مجلة الرسالة/العدد 251/من برجنا العاجي

مجلة الرسالة/العدد 251/من برجنا العاجي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 04 - 1938



لبعض القراء ملاحظات تدل أحياناً على جهل مروع بطبيعة الأدب.

من ذلك أنهم يعيبون على الأديب تحدثهم عن نفسه. أمثال هؤلاء القراء

لابد أن يكونوا من تلاميذ المدارس أو المتخرجين فيها حديثاً. فهم

يخلطون بين (معلم المدرسة) وبين (الأديب الفنان). فمهمة (العلم)

الأولية أن يلقن أصول المعارف وأن يفرغ في أذهان النشء مادة

بعينها بغير أن يكون لشخصه دخل في الأمر. أما (الأديب أو الفنان)

فلا يلقن شيئاً ولا ينبغي له. لأنه يخاطب قوماً مفروضاً فيهم أنهم قد

جاوزوا مراحل الدرس؛ فهو يخرج لهم عصارة العلوم والمعارف

والتجارب مقطرة من خلال (نفسه). إن كل ما نطلبه ونرجوه من

رجال الأدب والفن أن يحدثونا عن كل خلجة من خلجات نفوسهم، وكل

دقيقة من دقائق حياتهم، وكل لمحة من لمحات أبصارهم، وكل ناحية

من نواحي أحاسيسهم. إن (نفس) الأديب العارية هي كل ما ينبغي له

أن يضعه تحت أنظارنا. ومن لم يفعل ذلك فليس مطلقاً بأديب. فالأديب

هو الآدمي الوحيد الذي خلق لكي يفتح لنا نفسه لنرى من خلالها النفس

البشرية قاطبة. ويتحدث لنا عن نفسه فنرى من خلال حديثه كل

تجاريب الإنسانية الشاعرة. وإن كل رجال الأدب العظام ليسوا إلا

آدميين حدثونا طول حياتهم عن أنفسهم، بوسائل شتى. وأنا كقارئ لا

يروقني شيء مثل قراءة المذكرات التي يكتبها الأدباء العظماء عن

حياتهم الخاصة. والاعترافات والرسائل التي تتناول مسائل تمس

أشخاصهم. فنحن في تلك الكتابات المجردة عن أثواب التكلف والصناعة نستطيع أن نهبط إلى أغوار تلك النفوس الرحبة الغنية، كما

يهبط الغواص فجأة إلى أعماق البحار، فيفاجئ اللآلي في أصدافها لم

تمسها بعد يد غريبة، تنتزعها لتدخل عليها بهرج الصاغة. إن الفنان

إذ يحدثنا عن نفسه وفنه وحياته الخاصة إنما يقدم لنا مادة فنية غير

مصنوعة. إنه يترك رداءه الرسمي ليخرج إلينا بثياب البيت في غير

كلفة كأنه صديق، وهذا منتهى الإخلاص منه ومنتهى التكريم لنا.

توفيق الحكيم

مظاهر القسوة والرحمة في الحضارات

للأستاذ عبد الرحمن شكري

أشرت في مقالة (مجد العرب والإسلام) إلى محاولة بعض المؤرخين الأوروبيين أصفار مظاهر القسوة في الحضارات الأوربية وإعظامها في الحضارات الشرقية. ولسنا نريد أن ننكر مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية، وإنما نريد ألا يكون هناك لبس، وألا تختفي الحقيقة التاريخية، وهي أن الحضارات الأوربية لم تكن مظاهر القسوة فيها أقل من مظاهرها في الحضارات الشرقية. فكل تمثيل قرأنا عنه في حضارة شرقية قرأنا مثله في الكلام عن الحضارات الأوربية. ولا يمكن تقصي كل مظاهر القسوة في الحضارات؛ ولا يفيد الإنسانية إخفاء الحقيقة، والمؤرخون الذين يخفونها قد يفعلون ذلك بحسن نية لأنهم يغالطون أنفسهم فيكونون كمن يجهل الحقائق وإن كانت ماثلة أمامه. وهذه ظاهرة كثيراً ما تشاهد في الحياة فيحسبها الناظر سوء نية وكذباً متعمداً وما هي كذلك، وإنما هي المغالطة للنفس التي تجعل المؤرخ يفرق بين النفوس البشرية ونزعاتها في الشرق، وبين النفوس البشرية ونزعاتها في الغرب. كما يفرق المؤرخون في بعض الأحايين بين العقول البشرية وملكاتها وطرق تفكيرها في الشرق وبينها في الغرب، ويبالغون في اختلاف طرقها بحسن نية، وإن كانت المبالغة خطأ في البحث والاستقراء كنا نقرأ عن الحضارة الإغريقية أنها منبع الرحمة والنور في العالم القديم والحديث؛ وكان بعض المؤرخين لا يسهبون في وصف مظاهر القسوة فيها، وإن كانت موصوفة في مراجع التاريخ، وإنما هم يهملون وصفها عند إثبات أن الحضارة الإغريقية منبع الرحمة والنور في العالم، فلا يذكرون أن تلك الحضارة كانت مؤسسة على عرق جبين الأرقاء ودمائهم، ويهملون ذكر ما كان يحدث في المحاكم الإغريقية إذا ادعى أحدهم دعوى على رجل وأنكر هذا الرجل الدعوى وجئ بالأرقاء الذين يملكهم هذا الرجل المنكر وعذبوا بأصناف من العذاب القاسي الشنيع كي تؤخذ اعترافاتهم وهم يعذبون حجة على سيدهم. وكان السيد إذا اعترض على تعذيب أرقائه عُدَّ معترفاً أو شبه معترف بخوفه من أن يبوح أرقاؤه وهم يعذبون بما يؤدي إلى إدانته. ومن أمثال تلك القسوة في الحضارة الإغريقية ما كان يلاقيه الأرقاء في المحاجر والمناجم، ومثلهم مثل الأرقاء في مناجم الرومان. ويكفي وصف ما لاقاه جنود أثينا الأسرى عندما حاولوا غزو سراقوسة في صقلية وفشلوا واستخدموا في المحاجر والمناجم أرقاء. ومن مظاهر القسوة أيضاً معاملة المدينة الظافرة للمدينة المغلوبة على أمرها إذا ثارت على سيدتها، فقد كانت المدينة الظافرة تقتضي في بعض الأحايين بقتل جميع الرجال وبيع الأطفال والنساء في سوق الرقيق. وهذه المعاملة تذكرنا بما كان الإغريق في العصور الحديثة يشنعون به على الأتراك ومعاملتهم لرعاياهم من الإغريق؛ إلا أن تلك المعاملة القاسية القديمة كان يعامل بها الإغريق الإغريق. وحتى في المدينة الواحدة كان الحزب السياسي إذا ظفر عامل الحزب المخاصم له أشنع معاملة. وهذا كان حال الحضارة الإغريقية التي كانت بالرغم من ذلك المنبع الرحمة والنور في تاريخ الحضارة الأوربية. فإذا انتقلنا إلى حضارة الرومان وجدنا أن مظاهر القسوة لم تكن اقل منها في الحضارة الإغريقية، فكان الأرقاء يعاملون معاملة قاسية بالرغم من القوانين التي أصدرت لحمايتهم. وكانت الأحزاب السياسية يقسو بعضها في معاملة بعض قسوة شنيعة. وكان الظفر الحربي الروماني نذير القسوة الشنيعة حتى بعد ذلك الظفر عند الاحتفال به وبعد الاحتفال به. وكانت الخوازيق التي يُعيرُ بها الأتراك والشرقيون من العقوبات الرومانية؛ وكذلك الصلب والتمثيل بالمصلوبين وهم مصلوبون. وكانت ميادين الكوليسيوم معرضاً لجنون قسوة النفس الإنسانية حتى صارت من ملذات الجمهور الروماني رؤية الوحوش وهي تفترس أجسام الأحياء وتمزقها تمزيقاً، ورؤية حرق الأحياء كما كان المسيحيون يُحرَقون. ولم تكن مظاهر القسوة في الحضارة مقصورة على حضارة أوربا الوثنية، بل كانت على أفظع شكل حتى عند المتدينين من القائمين بأمور محاكم التفتيش الذين كان بعضهم يبكي رحمة بمن يعذبونهم فلا يزيدهم بكاء الرحمة إلا رغبة في تعذيب ضحايا تلك المحاكم اعتقاداً أن ذلك التعذيب وأن تلك القسوة رحمة بالضحايا. ويقولون إن تعذيبهم في الحياة الدنيا يقلل من عذابهم في الآخرة، فيكون تعذيبهم في الحياة الدنيا رحمة بهم. ولم تكن مظاهر القسوة مقصورة على طائفة دينية دون الطوائف الأخرى بل اشتركوا فيها جميعاً. كما أن القوانين التي كانت تطبق في الأمور غير الدينية كانت مثقلة بروح القسوة والتعذيب. ومن العجيب أن المؤرخين الذين ينعون على الدولة الإسلامية تنفيذ الحدود ينسون أن القوانين الأوربية والمحاكم الأوربية كانت إلى قبيل الثورة الفرنسية توقع عقوبات هي نفس الحدود التي ينتقدونها في الدولة الإسلامية. فإننا نقرأ في مؤلفات ماكولي وغير ماكولي من المؤرخين عن قطع الأيدي وجدع الأنوف وصلم الآذان وغير ذلك من أجزاء الجسم، وقراءة وصف العقوبات التي وقعت بعد فشل ثورة دوق مونموث تكفي للدلالة على أن المؤرخين ينسون ما كان فيا لحضارات الأوربية من مظاهر القسوة عند ذكرها في الحضارات الشرقية. فإننا نقرأ كيف كانت أجسام الأحياء تقطع وتنصب أجزاؤها على النصب والمباني والأعمدة وعند ملتقى الطرق، فمن رءوس وأحشاء وأرجل وأيد منصوبة نتنة كانت تفسد الهواء في إنجلترا بعد ثورة دوق مونموث وغيرها من الثورات الفاشلة. والمستعمرون الأوربيون في أمريكا حتى المتطهرون منهم لم يقصروا في مظاهر القسوة. وقد استعرض فان لون المؤرخ الأمريكي مظاهر القسوة في الحضارة الأوربية والأمريكية في كتابه المسمى (تحرير الإنسانية) ولا تزال آلات التعذيب في المتاحف الأوربية الخاصة بها تدل على أن النفوس في أوربا لم تكن أقل قسوة من النفوس في الشرق؛ ولا نريد ذكر هذه الحقائق للغض من فضل الحضارة الأوربية. وإنما نريد تصحيح ما يشيعه بعض المؤرخين بحسن نية أو بسوء نية فيظل ما يقولون ويؤدي إلى تخليد النفس الإنسانية، وربما كانوا أبعد الناس عن الرغبة في تخليدها

والحقيقة أن النفس الإنسانية إذا غضبت قست وأجرمت حتى ولو كان غضبها للحق أو الحرية أو الوطنية أو كرهاً للظلم. ولعل أكبر انتصار للنفس الإنسانية في المستقبل يكون انتصارها على نفسها بمنعها من الأجرام والقسوة الهمجية الوحشية عندما تغضب للحق أو الحرية أو الوطنية اكرهاً للظلم. أنظر مثلا ما ارتكبه ثوار الثورة الفرنسية من شرب للدماء، وتمزيق أجسام الأحياء، وأكل للحوم البشرية وسلخ لجلودها والتذاذ بإراقة الدماء والفخر بما كانوا يسمونه الغنائم والأسلاب من أحشاء نتنة ورءوس كانوا يضعونها على الرماح. ولم يفعل كل هذا أناس شرقيون ولا أناس من قبائل نيام نيام في أواسط أفريقيا بل أناس غضبوا للحرية وكرهوا الظلم وكانوا يدعون إلى الحرية والإخاء والمساواة والى محو الشر. وهذه الثورة الفرنسية كانت مقدمة للديمقراطية الحديثة، ولكن بعد أن كره العالم اسم الحرية زمناً وارتضي الحكومات المطلقة زمناً بسبب هذه الفظائع وهذه النذالة في الأجرام والقسوة

ثم انظر إلى فظائع الحروب الاستعمارية وفظائع الحرب الكبرى فقد قاسى من اجلها من المحاربين ومن الأطفال والنساء آلاماً كثيرة عدد لم يقاس مثله في الحضارات الشرقية بشهادة بعض المؤرخين الموثوق بقولهم وبشهادة المفكرين مثل هالدين وليوناردوولف

ثم أنظر إلى مستقبل الإنسانية وما هو منظور أن تقاسيه من الويلات بسبب الحضارة الأوربية وجشعها ومخترعاتها مما ينسي المفكر كل مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية التي ينتقدها بعض المؤرخين الأوربيين. والحقيقة أن النفس الإنسانية في السلم والحرب وفي أعمالها وأقواله اليومية لا تزال اكثر ولوعاً بالقسوة مما يظن المستعرض لها بنظرية سطحية عجلي، كما هي اكثر لوعاً بالمجون وقصصه وأعماله مما يظن المستعرض للأكاذيب المقررة التي هي طلاء الحضارة والتي تخفي مظاهر القسوة والمجنون في أعمال النفوس البشرية

وإني ما ذكرت تنور المتوكل الذي عذب فيه وزيره محمد ابن عبد الملك الزيات إلا ذكرت الغلاف الحديدي ذا المسامير الذي كان يوضع فيه الأحياء في أوربا. وما ذكرت الرقيق في الدول الشرقية إلا ذكرت أن الرقيق كان شائعاً في أوربا وأمريكا إلى عصور قريبة، وإلا ذكرت أنه عندما بدأ الرحماء يدعون إلى تحرير الرقيق ووجدوا نصراً من رجال الدين في أوربا ألْفَوْا أعداء من رجال آخرين من رجال الدين كانوا يتذرعون بآيات من الكتاب المقدس من العهد القديم كي يزكوا بها الاستعباد، وذكرت ما كان يقاسيه الرقيق في الحضارات الأوربية مما يطول شرحه ووصفه، وذكرت أن الكنيسة نفسها كانت تشتري الرقيق من الغلمان الصغار الملاح وتخصيهم، وكانوا يسمون خصيان الكنيسة؛ وكانت تفعل ذلك كي يرق صوتهم فيرتلون الآيات في الصلوات بصوت عذب شبيه بأصوات النساء. وكان بعضهم يهلك من عذاب الخصي

وبعد فإن مثل المؤرخين الأوربيين الذين ينكرون أو يصغرون من أمر مظاهر القسوة في الحضارات الأوربية ويكبرون أمرها في الحضارات الشرقية مثل كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، فإن كل إنسان في هذه الحياة الدنيا يصغر ويهوّن من أمر مظاهر القسوة التي ترتكبها نفسه ويكبر من أمر مظاهرها الصادرة عن نفوس غيره من الناس. وهو يفعل ذلك أما غفلة وعن حسن نية، وإما يفعل ذلك وهو يدري ما يفعل. ولن تنصلح الإنسانية إلا إذا امتنع تظليل النفس هذا

عبد الرحمن شكري