مجلة الرسالة/العدد 251/في المذهب الرمزي

مجلة الرسالة/العدد 251/في المذهب الرمزي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 04 - 1938



تعليق

للدكتور بشر فارس

قبل أن يندفع قلمي في التعليق أحب أن أشكر لصاحب (الرسالة) انبساطه إلى مسرحيتي (مفرق الطريق) إذ سمح بنشر نقد مسهب لها لأسبوعين مضيا، ثم بحث مستفيض في المذهب الرمزي لأسبوع مضى، وكلاهما من قلم الأستاذ زكي طليمات مفتش التمثيل بوزارة المعارف. وكأن صاحب (الرسالة) يُصر أن تُنقل الأساليب المستحدثة على يده إلى قراء العربية. أليست (الرسالة) رسالة؟

والحق أني ما كنت لأتوقع أن يهتز القراء حتى النقاد لمسرحيتي ذهاباً مني أنها تنحرف عن ألوان الأدب المعروف عندنا انحرافاً شديداً فلن يكون مصيرها سوى الضياع، حتى فوجئت بطائفة من الرسائل والمقالات جعلتني أرى الشرق العربي غير نفور مما يهجم عليه من باب كان مغلقاً، بل غير جزوع مما يحمل الفهم بعض المشقة. وإليك دليلا على هذا ما بعث به الأستاذ أمين الريحاني: (تصحفت الرواية أولا بشيء من الاستغراب والدهش. ثم قرأتها لأفهما ففهمتها - أظن - واستكبرتها على صغرها. ثم أعدت قراءتها للمرة الثالثة متلذذاً بمحاسنها الفريدة الجمة، برقائقها الصوفية، وحقائقها المادية، ونظرتها الفلسفية، وروائعها الفنية. . .). فإني لفرح بهذا الأمر لأني حققت ما قلت في توطئة المسرحية: (وعندي أنه قد حان الزمن الذي فيه أصبح الإيجاز والإيماء في الإنشاء الرفيع أحب إلى القارئ العربي المهذب من التطويل والتذييل. . .)

هذا وقد خطر لي أن أصنع للمسرحية توطئة جامعة أبسط فيها طريقة المسرحية لأهيئ الأذهان إلى الوقوف عليها، لا تطاولاً مني، معاذ الله! ولكن تلطفاً في استدراج القارئ إلى القراءة وكشفاً عن نزعة قلمي. وإذ لم أجد بداً من إطلاق عنوان على تلك الطريقة دونت هذه الجملة: (هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت.) أتدري لم قلت (إذا شئت)؟

إن لفظة الرمزية في الأدب الحديث تصرف ذهنك على الفور إلى الطريقة التي ابتكرها نفر من شعراء الفرنسيين خاصة حول سنة 1886، تمرداً على الأسلوب الوضعي الجامد الذي كان له الأمر في ذلك العهد، وانقلاباً إلى وحي الوجدان: إلى تغليب الإحساس على العقل. وروّاد الرمزية (ألويزوس برتران) و (جيرار دي نرفال) ولا سيما (بودلير) الفحل. وأما أبطالها فـ (أرتر رامبو) و (بول فرلين) و (مالارميه) ثم (لافورج) و (كاهن) و (رودنباخ) و (فرهايرن) و (مورياس) و (ستوارت مِرِل) و (هنري دي رينييه) و (ديجاردان) و (سامان) وغيرهم. وسرعان ما انتحى المذهب نواحي مختلفة بالإضافة إلى الأداء وإن استقامت جميعها على عمود واحد من الاستلهام. وإذا نحن وقفنا عند أبطال المذهب أصبنا (رامبو) يعول على السحر اللفظي، و (فرلين) على الترنم، و (مالارميه) على الإيهام. وقد دوُنت هذه النواحي إلى جانب ما وقع بين أصحابها من المناظرات في مجلات صغيرة أنشئت للدفاع عن الرمزية وبثها فضلاً عن هدم الشعر الاتباعي القائم، اذكر منها: , , وكان لأجل (الرمزية) - فوق هذا - قهوات يجتمعون فيها، قد أدركت واحدة منها في باريس قبل أن تنقلب قهوة حديثة، وكان اسمها، وهي اليوم

وقد راسلت (الرمزية) في الشعر (رمزية) في الموسيقى والفن تأخذ مأخذها. وأمهر الموسيقيين الرمزيين (كلود ديبوسي)، وأبرع المصورين (بوفيه دي شافان)، والنحاتين (رودان) معلم جبران خليل جبران

ثم إن (الرمزية) الشعرية امتدت إلى ما يلي فرنسا شمالاً وجنوباً. فظهر في ألمانيا (رِلكه) و (ديمل)، وفي إنجلترا (بيتس)، وفي البرتغال (أوجينيو دي كاسترو)

وأما مصادر هذه (الرمزية) فيتنازعها الأدب والفلسفة والفن والموسيقى. وإذا نحن قررنا أن الرمزية إنما هي - آخر الأمر - التعبير عن الحياة الباطنة رجعنا خاصة إلى تأويل (بودلير): (الفن الخالص أن تخلق سحراً يوهم ويوحي فيضم في آن الذات والموضوع)، والى قولة (شوبنهور): (العالم هو ما يتمثل لي)، والى منهج نفر من المصورين الإنجليز الموسومين بهذا اللقب - وهو منهج يصعد إلى سنة 1848 وقوامه أن المصور ينبغي له أن ينبذ القواعد المضبوطة ليترك عينه تقرأ على هواها في صحيفة الطبيعة. ثم إلى ثورة (فجنر) على الأوبرا التقليدية وإدارجه (العنصر الإنساني الخالص) أو في المأساة الموسيقية

تلك هي الرمزية الأولى في الأدب الإفرنجي الحديث ولا سيما في الشعر. وقد انحلت إلا قليلاً عند مختتم القرن التاسع عشر. إلا أنها شقت طريق أدب العصر، وخلفت مذهباً آخر هو مذهب الـ (ما وراء الواقع). بل إنك ترى الأدب والفلسفة وعلم النفس والموسيقى والفن حتى الرقص تجري اليوم إلى غاية واحدة، وكل واحد منها يؤثر في الآخر. وكان بودي أن أشير إلى كل هذا حتى يأتي اليوم الذي فيه يتاح لي أن أكتب رسالة ضافية فأشرح هذا الجانب من الثقافة الحديثة. ولكني أخشى الإطالة وأكره أن يتطرق الملل إلى قراء (الرسالة) وجل ما أثبته اليوم أن الظاهرة الغالبة على آداب هذا العهد وفنونه في بلاد الفرنجة إنما هي الرغبة في الفرار، لا الفرار من الدنيا أنفةً ومرضاً نفسانياً عل النحو الابتداعي (الرومنتيكي)، ولكن الفرار من المنقول والمصطلح عليه، ومن القواعد القائمة والصناعة الموقوفة، ومن العالم المتناسق المختلق اختلاقاً بكد أذهاننا، ومن الطبيعة البشرية الموثوقة، ومن العقل المتصلب والمنطق المتجمد واليقين الملفق

أتدري لمَ قلت: (. . . إذا شئت)؟

إني أردت أن أستدرك، محاذرة أن ينصرف ذهن القارئ إلى الطريقة الرمزية الأولى خاصة. وقد أضأت هذا الاستدراك بخمس صفحات بسطت فيها وجهة الأسلوب الذي أجريت عليه المسرحية، فجاء حديثي عن الفلسفة والأدب كالتأسيس، وكلامي على التصوير والموسيقى والرقص كالتمثيل. ثم إني لم أعرض لتاريخ الرمزية لأن التوطئة رسالة فنية لا شأن للنقد فيها. على أن ذلك الأسلوب إنما هو أسلوب (انساق له قلمي ورفت إليه نفسي بعد التحصيل والروية والاجتهاد) وإن كان متأثراً بالرمزية الأولى ولا سيما بالمذهب الذي خلفته. وهذا الذي حملني على أن أختار لفظة (الرمزية) دون غيرها فضلاً عن أن المسرح الحديث لا يزال يحمل هذه اللفظة عنواناً له

حقاً إن الرمزية الأولى كانت قد أوحت مسرحيات مثل (لبول فور) و (لميترلنك) (لجاري) مثلت كلها في ' ' غير أن المسرح الحديث وإن سماه أهل الفن (المسرح الرمزي) من باب الاصطلاح لينهض على عناصر تزيد على التي عرفتها الرمزية الأولى: ينهض على نتائج علم النفس الحديثة (تجارب (شاركو) في التنويم والإيهام، و (ريبو) في أمراض الذاكرة والإرادة الشخصية، و (فرويد) في أحوال العقل الباطن، و (برجسون) في تغلب المضمر الذي في النفس على البارز) ونظريات الفلسفة (الإدراك بالبصيرة لا بالعقل على نحو ما يرى (برجسون) ثم الشك في العلم المطلق والمرفع عن المواضعة حسب مذهب علماء الطبيعة لهذا العصر) وقصص جماعة من الروس مثل (دوستيوفسكي وتولستوي وجوركي) ففيها يبرز الخلق كأنهم على فطرتهم، ولكنها فطرة من صفت نفسه حتى أنها تأبى القناعة بثقافة الذهن وحده)، ومسرحيات أدباء الشمال مثل (بيورنسن) ولا سيما (إبسن) حيث المغالبات النفسانية تصرع قوى الحياة الاجتماعية، ثم قصص فئة من الإنجليزيات مثل (كاترين منسفلد) و (فرجينيا وولف) لما يطرد فيها من التأثرية المحضة. ثم أضف إلى هذه العناصر ما انبثق من جانب الفنون الأخرى كالتصوير التعبيري والموسيقى التأثرية والرقص الإبهامي

والمسرح الرمزي الحديث على ألوان. ولا أحب أن أفيض في هذا الموضوع الجديد. وحسبي أن أذكر أسماء بعض رجاله النابهين، وهم: (إبسن) و (هوبتمن) و (ميترلنك) وإن رجعت طريقته إلى الرمزية الأولى، و (هنري باتاي) احياناً، و (لينورمان) وإن كانت طريقته قريبة المأخذ، و (كلوديل) وإن نزع إنشاؤه إلى ما وراء الطبيعة على مثال إنشاء صاحبه فاليري الشاعر، و (جانتيون) مؤلف قصة (مايا) التي شهدتها ثلاث مرات في مسرح (مومبارناس) في باريس سنة 1931، و (جان كوكتو) و (حيرودو) و (بريستلي) أخيراً و (أليس جرنستبرج) و (بيرندللو) العظيم ثم (روبندرونات توجور) إذا شئت، وإن كانت مسرحياته تشف عن وثبات الصوفية الهندية

كتبت (هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت. غير أن النقاد وقفوا عند مفاد الرمزية الأولى أو كادوا سواء أهملوا الخوض في مفادها أم خاضوا. وممن خاض الأستاذ صديق شيبوب في صحيفة (البصير) (8 أبريل 1938) والأستاذ زكي طليمات في مجلة (الرسالة). ثم إن الأستاذ ميخائيل نعيمة كتب ألي يقول: (. . . ومسرحيتك هذه تدرج على الطريقة الرمزية، طريقة فاليري (الشاعر المذكور فوق هذا الكلام) وهي كزيّ جديد في الأدب العربي حقيقة بأن نؤهل بها. . . ووقعت في مقدمتها (يعني توطئها) على أدق وأجمل بيان قرأته في العربية عن الطريقة الرمزية وغاياتها. . .)

إلا أنه لا يفوتني أن أذكر أن ناقداً واحداً تنبه لما أردت. فقد نشرت صحيفة (الجورنال ديجبت) ' البارزة في القاهرة، يوم (19 أبريل 1938)، مقالا غزيراً باللغة الفرنسية للأستاذ إدجار جلاد، جاء فيه أن الرمزية في (مفرق الطريق) بين التأثيرية والتعبيرية وأنها تتميز بالبصيرة الشرقية فهي لا تماثل الرمزية الأولى

أن أدفع وهماً ذلك الذي بعثني على كتابة هذا التعليق. وقبل الخروج منه أحب أن أشكر للأساتذة ميخائيل نعيمة وزكي طليمات وصديق شيبوب فضلهم. وهل للأستاذ زكي طليمات أن يأذن لي في أن أكاشفه بأني فرحت فرحاً شديداً لما اصبته يستعمل في مقاليه بعض تراكيب جرت على قلمي في توطئة المسرحية، منها: (المحسوس وما وراء الحس)، (لوامع النفس)، (منعطفات الروح ومثاني المادة)، (التخيل المنسرح)، وما فرحي إلا لأني أرى تراكيب اجتهدت في سياقها تنطلق على قلم كاتب مفنّ، وكنت أخشى أن تموت يوم ولدت. ثم هل للأستاذ زكي طليمات أن يفسر لي قوله في بحثه في المذهب الرمزي (إن ب. ف. يكتب متثبتاً بما تلقنه؟) وفي (لسان العرب) (وقد لقنني فلان كلاماً تلقيناً أي فهمني منه ما لم أفهم)

بشر فارس