مجلة الرسالة/العدد 252/هل تقوم للأدب دولة؟

مجلة الرسالة/العدد 252/هل تقوم للأدب دولة؟

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1938


معالي مصطفى عبد الرازق بك

صديقنا صاحب المعالي الشيخ مصطفى عبد الرازق بك وزير الأوقاف إمام من أئمة الدين، وعلم من أعلام الأدب، وسري من سراة الأمة، نشأ بحكم ولادته على النبل كما ينشأ ابن الملك على الملك، فهو في خلقه وسمته يجري على سراح الطبع الجميل، لا يتكلف ولا يتطبع، ولا يتصنع، ولا يقلد. وقلما تجد فقي مصر من ظفر بما ظفر به هو من إطباق الناس على اعتقاد سماحته وسراوته وفضله. ولعلك تدرك السر فيما تعرف من خلاله إذا علمت أن بيت عبد الرازق نمط لا واحد له في تقاليده وتربيته وبيئته. فهو وحده لا يزال يمثل نوعاً من الفتوة الإسلامية له خصائصه وله سننه: يرى العزة في سمو الإنسانية فيه، لا في إفراط العصبية عليه؛ ويجد المزية في سؤدد الفكر المهذب والخلق السجيح، لا في سطوة المال المكنوز والجاه المتسلط؛ ويمثل المدنية الحديثة تمثيل المعدة الصحيحة للطعام الهنيء فلا تكون إلا مدنيته الخاصة فيها سره وعليها طابعه؛ ثم يسير في سبيل الحياة على سنن واضح من شهامة القلب ونزاهة النفس وشرف اللسان وثبات العقيدة وكرم التضحية، كأنما يستجيب إلى صوت في دمه، ويمشي على دليل من طبعه

ساهم في جهاد الدستور والحرية بالنفس والمال ثم عف عن الغنيمة، وشارك في ثقافة العقل والروح بالتشجيع والإنتاج ثم عزف عن الشهرة، وتهافتت من حوله بيوت المجد على الأضواء الغربية الخادعة فأضل بعضها العشا، وأحرق بعضها اللهب، وبقي هو على شرقيته ومصريته قوي الدعائم رفيع الذرى تضوع في أبهائه نفحة الإسلام، وتهش على موائده أريحية العروبة، وتخفق في جوانبه روح مصر

والشيخ مصطفى يلخص في شمائله أمجاد هذا البيت، فهو سر وراثته وعطر أرومته وجملة ماضيه. فإذا جلست إليه في ألفة أو كلفة غمرك منه شعاع لطيف يملك نفسك من غير سطوة، ويبسط شعورك من غير خفة؛ ثم تحس في تواضعه سمو الكبرياء، وفي وداعته أنفة العزة، وفي بساطته جلالة النبل؛ فلا تستطيع أن ترد هذه الخلال فيه إلى الحد الذي تواضع عليه الناس في تعريف الخلق؛ إنما تنتهي إلى أن شخصيته الجذابة واحدة الطراز لما تهيأ لها من أثالة المنبت وزكاوة العرق وسعة الثقافة وسلامة الفطرة وجما القدوة

رأيت الشيخ مصطفى طالباً في الأزهر، وعرفته أستاذاً في الجامعة، وزرته عضواً في الوزارة، فلم أجده في كل حالة من هذه الحالات إلا على الوجه الذي لقي به الدنيا، لم يتغير فيه لسان ولا عين ولا مخيلة؛ ومزية المعدن الكريم ثبات وجهه على لونه، وبقاء جوهره على نقائه. ولو أن وجوه الناس تثبت على تقلب الحظوظ لما تنكر صديق لصديق ولا تجهم وطني لوطن

لله ما كان أنبل وأجمل حين دخلت على الشيخ الوزير مكتبه في الوزارة من غير وقفة على حاجب الباب أو جلسة لدى مدير المكتب! لقد كان في زيه الوطني الجميل ملء العين والنفس والشعور، يوزع التحيات على عادته ببسماته الرقيقة ونظراته الوديعة وكلماته الحلوة، فيجعلك تشعر أن الوزير منك، وأن الوزارة لك، وأن الأمر بينك وبين أولياء الحكم كما يكون بين الأب وأعضاء الأسرة.

كان سروري وأنا أهنئ صاحب المعالي وزير الأوقاف أقرب إلى أن يكون سروراً بنفسي؛ فقد وقع في وهمي أنني أساهم في هذه الوزارة بنصيب مبهم شائع لا أجهله ولا أدريه. ولعل مبعث هذا الوهم أن الوزير أزهري وصديق وأديب، وصلته بالناس من جهة الثقافة أو الصداقة أو الأدب يجعلها وفاؤه الطبيعي أدنى إلى النسب الشابك والقرابة الواشجة

أما بعد فإن استيزار أميرين من أمراء الأدب لهو فتح مبين لدولة القلم. فإن النهضات العلمية والأدبية في تاريخ الفكر لم تزدهر إلا في حمى ملك أو كنف وزير. والوزراء الأدباء أمثال ابن العميد والصاحب ابن عباد والمهلبي وابن زيدون وابن الخطيب لا يزالون عناوين فاصلة في تاريخ الأدب. فإذا ناط رجال الثقافة والصحافة آمالهم بوزير الخير مصطفى، وبوزير الجمال هيكل، فإن دلالة الحال تعلن أن مواتاة هذه الفرصة في صباح عهد الفاروق حين صدقت النيات على الاستقرار، وتهيأت النفوس للعمل، إيذان من الله بتيسير السبل لأمة العلم أن تنهض ولدولة الأدب أن تقوم.

أحمد حسن الزيات