مجلة الرسالة/العدد 251/شم النسيم. . .

مجلة الرسالة/العدد 251/شم النسيم. . .

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 04 - 1938


اليوم يا صديقي يوم شم النسيم! وشم النسيم في مصر هو عيد الطبيعة والناس؛ والناس الذين يعيدون هذا العيد هم سكان هذا البلد الأمين من كل جنس ونحلة؛ وهو بهذه الخصيصة يكاد لا يشبهه عيد من أعياد الأمم. فإن أعياد الأمم إما أن تقوم لذكرى دينية فتكون لأهل هذا الدين، وإما أن تقوم لذكرى وطنية فتكون لأهل هذا الوطن. أما عيد شم النسيم فهو عيد إنساني اشتراكي سمح، يفتح قلبه لكل دولة، ويخلص حبه لكل ملة، ويبذل أنسه لكل جنس. فالمصريون على اختلاف الأديان، والأجانب على تباين الأوطان، يتلاقون فيه على بساط الربيع إخواناً في المودة، أخداناً في السرور، يتساقون راح الأنفس، ويتطارحون حديث القلوب، ويتجردون من فوارق الدنيا ليقفوا أمام الطبيعة الصريحة أطهاراً من رجس الحياة، أحراراً من إسار المادة، يرتعون في الجنة التي خلق فيها أبوهم الأول، وينعمون بالصفاء الذي نشأت فبه أُسرتهم الأولى

هذه الخصيصة التي تفرد بها هذا العيد إنما اكتسبها من طبيعة هذا الوطن الأريحي الذي طبع بنيه وساكنيه على فيض نيله وخصب واديه ورحب صحرائه وصفو سمائه واعتدال جوه ووداعة طبيعته، فجعل المصري والرومي يعيشان في قرية، والمسلم والمسيحي يصليان في كنيسة، واليهودي والألماني يعملان في متجر، والتركي والأرمني يسكنان في دار؛ ثم يلح على هؤلاء جميعاً بالخلط والمزج والتوحيد حتى تتشابه الألوان، وتتعرب الألسنة، وتتقارب الطباع، وتتحد العناصر، فيدخلوا صرحاء خلصاء في هيكله النقي القوي المقدس

في هذا اليوم وحده من دون أيام السنة تغلق القاهرة دواوينها ومدارسها ومتاحفها ومصارفها ومتاجرها ومصانعها وحوانيتها؛ ثم تخرج إلى الرياض والخلوات، خروج الحجيج إلى عرفات؛ ولكنه حجيج وثني لا يؤمن في ذلك اليوم إلا بأفروديت وباخوس، فيتفيأون ظلال الروض، ويتشربون أشعة الربيع، ويستروحون أرج النسيم، ويجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المبثوثة في السماء والأرض، ويتطلقون من عقال الهم والوقار والكلفة، فيطيشون كالفراش، ويهتفون كالطير، ويطفرون كالأطفال، ثم تدركهم ضرورة الحياة فيجلسون للموائد حِلَقاً وسلاسل يتهنأون بضروب الآكال وصنوف الأشربة، حتى إذا تضلعوا شِبعاً وتحببوا ريا قرت فيهم فورة المرح فأوو إلى أحضان الطبيعة الخادرة منحر الظهيرة. وحينئذ ترى أشتاتاً من خلق الله قد ضرب على آذانهم الكرى أو الكِظَّة أو السكر أو الفتور، فأصبح الناس والطير والشجر قطعاً من مادة الأرض لا يميز بعضها من بعض رقي النوع ولا سمو الفكر ولا غرور الفلسفة

لا أزال أشعر بحلاوة هذا الموسم في القرية. فقد كان الشباب والأيفاع يعتقدون أن في العشرة الأخيرة من شهر رمضان تُفتح في السماء (طاقة القدر) لمن كتب الله لهم السعادة، وأن في العشر الأولى من المحرم تطوف (بغلة العشر) في أعقاب الليل وهي موقرة بالذهب على من كتب الله لهم الغنى، وأن في يوم شم النسيم تهب نفحة من الفردوس لا يتنسمها إلا من كتب الله له القوة؛ فكانوا إذا تنفس صبح ذلك اليوم أفعموا خياشيمهم بريح البصل ليدرءوا عن أعصابهم خمود العام كله، ثم يخرجون إلى القنوات والنهيرات يستحمون في مائها الجاري، ويمشون هوناً على حفافي الحقول وضفاف الترع وحواشي البساتين يجمعون الفلية والحَبق والورد وزهر النارنج وورق الليمون، ثم ينسقون منها باقات يشدونها بأعواد السعد وسعف النخل، ويدسون فيها أنوفهم من لحظة إلى لحظة؛ ثم يقفون في مهب النسيم الفواح يعبُّونه عباً بالخياشيم والحلوق لعلهم يجدون فيه تلك النسمة الهاربة من ريح الجنة فيمسهم منها (عِرق الصبا)، ثم يسيرون صامتين مستغرقين نشاوي يتشممون ذلك السر الإلهي المكنون في أنفاس النهر، وفي عبير الزروع، وفي فوحة الرياحين، كما يتلمس الكيميائي الخبير إكسير الحياة في عصير العقاقير وحَلَب الأنابيق ومزيج الأشربة

فإذا أحسوا نشوة في الروح وفتوة في الجسم وقوة في الأعصاب لطول ما استنشقوا الهواء الخالص، واستيقنوا الأمل الخادع، تسلقوا أشجار التوت فجنوا منه أطيبه، وخضبوا أناملهم بجناه، ونقشوا طواقيهم بصبغة؛ ثم رجعوا إلى القرية يخطرون في مطارف الصبا الغريض، وكأن في نفوسهم بالياً قد تجدد، وفي نفوسهم ذاوياً قد انتعش. فيأكلون البيض الملون والخس الطري والسمك المملح، ثم ينامون وهم معتقدون أنهم ادخروا لبقية العام من القوة والصحة والفراهة ما لا يهن على طول العناء وسوء الغذاء ومس المرض

ذلك شم النسيم بخصيصته ودلالته، تراه في المدينة والقرية يوم الصفاء المشترك والأنس المشاع. ولقد كانت لي فيه ذكرى أو ذكريات لا تزال مشرق النور والسرور في نفسي. وما كان أحب إليّ أن أقصها عليك؛ ولكن الصفحة قد نَفِدت، وساعة الطبع قد أفدَت، ورئيس المطبعة يقول: هات!

احمد حسن الزيات