مجلة الرسالة/العدد 252/رسالة الأديب إلى الحياة العربية

مجلة الرسالة/العدد 252/رسالة الأديب إلى الحياة العربية

مجلة الرسالة - العدد 252
رسالة الأديب إلى الحياة العربية
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1938



للدكتور بشر فارس

الأديبة تريحنا من الأدباء:

القصر تدخله فيروعك الرواق الممدود والجدار المنطلق والسقف المقبب، ثم الطنافس كأنها من بطون النوق، والمصابيح كأنها انسلت من أعطاف القمر، والأسرة كأنها من عضل الزنج منحوتة. فإذا طرفك تنهكه الغلبة؛ حتى إذا انثنى إلى الخدر وارتفع له ستاره كان كالسنبلة تلطمها السموم فيغيثها البلل. الخدر: زهر مطروح، وإبريق مترع نصفه، وكأس تنظر أين شاربها، ومقعد مقتضب ولكنه وثير، ووساد كأنه خدود جمعت، وباب هنالك تدفعه بنفثة

فبورك اليوم الذي فيه حنت أنامل مي إلى قلمها!

وبعد، فقد ألقت الآنسة مي في قاعة الجامعة الأمريكية لبيروت محاضرة موضوعها رسالة الأديب إلى الحياة العربية)، وقد نشرتها (الرسالة) (رقم 248) وإذا هي محاضرة تسيل رقة وتثب خفة، فيها من الحقائق النواهض ما يكشف للذهن عن أفق منبسط وهاج.

وثمة ثلاث حقائق لم ينصرف قلم الآنسة مي إليها؛ فهل لي أن أبينها هنا؟

الأدب صناعة!

كذلك كان عند الأمم الراقية وفيها العرب أصحاب لغتنا. وكذلك هو اليوم في بلدان الفرنجة. و (الصناعة) لفظ له مدلول معين. إنما مداره هذه المجموعة من القواعد والشرائط. ومن الشرائط أن تكون منجذباً إلى الأدب سليقة، وأن تنصبه فوق كل شيء، وأن تبذل في سبيله ما عز عليك من متاع أو مطلب، وأن تنصرف إليه لوجهه. ومن القواعد ن تملك اللغة التي تكتب بها، وأن تكون مطلعاٌ على آدابها واقفاً على فنونها، وأن تكون - فوق هذا - طلاباً للعلم، مأخوذاً بحمى الاستطلاع المتصل، مستقيماً في الاداء، رغاباً في التطلع إلى التمام.

قواعد وشرائط هيهات أن تكون من مستحضرات الذهن النظري، بل هي من مستخلصات تاريخ الآداب عامة.

هل الأدب صناعة في الشرق العربي؟ إنه لصناعة عند فئة ممن يقبلون عليه وقلوبهم تحدثهم بقدره. غير أن العدد الأوفر من كتابنا وشعرائنا إنما يهجمون على الأدب من غ بابه.

أليس الأدب أن تقبض على قلم وتفرش ورقة وأنت عارف كيف ترفع الخبر وتخفض المضاف، وإن حيرتك حروف الجر أو أدار عقلك وصل الجمل وفصلها؟ أما الذي يغشى الورقة فمما لا شأن للقارئ فيه. أنا أكتب، وأما أن فالقراءة القراءة، بل عليك أن تكبرني. لمه؟ لأني أكتب؛ لأني أديب. أين الشهادة بأني أديب؟ إن صحيفة كيت وكيت تنشر لي. إن لي كتاب كذا وكذا. . . ما شاء الله! ماذا تقول؟ (الأدب صناعة)؟ ها ها! الأدب وحي! الأدب زير يرشح وأنا الطست من تحته! أجل أنا أقرض الشعر وإن لم أقوم أوزانه! الشعر موسيقى وأذني دف تنقره وثبات روحي اللطيفة. أجل أنا أحلل فلسفة برجسون وإن لم أقرأ أفلاطون ولا بلوطينس ولا سبينوزا ولا دركايم. إني أتسلق الدار وأعف عن إتيانها من مولجها. أجل أنا أؤلف مسرحيات وإن لم أقرأ مسرحية إفرنجية واحدة. لا حاجة بي إلى من يدلني على الطريق. أنا (موهوب). أجل أنا أصف الصور والتماثيل التي في معارض الفن وإن لم ألمح من متحف (اللوفر) سوى طرفاً من سلمه. الأدب تهويل على الناس، يا صديقي. أجل أنا أنزلق إلى الغمز بمجمع اللغة العربية وإن لم أقرأ (القرآن) ولا (المخصص) ولا (مغني اللبيب) وإن جهلت كيف أطلب مادة أدب في القاموس المحيط. أنا أنشئ افتتاحيات سياسية، والسياسة مدرجة إلى كل شيء

الأدب غذاء!

أن تشرح روحي وتزيد في علمي وترهف إحساسي وتصقل إدراكي ثم تدفعني إلى حيث أفلت من قيود المادة، ذلك الذي أرقبه منك خاصة أيها الأديب. أما أن تقصر أدبك على الترويح عن نفسي كأنك ببغاء يسلي عجوزاً عن شمطها فلي عنك في ذلك غنى. أليس بين يدي (روايات الجيب) ومجلة (اللطائف) والصور المتحركة الأميركية و (الكسار) والمزمار البلدي ورقص البطن فضلاً عن القهوات وما يقع عليها من غرائب المخلوقات؟

كأني بك تكتب وتلقي في اعتقادي أنك ممن يقود فكري فتغويني وتفسد علي معنى الأدب. وإن قلت: إني لم أهيأ بعد لتلقي أسرار فنك لقعود فهمي عن النفوذ إلى مخبآت الضمير، فما رسالتك إذن؟ أترفعني إليك أم تنخفض إلي؟

خبرني، هل رأيت - حياتك - الزهرة تميل إلينا لنستروح شذاها أم هل رأيت البحر يأتينا في بيوتنا لنركبه إلى الشطء المحنون إليه؟ روضني على التفكير. خذ بيدي. خذ بما تيسر لك مني نحو ذلك الضوء الذي تراه (من باب الفرض على الأقل) ثم تأت لعيني وتلطف في فتحها. إن الغشاوة التي تركبها إنما أمرها موكول إليك. وما هي بالمستعصية والله! ولكن إياك والسطو على تآليف غيرك ولا سيما الفرنجة، فإنما روحك التي أتلمسها فيما تكتب، ومن روحي إلى روحك رسول، ألسنا من جبلة واحدة؟

المرأة قوام الأدب!

المرأة عندنا لم تعرف بعد ما المرأة. فإن كانت مثقفة فإنما يشغلها التحرر والنسج على منوال الإفرنجية في مظاهرها. وإن كانت أمية فإن هي إلا عرض في عينيها. آه لو عرفت المرأة أن الأدب منها واليها! لأن بين يديها مفتاح الغبطة والألم. ومن ذا الذي يلقنها هذا غير الاديب، بل من ذا الذي يقفها على وليجة نفسها غيره؟

الجانب الأعظم من أدبنا أشبه شيء بصحراء رباها متناسقة ورمالها متناسبة وليس فيها بئر ولا نخل، حتى إذا جزتها وفوزت أصبت عند مخرجها آباراً مهجورة ونخلاً تكاد الوحدة تصرعه. إن البيئة الشرقية مقسمة قسمين: هنا الرجال وهنالك النساء. وما أدري - حتى اليوم كيف يستمرئ الرجال العيش على هذا النحو الشاذ. ولذلك ترى أدبنا المحدث غير طبيعي في جملته؛ أما الشعر فمصنوع، وأما القصص فملفق، وأما الرسائل فجافة

وإذا فوض إلى الأديب أن يرشد المرأة إلى سريرة نفسها، فمما وكل إلى المرأة بعد هذا أن تلهم الأديب من طريق مباشر أو غير مباشر، وأن تهذب القارئ بلطف حسها فتقوم مقام الهمزة الدقيقة تصل بين الأدب الحق والمتطلع إليه

بشر فارس

رَجْع: في مقالي المنشور في العدد الماضي من الرسالة (250) وعنوانه (في المذهب الرمزي) (تعليق)، بعض هفوات، منها: وكان لأجل، والصواب: لأهل - والصواب: - والصواب: - أو والصواب: الـ - الطبيعة البشرية الموثوقة، والصواب: الموثقة - ' والصواب: ' بين التأثيرية، والصواب: التأثرية - أن أدفع وهماً، والصواب: وهماً ممكناً

ب. ف