من الغراب ربما يرجع إلى سواده، والسواد رمز للحزن حتى أن العرب يسمون السود منهم (أغربة العرب) مثل عنترة وغيره؛ ويقول محيط المحيط: إن الحاتم أي الغراب الأسود سمي كذلك لأنه يحتم بالفراق في اعتقاد العيافة، وزاد على ذلك قوله: إن الغراب سمي غراب البين لأنه إذا بان أهل الدار للنجعة وقع في موضع بيوتهم فتشاءموا به وتطيروا منه، فقالوا في المثل أشأم من الغراب إذ كان لا ينزل منازلهم إلا إذا بانوا (أي بعدوا) عنها. وربما يرجع أيضا إلى علاقة لفظية بين اسمه وبين الغربة والغراب أي النزوح عن الوطن والأهل والأحباب.

وعلل الجاحظ تطير العرب من الغراب في كتاب الحيوان فقال: (وأصل التطير إنما كان من الطير إذا مر بارحا أو سانحا (أي عن اليمين أو عن اليسار) ورآه المتطير يتفلى أو ينتف ثم صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم أو الأعضب أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيروا كما تطيروا من الطير، فكان زجر الطير هو الأصل اشتقوا منه التطير ثم استعملوا ذلك في كل شيء، والغراب لسواده إن كان اسود، ولاختلاف لونه إن كان أبقع، ولأنه غريب يقطع إليهم، ولأنه لا يوجد في موضع خيامهم يتقمم إلا عند مباينتهم لمساكنهم ومزايلتهم لدورهم، ولأنه ليس من شيء من الطير اشد على ذوات الدبر من ابلهم من الغربان؛ ولأنه حديد البصر قالوا عند خوفهم من عينيه الأعور، كما قالوا غراب لاغترابه وغراب أبي لأنه عند بينونتهم يوجد في دورهم.

وقال ولإيمان العرب بباب الطيرة عقدوا الرتائم وعشروا (أي نهقوا عشر مرات) إذا دخلوا القرى تعشير الحمار. والغراب اكثر من جميع ما يطير به في باب الشؤم. لكنهم لم يكونوا في ذلك سواء، بل نفى بعضهم التطير، قال سلامة بن جندل:

ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشؤوم

وقال غيره:

يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يثنك الحادي ولا الشاحج

بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره ذائج

إبراهيم تادرس بشاي