مجلة الرسالة/العدد 25/من الأدب الغربي

مجلة الرسالة/العدد 25/من الأدب الغربي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1933



الشعر

محاضرة للشاعر الكبير (بول فاليري). عضو المجمع

الفرنسي

مترجمة بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي

(منذ أسابيع عرض الدكتور طه حسين على صفحات هذه المجلة لرأي (فاليري) في الشعر، ومنذ أسبوع حاضر فيه جمهرة حاشدة من سامعيه، ونحن ننتهز هذه المناسبة لترجمة محاضرة للشاعر الفرنسي عن الموضوع بعينه إتماما للفائدة. ولما كان موضوع البحث دقيقا فقد حرصنا على دقة الأصل، ولم نستحل لأنفسنا - بحجة التوضيح والتبيين - تحريف الكلم أو الإضافة إليه أو الاقتضاب منه. ويعذر القراء إذا نحن أوصيناهم أيضا بالتدقيق في مطالعته واكتناه مراميه.) المترجم.

جئنا اليوم نحدثكم عن الشعر فهو موضوع العصر. وعجيب أن عصراً يجمع بين العمل واللهو المسرف معا - وقد يعد بعيداً عن سبحات التفكير والتأمل النظري عامة - يهتم هذا الاهتمام كله بالشعر، ولا يقف عند الشعر ذاته، بل يتعدى اهتمامه أيضا الى نظرية الشعر.

إذن: أستبيح لنفسي اليوم أن أسبح قليلا في النظر التجريدي، وعذري أني بهذه السبيل أستطيع الإيجاز في القول.

وأنا مقترح عليكم فكرة عن الشعر، ونيتي مجمعة على ألا أذكر غير ما كان من قبيل المقررات البحتة، وما كان في إمكان الناس أجمعين أن يلحظوه في أنفسهم أو بأنفسهم أو على الأقل يجدونه باستدلال هين ميسور.

وسأبدأ من البداية. والبداية (في هذا المعرض من الآراء في الشعر) هي بالضرورة تناول الاسم نفسه بالنظر. كما يجري على الألسنة في الكلام المعتاد.

كلمة الشعر

نعرف لهذه الكلمة مدلولين، أعني وظيفتين بينهما فرق بعيد، فهي تعني أولاً نمطاً الخوالج النفسية، أو حالة عاطفية خاصة تثيرها أشياء شتى أو ظروف جد مختلفات.

فنحن نقول عن منظر من المناظر الطبيعية أنه شعري. ونحن نقولها عن طور من أطوار الحياة، وأحيانا نقولها عن شخص. ولكن هناك محملاً آخر لهذا اللفظ. ومدلولاً ثانياً هو أخص من الأول. والشعر على هذا الوجه الثاني يذهب بأذهاننا الى أحد الفنون، الى صناعة عجيبة غرضها أن تعيد كرة أخرى إنشاء هذه العاطفة التي يدل عليها الوجه الأول للفظ. فاستعادة العاطفة الشعرية عند القصد وبواسطة افانين اللغة دون الظروف الطبيعية التي تولدت فيها عفوا، هو مطلب الشاعر، وهو هو الفكرة المقترنة بكلمة (الشعر) في مفهومها الثاني، وفيما بين هذا التصور وذاك يوجد من العلائق والفروق مثل ما بين أرج الزهرة وبين عملية الكيميائي العاكف على تأليف العطر من كافة الأجزاء.

على أن الناس يخلطون في كل لحظة بين هاتين الفكرتين، فتنجم من ذلك طائفة من الأحكام والنظريات فضلا على المصنفات، فاسدة في أساسها للإطلاقها كلمة واحدة على شيئين هما على ارتباطهما جد مختلفين.

العاطفة الشعرية

ولنجعل أول كلامنا على العاطفة الشعرية! أي عن الحالة العاطفية الأصلية.

تعرفون ما يخالج معظم الناس من شعور يتفاوت قوة وصفاء. بين يدي مشهد طبيعي رائع، فمناظر الغروب؛ والليالي القمراء، والأحراج الشجراء، والبحر، تطربنا وتحرك عواطفنا، وعظائم الأحداث وأزمات الحياة النفسانية، وأشجان الحب، وتذكر الموت كلها مناسبات أو أسباب مباشرة لما يقع في الوجدان من تجاوب وأصداء داوية، بالغة في الشدة أو غير بالغة، قوية التنبه أو ضعيفته. وهذا اللون من خوالج الإنسان يتميز من سائر خوالجه الاخرى. فبم يتميز؟ ذلكم ما يعنينا بحثه في مطلب اليوم، فيهمنا أن نقابل بكل ما يستطاع من الوضوح بين العاطفة الشعرية والعاطفة العادية، والتفريق بين هذين عمل جد دقيق. إذ هما لم ينفصلا قط في الحياة الواقعة. فتجد الانفعال الشعري الأصلي مشوبا على الدوام بالحنو أو الأسى، بالغيظ أو الوجل أو الأمل، ولا تبرح مصالح الشخص وعلائقه الخاصة متحدة بهذا (الإحساس بالكون) الذي يتميز به الشعر.

الإحساس بالكون قلت (الإحساس بالكون) وأعني أن الحالة أو العاطفة الشعرية قوامها (فيما أرى) إحساس ناشئ متولد، أو بعبارة أخرى، ميل الى الإحساس (بعالم) أو نظام مستكمل من النسب، ذواته وكائناته، وحوداثه وفعاله، وان شابهت واحدة واحدة ما يعمر به عالم الحس ويتألف منه وهو العالم المباشر الذي هي مستعارة منه، إلا أنها ذات صلة محكمة لا يحدها الوصف بأساليب حساسيتنا العامة ونواميسها. ومن ثم فهذه الذوات وهذه الكائنات المعهودة تتغير قيمها ومعانيها بوجه من الوجوه. فهي تتداعى وتتوارد ويلابس بعضها البعض على وجه يخالف كل المخالفة ما يجري في الأحوال العادية. فإذا هي (مدوزنة) إن جاز لي هذا التعبير، وإذا هي قد أصبحت متناسبة القياس متجاوبة.

وعالم الشعر بهذا الوصف فيه مشابه كبيرة بعالم الحلم.

صورة الشعر وأطياف الحلم

وإذ تطرقت كلمة (الحلم) الى مقالي، فإني أذكر لكم في كلمة عابرة انه في العصور المتأخرة من عهد مذهب المجازيين في الكتابة حدث خلط جل خطبه وإن هان تفسيره بين تصور الناس للشعر وتصورهم للحلم! فليست الأحلام ولا حالة النفس الحالمة شعرية بالضرورة. وهي قد تكون كذلك. ولكن صوراً تكونت بالمصادفة لا يمكن أن تكون صوراً ذات سياق وانسجام الا بالمصادفة.

بيد أن (الحلم) لشيوع معالجتنا له وتكرارها يساعد على تفهيمنا كيف أن الوجدان يمكن أن تطغى عليه وتفعمه وتجبله مجموعة من شتى ما تحدثه الانفعالات والمدركات العادية. فهو يضرب لنا مثلا متعارفاً عن (عالم محصور) تتراءى فيه سائر الأشياء الواقعة وتشكل بتشكل حساسيتنا العميقة، وعلى هذا النحو تقريباً تستقر الحالة الشعرية في أنفسنا وتنمو وتتحلل، أي أنها لا تجري بالضبط على قياس، وإنها متقلبة وغير اختيارية وسريعة العطب. وإننا نفقدها كما نحصل عليها عرضا. وفي حياتنا فترات لا ينجلي فيها هذا الإحساس الشعري، ولا تتبدى فيها هذه التوليدات المحببة، بل لا يخطر لنا إمكانها في بال، فالصدفة تهبنا إياها والصدفة تستردها منا.

الخلود رسالة الفن ولما كان الإنسان إنسانا بما له عزيمة وقدرة على استنقاذ ما يهمه من حكم العفاء الجاري على الأشياء، واحتفاظه بما ينقذ وإصلاح حاله وإقامة صرحه، فقد صنع الإنسان لهذه العاطفة الرفيعة ما صنعه أو عالج صنعه لسائر الأشياء التي يدركها الزوال مأسوفا عليها. فبحث واهتدى الى الوسائل التي يثبت بها وينتحي بسرها كيف يشاء أجمل أطواره النفسية وأصفاها، والتي يستطيع بواسطتها أن يعرض وينقل ويصون على تطاول الحقب أنماط أريحيته وهيامه وجيشان وجدانه. ثم كان من حسن العقبى أن اختراع وسائل البقاء هذه أتاح للإنسان الفكرة والقدرة معا على تعهد ما تمن به سليقته عليه أحيانا من قطع الحياة الشعرية بما ينميها اصطناعيا ويزيد في زينها وغناها. فتعلمّ أن ينتشل من مجرى الزمن وان يستخلص من الظروف هذه التواليف وهذه المدركات العجيبة العارضة التي قد كانت ذاهبة بلا رجعى لو لم يبادر فينا الكائن المتفنن الأريب الى معونة الكائن الوقتي ويسعف بمخترعاته النفس المحسة.

ولقد نشأت الفنون طراً لكيما تخلد أو تبدل (كل فن بحسب جوهره) لحظة من لحظات النعيم الزائل الى حقيقة راسخة من لحظات ممتعة لا انتهاء لها. فالعمل الفني ليس الا أداة مادية لهذا الإكثار أو التوليد المستطاع.

اللغة

والموسيقى والتصوير والعمارة أساليب شتى تتناسب مع اختلاف المعاني. وهي كلها وسائل لإنشاء عالم شعري أو لإعادة إنشائه، وهي تهيؤه بحسن التنظيم للبقاء، وتفسح بالعمل المدبر نطاقه وتوسع رحابه. إلا أن أقدم هذه الوسائل وأقربها مساساً وإن تك أشدها تعقدا هي اللغة. ولكن اللغة، بسبب طبيعتها المجردة وتأثيرها على الأخص في الفكر تأثيرا غير مباشر، وبسبب نشأتها الأولى ووظائفها في الشئون العملية، تورد الفنان الذي يمارس تنسيقها وصرفها الى الشعر مورداً معقداً عجيب التعقيد.

وما كان يكون في الدنيا شعراء لو أن الإنسان تمثل في وعيه المشكلات المطلوب حلها. (وما كان إنسان يستطيع تعلم المشي لو أستلزم المشي منه أن يتمثل ويستحضر في خاطره صوراً واضحة لجميع العناصر في أقل خطوة من خطاه) ولسنا هنا - بحمد الله - في مقام قرض الشعر، بل نحن إنما نعالج النظر في الأشعار كأنها شيء مستحيل صنعه، وذلك لكي نكبر جهود الشعراء إكبارا صافيا مبينا، ولكي ندرك مبلغ أقدامهم وكدهم وركوبهم الصعاب، ونتصور فضائلهم، ونعجب فلا نقضي العجب من قوة فطرتهم.

وسأحاول بوجه الإجمال أن أعطيكم فكرة عن هذه الصعاب:

ذكرت لكم منذ هنيهة أن اللغة آلة وأداة، أو بالأحرى هي مجموعة أدوات وعمليات صاغها العمل وسخرها لخدمته. فهي وسيلة جافية غليظة لا محالة، يستخدمها كل شخص، ويوقفها لحاجاته الراهنة، ويمسخها بحسب الظروف، ويطابق تفصيلها على كيانه الجسماني وتاريخه النفساني.

وأنتم تعرفون ما نسلطه على اللغة أحياناً من التجاريب والمحن. فان المدلولات ومعاني الكلمات وقواعد تأليفها ومخارجها وتقييدها هي ألد عيب لنا وآلات تعذيب معا. ولا مشاحة أننا نراعي بشيء من الاعتبار ما يقرره المجمع اللغوي، ولا مشاحة أن رجال التعليم ونسق الامتحانات وعلى الأخص غرور الناس يقيم بعض الحوائل دون تصرف كل فرد في اللغة على هواه. فضلا عن أن الطباعة في العصور الأخيرة كانت عاملا قويا للمحافظة على أوضاع الكتابة.

ومن ثم أبطأت الى حد ما تعديلات الإفراد، إلا أن أهم مزايا اللغة عند الشاعر هي كما لا يخفى خواصها أو طاقتها الموسيقية من ناحية، ومن الناحية الاخرى مدلولاتها المعنوية التي لا حصر لها (وهي القائمة على تكثير المعاني المشتقة من معنى واحد). واللغة من هاتين الناحتين أقل امتناعا على هوى الإفراد وابتكاراتهم وتصرفاتهم ونزعاتهم. وإن لهجة كل شخص وذخره الوجداني الخاص ليدخلان على تداول اللغة عنصر لبس، ومظان وهم، ومكامن بغتة، كلها لامناص منها ولا معدى عنها. وأرجو أن تلقوا بالكم جيدا الى هذين الأمرين: أولهما أن اللغة فيما عدا استعمالهافي أبسط لوازم العيش وأعمها ليست على الإطلاق أداة تحديد، بل هي على النقيض من ذلك، وثانيهما أنه فيما عدا بعض الاتفاقات التي لا تجيءإلا في النادر جدا وفيما عدا بعض تعابير ميمونة مفلحة اقترنت بقالب مفرغ محسوس، فليس في اللغة ما يجعلها وسيلة للشعر وجملة القول أن حظ الشاعر العاثر المتناقض قد فرض عليه أداة شائعة الاستعمال ممتهنة ليستخدمها في أغراض غير اعتيادية وغير عملية. فلا مندوحة له من استعارة هذه الوسائل وهي نكرات إغفال كأرقام التعداد، ليؤدي بها مطلبه من سمو بالنفس وتعبير عن أخص ما فيها وأزكاه.