مجلة الرسالة/العدد 252/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 252/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1938



تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(ترجع بعض أسباب (الإضراب) إلى أن الطلبة يتصورون نظام المدرسة مفروضاً عليهم، ويتصورون أنفسهم جزءاً منفصلاً عن ذلك النظام.!)

(لا يستطيع ذو الساعد القوي إلا أن يوجد في المدرسة نظاماً آلياً لا روح فيه.!)

(يجب أن يعرف الطلبة أنهم عندما يثورون ويضربون إنما يفعلون ذلك ضد أنفسهم.!)

(لسنا نريد أولئك الأساتذة الذين يلقنون الطلبة العلم فحسب، ولكن أولئك الذين يحدثونهم أيضاً في أشياء كثيرة ويوحون إليهم أمثل أساليب الحياة.!)

(من رسالة الدكتور جاكس)

5 - النظام

تناولت في المقال السابق أزمة المتعلمين العاطلين ببعض الشرح والتعليل، وقدمت بعض ما ينبغي أن يؤخذ به درءاً للخطر وتلافياً لنتائجه القريبة والبعيدة، وسأتناول اليوم ناحية أخرى هامة هي ناحية النظام المدرسي وأثره في نفوس النشء:

1 - النظام الحاضر

ولعلك تدري ما هو النظام الحاضر وما هي نتائجه! لعلك تعرف أن (الآلية) تغلب على ذلك النظام إلى حد خطير يجعل المدرسة غير محبوبة، ويجعل (الإضراب) محتملاً لأهون الأسباب! ولعلك تعلم فداحة نسبة الغياب والتأخر في معاهدنا وكثرة ما نحتاج إليه من عقاب وخصم وتنبيه وتحذير في كل صباح! أجل، ولعلك تعرف بعد هذا ما قد يحدث من هروب بالليل أو بالنهار، ومن (تزويغ) من بعض الدروس إذا اقتضى الحال! ومن حلول الفوضى والاضطراب إذا غفلت عين الناظر أو الأستاذ، واختفت العصا وزال الوعيد والتهديد والرفض والإنذار!! أجل! ولعلك تعلم أيضاً أن المدرس قد يلقى من العناء في حفظ نظام الفصل بعض ما يلقى من العناء في التدريس! وأنه يحتاج أحياناً لأن يكون شرطياً أكثر مما يحتاج لأن يكون أستاذاً!! لعلك تعرف ذلك كله، ولعلك تدرك منه أن (النظام) قائم عندنا على القوة والإرهاب أكثر مما هو قائم على الرغبة والشعور، وأن ما يشوب حياتنا خارج المدارس من فشل أو فوضى بسبب انعدام المنطق فيها إنما يرجع إلى أن المدرسة لم تفلح بعد في غرس النظام فينا وجعله دماً يجري في العروق قبل أن يكون مظاهر وقشوراً!! وإلى أنها لا تزال تبدو كريهة غير محببة ولا مغرية، يبهظنا نظامها، ويرهقنا عملها، وتثقلنا واجباتها، ولا نرى فيها بعد هذا من المتعة والنعيم ما قد يخفف من هذا الإرهاق وذلك الإبهاظ!!

أترى لو كان الأمر على غير ما أقول: أكان الطلبة يضربون ويتركون فصولهم لمجرد استقبال زيد أو عمرو مهما قيل في ضعف الإدارة المدرسية أو الإشراف الوزاري؟؟

أترى لو كان حب النظام متغلغلاً في نفوس الطلبة: أكانوا يهددون بالإضراب كلما عنت لهم حاجة، فإذا ما أضربوا انقلبوا إلى جماعات ثائرة متمردة، وأعلنوا على المدرسة معاملها وأثاثها - وأحياناً ناظرها ومدرسيها - حرباً عواناً لا تبقى ولا تذر؟

ذلك إذاً نظام آلي تعسفي مبغوض!، وتلك إذاً نتائج خطيرة تسود حياتنا الخاصة والعامة وتجعل الفشل والاضطراب نصيبنا المحتوم؛ وإذا كان (النظام الحق) سر عظيم من أسرار النجاح تتحلى به الشعوب العظيمة كالإنجليز والألمان، فما أحوجنا في نهضتنا الحاضرة ومركزنا الحربي الدقيق إلى التحلي به والأخذ بروحه وتفاصيله. . .!؟

سبيل الإصلاح

ويرى الدكتور جاكسون أن الإصلاح إنما يتأتى عن طريق تعليم الطلبة كيف يحترمون (السلطة المشروعة) إذ ما معنى أن يتملك زمامهم نفر من خطبائهم ومهيجيهم، ويقف ناظرهم وأساتذتهم عاجزين حتى عن توجيه الكلام إليهم؟؟ كذلك يجب ألا نقبل أبداً التهديد بالإضراب كوسيلة منتجة تحقق لهم طلباتهم؛ وإنما يجب أن نعاقب الداعين إلى الخروج على سلطة الناظر عقاباً صارماً رادعاً، وألا نستجيب إلى طلباتهم إلا إذا اتخذوا في رفعها ومناقشتها الطريق المشروع والأسلوب اللائق بطلبة يتثقفون ويتهذبون!، أما نظام المدرسة الذي له ضلع كبير في تلك الحالة الشاذة فيجب أن يتبدل بحيث يصبح أكثر مرونة، وبحيث يشعر الطلبة أنفسهم أنهم جزء فيه لا يتجزأ!، وبذلك يصبح إضرابهم موجهاً ضد أنفسهم، ويصبح إخلاصهم للمدرسة خير ضامن لانتظامهم في عملهم واحترامهم لقانونهم.

ويتطلب ذلك النظام الجديد منا أن نفهم الطفل خطأه قبل أن نثور عليه ونصخب في وجهه؛ وأن ننشد منه الطاعة المصحوبة بالرضا والاحترام قبل أن ننشد منه الخضوع الممزوج بالرهبة والخوف؛ وأن نعامله معاملة ديمقراطية ونعرف له حقه كعضو في جسم حي متعدد الأعضاء؛ وأن نقنعه بأن خطأه إنما يعود على المجتمع الذي هو عضو فيه مما قد يثير غضب هذا المجتمع عليه؛ وأن نجعل لجسم المدرسة غاية سامية في رأسه ونطالبه بالمساهمة في تحقيقها كعضو فعال في ذلك الجسم؛ وأن ندخل في المدرسة ذاتها من أساليب المتعة والإغراء والجمال والفن، ما يزيد في تحمسه لها وشغفه بها حتى يعز عليه أن يتركها أو أن يعبث بجلالها ووقارها؛ وأن نقدم له مدرسين من طراز خاص يستطيعون أن يمتزجوا بنفسه، وأن يحدثوه في أشياء كثيرة، وأن يلقنونه أمثل أساليب الحياة؛ وأن نربط ما بين بيته وبين المدرسة برباط متين، فيلتقي الناظر والمدرسون في الآن بعد الآخر بأهله مجتمعين مع أهل زملائه في ساحة المدرسة حيث يدور النصح والإرشاد، ويتحقق تعاون المدرسة مع البيت على نحو مأمون

وأن ندفع به إلى مختلف الجمعيات المدرسية حيث توفر له مجتمعاً صغيراً له غاية ولإفراده من الحقوق والواجبات والقانون والنظام ما يؤهله لأن يكون عضواً حياً في جسم حي

وأن نتيح له من ألوان الرياضة البدنية ما ينمي جسمه ويقوي عضله ويروح عن نفسه ويعلمه أن الخسارة بحق خير من الفوز بباطل، وأن المرمى واحد والجميع يعملون متعاونين من أجله

وأن نقدم له من الجوائز الأدبية والمادية ما يثير فيه روح المنافسة الشريفة، ويحببه في العمل الذي قد جوزي عليه خيراً، ويجعل مجده الشخصي عائداً على مجد المدرسة كلها بالعظمة والخير. .!!

بذلك وبغيره نوجد في المدرسة نظاماً حياً يمتد من الملعب إلى حجرة الدرس، ويتحقق في حضور الرقيب كما يتحقق عند غيبته، وبذلك وبغيره نستطيع أن نخرج الرجل الاجتماعي المنشود الذي يرعى قوانين أمته، ويطيع عرفها، ويندمج في وحدتها الكبرى غير ناظر إلى رياسة تذيع اسمه، أو منصب يدر عليه الخير، أو شخص يحسده ويسعى إلى تحطيمه بالمنافسة الشريفة وغير الشريفة.!!

ولعلك تعرف بعد هذا أن قوام ذلك النظام المنشود إنما هو الناظر والمدرسون، فترى ماذا يمنع نظارنا ومدرسينا من أن يوجدوا هذا النظام في معاهدهم؟ ذلك ما أدعوك اليوم إلى التفكير فيه، وما سأحاول أن أعرض لبعض نواحيه في العدد القادم. .

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية