مجلة الرسالة/العدد 254/آراء حرة

مجلة الرسالة/العدد 254/آراء حرة

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 05 - 1938



بين العقاد والرافعي

للأستاذ سيد قطب

كنت قد أعددت هذه الكلمة قبل أن أقرا كلمة الأستاذ سعيد العريان الأخيرة، ومقدمته لها. قلما قرأتها لم أجد أن أغير في كلمتي شيئاً. . .

وبقى أن الأستاذ يقول عما كتبت: (ومع ذلك فأن ما أتى به من النقد ليس بشيء عندنا). فإن كان يكفي في الحكم أن يقول الإنسان هكذا فيكون ذلك قضاء، فإننا - على طريقته - لا نتكلف أكثر من حذف أداة النفي فنقول: هو (بشيء) عندنا) وبذلك تنتهي!

وبقي أنه عرض بي في ثنايا مقاله بعد ما تخلى عن الرد وقال إنه مؤرخ. . تعريضا غير لائق. فما مثلي بمن يحتاج لمن يفهمه أدب الرافعي وليس فيه شيء لمثلي غير مفهوم، وما هو بصاحب طريقة في الفكر والفن، إنما هو صاحب طريقة في التعبير، وأنا أحد الأخصائيين في اللغة التي يعبر بها.

على أن هناك ما يضع حداً للجدل. أليس الأستاذ سعيد العريان يفهمه؟. بلى. فأنا إذن من باب أولى أفهمه.

سيد قطب

- 3 -

حين قال الأستاذ سعيد العريان عن نقد الرافعي لوحي الأربعين: انه بلغ فيه ذروته، وجمع كل فنونه، كان صادقا في قوله، وكنت مخطئا في الاعتراض عليه، كما اتضح لي الرأي في هذا الأسبوع الأخير!

وحين قلت: أن الرافعي أديب (الذهن) لا أديب (الطبع) وانه ينقصه (القلب) المهيأ للحب، وانه لا يعنيه إلا أن يصور الحقائق الوقتية الصغيرة في صورة خلابة، لم يكن هذا المعنى واضحاً محدداً في ذهني كما اتضح في هذا الأسبوع الأخير!

وحين ذكرت أن الرافعي ذكي، قوي الذهن، كنت متسامحاً جد التسامح أو مبالغاً جد المبالغة، ولم أعلم ذلك كله علم الأسبوع الأخير! وإليك البيان. . .

حينما أمسكت بالقلم لأكتب الكلمة الأولى بهذا العنوان، كان في ذهني ونفسي صدى مطالعاتي القديمة للرافعي، وهو صدى غامض يدل على الجملة، ولا يمد الناقد بالتفصيل.

وحينما كتبت الكلمة الثانية، لم يكن بين يدي إلا نقده لوحي الأربعين، فأبديت رأيي فيه كما رأى قراء الرسالة.

ولكنني حين رحت أتلمس الأمثلة من بعض كتب الرافعي واخترت أن أبدأ (برسائل الأحزان)، اصطدمت بالرافعي من جديد، واختلف الصدى الغامض القديم، عن الصوت الواضح الجديد. (أحسست صدق الأستاذ سعيد في نعته لنقد وحي الأربعين، فإنه - على ما به - في الذروة من نتاج الرافعي كله كما قال!

وأحسّست أنني أخطأت في عدم تحديد (الذهن) الذي قلت أن الرافعي يصدر عنه في أدبه، فمن الذهن ما هو سليم أو مريض، وما هو مشرق أو خابٍ، وما هو متفتح أو مغلق. . . إلى مالا نهاية له من ألوان الأذهان:

وأحسست أنني خدعت في (قياس ذكاء) الرافعي، ومعرفة طبيعته ودرجته، حتى ردتني إلى القياس الصحيح (رسائل الأحزان)! وإنني لأحس بالغضاضة في هذا التراجع، فيعزيني عنه (الصدق) الذي أعبر عنه حين أنصت لإحساسي وأصور حقيقة رأيي.

الرافعي أديب الذهن. ولكنه الملتوي المعاظل المداخل الذي لا يستطيع أن يسلك أقرب طريق إلى ما يريد، بل يتخذ الدروب والمنحنيات، ويلتف حول نفسه، ويعصر نفسه، مرة ومرة، قبل أن يصل إلى الحقيقة الهينة الصغيرة، التي تعثر بها الأذهان المستقيمة مدى ذراع.

والرافعي يصدر في أدبه عن ذكاء، ولكنه ذكاء اللمحة والومضة، لا ذكاء الإشراق والصفاء. الذكاء الذي يخبط بجناحه هنا، ويخبط بجناحه هناك، فيهيئ للناظر انه يرفرف ويطير، والواقع انه مكب على الثرى، وما هي إلا خفقات الجناح.

والرافعي في رسائل أحزانه يتراءى كأنما يتمطى في أغلال، أو يتنزى في وثاق، يحاول أن يتلفت من هذا وتلك، وهو ينغض رأسه ويضرب بقدميه، ويضرّس أنيابه، في حركات عصبية، ليخلق اللفظة بعد اللفظة، والجملة بعد الجملة، والخاطرة بعد الخاطرة، في جهد وعناء! وإنك لتسأل بعد قرأتها: أهذه رسائل حب؟ أو ذكرى حب؟ وأنت خليق أن تفتقد فيها الإنسان قبل الفنان.

أسمع قصيدة صدر بها أحد كتبه ولاشك أنه معجب بها، اسمع الشعر الذي يعجب من ينقذ شعر العقاد في الحب:

من للمحب ومن يعينه؟ ... والحب أهنأه حزينهُ

أنا ما عرفت سوى قسا ... وته فقولوا كيف لينهُ

إن يقض دين ذوى الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه

قلبي هو الذهب الكر ... يم فلا يفارقه رنينهُ

قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينه

قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه

فهذا الشاعر الذي ينقد شعر العقاد في الحب، هو الذي يعجبه ما يقلد من شعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر، وشعراء أواخر العهد العباسي فنسمع رنين شعرهم في:

(إن يقض دين ذوي الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه)

يعجبه هذا الذي لا يرتفع مستواه الفني على أن يذكر (قلبه) في سوق (المجوهرات) من الذهب والألماس، معتقداً أن تلك (المعادن) أثمن من (القلوب) لأنها تقوّم بالمال الكثير في السوق.

وما عن تهكم أصدر في هذا التعبير، فهي حقيقة تعززها الأمثلة الكثيرة في (الرسائل) وسيأتي هذا في موضعه.

أما القصيدة بعد هذا فخطبة منبرية، لا تعرف أن كان صاحبها محباً حياً يثير الحب في نفسه وأعصابه دفعات الحب، وينبه خوالجه وخواطره، ويعمق إحساسه بالحياة، ويضاعف شعوره، أم إنه واعظ يدعو في جفاف وجفوة إلى (عدم الاعتداء على الأعراض) بأسلوب لا يتصل بالقلوب، كمعظم خطباء المساجد في هذه الأيام:

يا من يحب حبيبه ... ويظنه أمسى يهينه

وتعف منه ظواهر ... لكنه نجس يقينه

كالقبر غطته الزهو ... ر وتحته عفِنٌ دفينه ماذا يكون هواك لو ... كل الذي تهوى يكونه

دع في ظنونك موضعاً ... إن الحبيب له ظنونه

وخذ الجميل لكي تزي ... ن الحسن فيه بما يزينه

إن تنقلب لص العفا ... ف لمن تحب فمن أمينُه

الخ. . . الخ

ولعل أصدقاء الرافعي في نشوة حين يطالعهم بهذه الصورة الذهنية:

كالقبر غطته الزهو ... ر وتحته عفِنٌ دفينه

ولكن أين هذا أيها (الأحياء) في عالم الحب الحي، وإن هو إلا (اللعب على الحبل) في هذا الميدان؟

ثم ماذا؟ ثم اسمع الشاعر الذي لا يعجبه شعر العقاد في الحب:

حسناء خالقها أتم جمالها ... سألته معجزة الهوى فأنالها

لما حباها الله جل جلاله ... بالحسن منفرداً أجل جلالها

تضنى المحب كأنما أجفانها ... ألقت عليه فتورها وملالها

هيفاء قد شب النسيم قوامها ... غصناً فإِن خطر النسيم أمالها

سيالة الأعطاف أين ترنحت ... تطلق لكهربة الهوى سيالها

هكذا نعود إلى شعراء الدول المتتابعة في التكلف والمعاني المطروقة التي يباع كل عشرة منها بقرش في هذه الأيام! ولا نرتفع عن (الأجفان التي تلقى على المحب فتورها وملالها)، ولا عن (النسيم الأعمى أو الأصم أو الثقيل الحس الذي يحسب المحبوبة غصناً، لعماه أو صممه أو ثقل حسه، فيميلها عند مروره!

وهكذا لا ندخل أبداً في زحمة الحياة وتياراتها، ولا نحس الحياة في خالجه أو خاطرة، ولا (نعيش) في هذا الحب عيشة الأحياء الذين يتأثرون بحسهم وأعصابهم وخوالجهم بجانب أذهانهم، أو حتى الأحياء الذين تلتفت أذهانهم وحدها إلى صور الحياة وأشكالها، ودوافعها وأمواجها ولو لم يندمجوا فيها، ويتأثروا بها!

ولكن لا، فقد كسبنا التفاته ذهنية رخيصة، لا بل التفاته عرفية أو كلامية، فأن هذه الحبيبة لما (انفردت) فكانت لها صفة (الوجدانية) في الحسن (أجل جلالها) الله (جل جلاله).

فليلق بالهم إلى ذلك علماء (الكلام)، فما كتب إلا لهم وحتى لا تفهم أن الشاعر قديم، أقرا التجديد الذي تندق دونه الأعناق!

سيالة الأعطاف أين ترنحت ... تطلق لكهربة الهوى سيالها

أفبعد (الكهرباء) وهي آخر ما كشف من قوى الطبيعة قولة لقائل من المجددين الذين ينقدهم الرافعي النقد الشديد؟

فمن يكن في شك أو ظل من شك فليقرأ، ليعرف أنها لم تكن خطرة عابرة في التجديد، وإنما هي عن تعمد وسبق إصرار.

يا نجمة أنا في أفلاكها قمر ... من جذبها لي قد أضللت أفلاكي

هناك الكهرباء، وهنا الجاذبية، أبعد هذا يكون شك أو ظل من الشك؛ لا. وألف مرة لا!

ولا شيء وراء هذا العبث الذي لا نريد له نقاشاً وان كان فيه - لو شئنا سلوك طريقة الرافعي في النقد - مجال لعشرات الغمزات والتهكمات.

وقد قلت لك: أن الرافعي يغالي (بالمجوهرات) فأسمع:

يقول للصديق المفروض أن هذه الرسائل تكتب أليه. إنه سيقص له قصة حبه لا بالترتيب.

(فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدم لك تاريخ لؤلؤة فريدة).

ولست ادري الفرق لدى الفنان (الحي) بين أن يقص تاريخ صخرة وتاريخ لؤلؤة إلا أن يكون (الثمن) هو الفارق بينهما.

أفهم أن يقول: (إن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة، أما أنا فسأقدم لك قصة حياة. أو قصة بنية حية يدخل في تأليفها ودوافعها شيء غير الزمان والمكان، هو الحس والشعور. أو تاريخ نبتة تنمو من داخلها أكثر مما تنمو في خارجها) أو أي تعبير آخر يدل على أن القائل يستشعر الحياة في أعماقها، أو ظواهرها على الأقل، ويرى (القلب) شيئاً حياً، جماله في حياته، وان لم يقوّم في سوق المجوهرات بعشر ماسة أو قطعة صغيرة من الذهب! ثم اسمع: يقول في إحدى الرسائل: (أما سمعت بذلك الأعرابي الذي قيل له: ما بلغ من حبك لفلانة؟) فقال: والله إني لأرى الشمس على حائطها أحسن منها على حيطان جيرانها. . .، قد ولله صدق وبرت يمينه) فإن في كلماته الشعرية لأثراً من (عينيه)، إذ يرى الشمس على حائطها كالشمس على (البلور الصافي) لا على الحجر والمدر).

أن الأعرابي ليرتفع إلى الذروة الفنية في قولته الساذجة، ويخيِّل إليك الحياة المشرقة في (ضميره)، - لا عينيه وحدهما - وهو ينظر إلى الشمس على حائط حبيبته ويكشف عن (الخصوصية) الدقيقة التي ترى (شمس حبيبته) وكأنها خلقة خاصة بها لا يشاركها فيها سواها. . . الخ ما يتسع له التصور من ألوان الامتياز الوجداني في هذا الأعرابي.

ولكن صاحبنا لا يرى في هذا إلا أن (الشمس على حائطها كالشمس على البلور الصافي، لا على الحجر والمدر).

فمدار الجمال إذن هو نفاسة ما تطلع عليه الشمس وثمنه في السوق، ولاشك أن البلور أغلى من الحجر والمدر!

ولعله هو أو أحداً من أصدقائه لا يستطيع أن يصدق أن الشمس على (الحجر والمدر) الرخيصين أجمل؛ أو على الأقل قد تكون في وضعٍ ما أجمل من الشمس على (البلور) الغالي الثمن، وذلك عند (الطبع) الحي، الذي يعيش في الحياة الرحبة، لا في سوق المجوهرات!

واسمع. . . في رسالة أخرى:

(ثم يجري كلامه فيها شعراً خالداً مطرداً كنهر الكوثر في رياض الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت)

أرأيت؟ الذهب والدر والياقوت!

ولا يتشكك صاحبنا في أن النهر الذي حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت أجمل من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر، ومجراه على الرمل والطين.

لا يلتفت إلى أن الأول مصنوع قد يهيج العين لحظة ثم لا تحس وراءه حياة، ولا معني أعمق من ظاهره، فتمله النفس؛ أما الثاني فهو لا يأخذ (العين) بالبريق والوهج، ولكنه يملأ (النفس) بالروعة والجمال، ويتيح لها التأمل العميق في الطبيعة، والاندماج بين الحياة الجارية في النهر والحياة الجارية في النفس، لقرب النشأة والتكوين.

لا لا. فالمهم هو البريق الذي يخلب الحس، والأهم هو (السعر) المقدر للياقوت والطين. وشتان شتان!

وبعد فقد كان في هذه الأمثلة الكفاية لتوضيح نظرتي في الرافعي والبرهان عليها، كل مثال يغني عن سواه. وقد تعمدت أن اختارها من اللفتات الصغيرة الخاطفة، وما يستجاد عند مدرسته، وهي أدل على طبيعة الفكر ومعدن الذهن.

ولكن لدي أمثلة في نهج آخر يؤدي إلى النتيجة نفسها، وموعدي مع قراء الرسالة ي ذلك كلمة أخرى بعد أن طال هذا المقال.

(حلوان)

سيد قطب