مجلة الرسالة/العدد 253/إيضاح وتعليق

مجلة الرسالة/العدد 253/إيضاح وتعليق

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1938



بحث في الرمزية

للأستاذ زكي طليمات

مفتش التمثيل بوزارة المعارف

نشر الأستاذ الدكتور بشر فارس تعليقاً ضافياً في المذهب الرمزي نشرته الرسالة في عددها رقم 251 جاء تكملة لبحثه القيم الذي صدر به روايته (مفرق الطريق)

والحديث في الرمزية شيء يطول، فلا تحلو مطالعته في مجلة تحرص على أن تقدم لقرائها نبعة من كل ينبوع

بيد أنه يعنيني من تعليق الأستاذ شيئان لهما اتصال وثيق بما سبق أن نشرته عن الرمزية في هذه المجلة منذ ثلاثة أسابيع. .

الأمر الأول هو ابتهاج الدكتور بشر بأن يراني أعمد إلى بعض تراكيب جرت في توطئة مسرحيته المذكورة في التعبير عن معان وألوان في الرمزية. وهاأنذا أبادر بتسجيل ما يزيد في ابتهاج الأستاذ الدكتور، بل ويبعث زهوه، فأصرح بأنني حقاً عمدت إلى اقتباس تركيبين أو ثلاثة تراكيب وجدت فيها التعبير الكامل عن خلجات وآراء كانت تجول في نفسي منذ أن كنت أدرس الرمزية في الإخراج والتمثيل في معاهد أوربا. ولا يسعني إلا أن أهنئ الأستاذ الدكتور على توفيقه في إيجاد هذه التراكيب وإطلاقها حية قوية تنبض بالمعنى البكر، وتشق طريقها بين التراكيب الفنية والأدبية لتستقر في صلب اللغة العربية

أما الأمر الثاني، فالتباس عرض للأستاذ الدكتور حينما أردت أن افرق بين طبع الدكتور فارس وطبع غيره ممن عالجوا الرمزية من قريب أو من بعيد، فأجريت في مقالي الثاني ما نصه: (فبشر فارس وتوفيق الحكيم يغترفان من مصدر واحد، الأول يكتب متثبتاً بما تلقنه. . .)

ولا يسعني أن أعلق على هذا قبل أن أبدي عجبي من ذلك الالتباس الذي خالط ذهن الدكتور؛ إذ المعنى جلي واضح العبارة، يزيده إيضاحاً ما أوردته في صلب ذلك المقال، وفي نقدي السابق لمسرحيته (مفرق الطريق) الذي نشرته الرسالة قبل بحثي في الرمزية.

قلت: إن بشر فارس وغيره من الكتاب الشرقيين يغترفون من معين واحد؛ وإذا اغترف كاتب من معين، فمعناه أنه تلقن مبادئ وأساليب معينة. إلا أن هناك من يكتب وقد اخذ متثبتاً بما تلقنه، ومن يكتب وقد خالط ما تلقنه خيال طارئ

هذا وقد أعطيت الشيطان حقه حينما أنصفت بشر وتوفيق الحكيم بما نصه: (إلا أن لكل منهما طرائقه في التعبير عن رمزيته) فالأستاذان كاتبان مجيدان في الرمزية، ولكل منهما سحره فيما يكتب، ولا يضير الاثنين أنهما يصدران عن نبعة واحدة مادامت طرائق كل منهما تحمل طابع شخصية مستقلة

وزيادة في الإيضاح أقول إن منحى بشر فارس في الرمزية هو منحى يقوم على التأثر الدفين تمازجه الوجدانيات والفلسفة، في حين أن منحى الأستاذ توفيق الحكيم يأخذ سمت السخرية بالعواطف ليدلل على إفلاسها أو ليناقش عابثاً هازئاً بمدركات مجردة؛ وكلتا الرمزيتين لها طلاوتها، ولها فلسفتها، ولها أسلوبها في الكشف عن الغامض والمبهم والتائه في لفائف الروح

أما ما ذهب إليه الدكتور فارس من أن مسرحيته تستقر في الرمزية المستحدثة - فأمر لا يغير شيئاً من منحى مسرحيته مادامت تصعد إلى الرمزية الأولى التي شرحناها أنا والدكتور بشر. فروايات (إدمون روستان) مثلاً تعتبر من صميم الرومانسية، وهي مع ذلك من الرومانسية المستحدثة كما يقول النقاد

وما الرمزية إلا خلجة من خلجات النفس خرجت ولها طابع خاص لم يلبث أن خالطته ألوان نفسية جديدة قد تحور من مظاهرها وتبدل من أشكالها، ولكنها لا تطغي على صميمها؛ وشأنها في ذلك شأن أية عاطفة بشرية. ولو أردنا أن نحصي الألوان التي داخلت الرمزية منذ نشأتها لتعذر علينا البحث ولأعيانا الأمر ولوقفنا موقف من يريد أن يقسم الشعرة الواحدة من الرأس إلى أربعة أقسام كما يقول الفرنسيون!

يبقى بعد هذا أن أبدي سروري بأنني كنت في طليعة من نوه بمقام مسرحية (مفرق الطريق) وأنا الرجل الذي يشغله المسرح عن كل شيء عداه. ويسرني أيضا أن أرى هذه المسرحية تشغل تفكير نخبة من الأدباء أمثال أمين الريحاني وميخائيل نعيمة، وحافظ محمود، وكامل محمود حبيب، والأب العلامة الكرملي، وصديق شيبوب وغيرهم. وأعجب وفي مصر نخبة من الأدباء الذي يجردون أقلامهم لكل حادث أدبي، كيف أن هذه المسرحية الطريفة لم تحرك أقلامهم بالكتابة لها أو عليها، والرواية كما قلت من قبل حدث في الأدب العربي الحديث!

زكي طليمات