مجلة الرسالة/العدد 25/رمضان

مجلة الرسالة/العدد 25/رمضان

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1933


نعم رمضان! ولا بد من رمضان بعد أحد عشر شهراً قضاها المرء في جهاد العيش، مستكلِب النفس، مستأسِد الهوى، متنمر الشهوة، ليوقظ رواقد الخير في قلبه، ويرهف أحاسيس البِر في شعوره، ويُرجع روحه إلى منبعها الأزلي الأقدس فتبرأ من أوزار الحياة، وتطهر من أوضار المادة، وتتزود من قوى الجمال والحق ما يُمسكها العامَ كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس.

فرمضان رياضة للنفس بالتجرد، وثقافة للروح بالتأمل، وتوثيق لما وَهى بين القلب والدين، وتقريب لما بعد بين الرأفة والمسكين، وتأليف لما نفر من الشمل الجميع، وتنديةٌ لما يبس من الرحم القريبة، ونفحة من نفحات السماء تفعِم دنيا المسلمين بعبير الخلد وأنفاس الملائكة!

ورمضان كله عيد وطني شامل، تفيض بالسرور أنهاره، وتغرق في النور لياليه، وتفتَرُ بالأنس مجالسه. فالرجال يحيون أماسيه في محافل القرآن أو منازل اللهو النزيهة، والنساء يوزعن الوداد والأنس على الأبهاء الكثيرة، والأطفال الهازجون يزينون الطرقات بفوانيسهم الملونة الصغيرة، والبيوت الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات، والمآذن الحالية بالمصابيح، الشادية بالتسابيح، ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته!

وكل شيء في رمضان جذلان مغتبط، ما عدا الرومي في الحان، والشيطان في كل مكان!

ورمضان مظهر قومي رائع، يعيد إلى القاهرة عز القرون المواضي، فيصبغ لونها الاوربي الحائل بصبغة الشرق الجميلة، ويرفع صوتها الخافت بشعائر الصوم الجليلة، ويبرز شخصيتها الضائعة في زحمة الاجانب بالمظاهر الرسمية للحكومة، والتقاليد العرفية للشعب. وما أروع القاهرة في سكتتها عند الإفطار، وجلبتها عند السحور، وهزتها ساعة انطلاق المدفع!

ورمضان بعد ذلك كله رباط اجتماعي وثيق، يؤكد أسباب المودة بين أعضاء الأسرة بالتواصل والتعاطف، وبين أفراد الأمة بالتزاور والتآلف، وبين أهل الملة بذلك الشعور السامي الذي يغمرهم في جميع بقاع الأرض بأنهم يسيرون إلى غاية الوجود قافلة واحدة، ممتزجة الروح، متحدة العقيدة، متفقة الفكرة، متشابهة النظام، متماثلة المعيشة.

ولكن رمضاننا الأول واأسفاه لم يخفَّ على طبع المدينة الحديثة! فرمته بقلة الإنتاج وكثرة الإهلاك وشل الحركة وقتل الصحة، ونفته إلى إحياء العمال وقرى الفلاحين، واتخذت لنفسها من بقاياه رمضان آخر رقيق الدين، خفيف الظل، باريسي الشمائل، يبيح النظرة المريبة والكلمة العارية والأكلة الدسمة والسيجار الغليظ، ولا يسألهم من ظرفه إلا إن يجعلوا العشاء عند الغروب وبعد طلقة المدفع! وإذا كان في بيوت المحافظين قارئ يقرأ القرآن، وذاكر يذكر الله، فليكن في بيوت المتجددين (راديو) يرجِّع أصوات الغناء، وحاك يردد أهازيج الرقص!

وهكذا تُجِدُّ الليالي ونحن نلعب! كأنما كتب علينا أن نأخذ الحياة من جانبها الفضولي العابث فنتأثر بها ولا نؤثر فيها، وكأنما همنا ان نعيش صعاليك على تقاليد الامم دون أن تميزنا خصيصة من قومية، ولا شعيرة من عقيدة! وكأنما الشعائر التلمودية القاسية عاقت اليهود عن المغامرة والنبوغ والتقدم!

أما رمضان القرية فلا يزال يحل من أهلها محل النور من العين والمهجة من القلب! تجسمت في خواطرهم صورته حتى جعلوه رجلا له حياته وعمره وأجله. . يذكرونه على شهرين من مقدمه. فيحسبون حسابه! ويهيئون أسبابه، حتى إذا دب إليهم من غيوب الآباد دبيب الهرم سُلسِلت الشياطين، وأُرسِلت الأملاك. وهبطت الأرواح، ودرَّت أخلاف الخير، واغدودقت أصول النعم! هنالك يملك القرية شعور تقي هادئ خاشع، فلا تعود تسمع لغواً في حديث، ولا عنفاً في جدل، ولا بغيا في خصومة! فإذا أذهل أحدهم الغضب فرفع صوته ندم عجلان واستغفر ثم قال: اللهم إني صائم! ذلك لأن رمضان يُرجع الفلاح نقيا كقطرة المُزن، طاهراً كفطرة الوليد، فلا يقتل ولا يسرق ولا يشهد الزور ولا يقول الهُجر ولا يأتي المنكر. وما أجمل أن ترى فاتك الأمس ناسك اليوم! يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وئيد الخطو، غضيض الطرف، ولا تترك المسبحة يده، ولا يفتر عن التسبيح لسانه، فإذا قابل القروية الجميلة وعلى رأسها الجرة، اتحد جمالها في نظره، بجمال الخير في نفسه، فأمعن في التسبيح واستغرق في الله، لأن إبليس في رمضان سجين، وباب الغواية مغلق!

يقضون صدر النهار في تصريف أمور العيش، ثم يجلسون على المصاطب في أشعة الأصيل الفاترة يستمعون القصص أو الوعظ. حتى إذا تضيَّفت الشمس جلسوا في الطريق أمام بيوتهم فمدوا الموائد على الأرض، ودعوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدقة، ثم لا يلبث الأخاء المحض أن يجعل الموائد المتعددة مائدة واحدة، يصيب منها من يشاء ما يشاء!

أما ليلهم فاستماع للقرآن، واستقبال للإخوان، ومسامرة مشتركة ساذجة تجمع أفنانا شتى من شهي الحديث، وكلما انقضى نهار من رمضان تَغَضَّن سرار من وجوه القوم، حتى إذا لم يبق إلا الأربعة الأخيرة تمثلوه محتضرا يكابد غصص الموت، فندبوه في البيوت والمساجد، ورثوه على السطوح والمآذن، وبكوه يوم (الجمعة اليتيمة) أحرَّ بكاء.

فإذا كان المغرب الأخير ولم يبق من رمضان إلا بقية روح، خامرهم الخوف من انطلاق الشياطين السجينة، فجلس الصبيان على أبواب الغرف يكررون البسملة ويضربون حديدا بحديد، ليحفظوا البيت من دخول شيطان مَريد!

ذلك رمضان كما تدركه الفِطر السليمة والقلوب المؤمنة، وهو وحده الباقي لفلاحنا من غفلات العيش ولحظات السعادة! ولكن وا أسفاه! لقد أفسدت الأزمنة رمضان القرية، كما أفسدت المدنية رمضان المدينة!

احمد حسن الزيات