مجلة الرسالة/العدد 254/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 254/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 05 - 1938



أبرا هام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 11 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

والحق أن مسالة العبيد تزداد تعقيدا كلما تقدمت الأيام؛ ولكن ابراهام لم يكن الرجل الذي يضل السبيل إذا تعقدت من حوله مسالكها. رأى بنافذ بصيرته أن السماح بانتشار العبيد وراء الحد الفاصل معناه سيادة أهل الجنوب وبقاء نظام العبيد إلى أمد بعيد؛ ورأى كذلك أن الدعوة إلى التحرير تؤدي لا محالة إذا اشتدت إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد فينهار البناء، وتعصف بالوحدة القومية الأنواء. إذا فليتنظر وليحذر وليترقب ما تأتى به الأيام. . .

انصرف دوجلاس ولكنه قبل أن ينصرف أبى إلا أن يأتي ما يدل على طبعه، فلقد نقض العهد وألقى بعد يومين خطاباً جديداً حاول فيه أن يدافع عن آرائه، ولم يستطع لنكو لن إلا أن يظل عند كلمته، فأبى أن يتكلم وقد جعل بينه وبين خصمه ميثاقاً أن يقطعا حبل الجدل.

ولقد كان لانتصار لنكو لن على دوجلاس العظيم ذلك السياسي الملحوظ المكانة اثر بعيد في حياة ابن الغابة قاطع الأخشاب بالأمس وعامل البريد، وفتى الحانوت البائس الفقير؛ ذلك انه ازداد ثقة بنفسه فاخذ يشتد طموحه ويمتد بصره؛ وازدادت كذلك ثقة الناس فيه واشتد إعجابهم به واطمئنانهم إلى مقدرته وجدارته.

ولذلك نراه يخطو خطوة جديدة في مضمار السياسة فيطمع أن ينتخب عضوا لمجلس الشيوخ ويأمل بذلك أن يعود إلى وشنجطون. وهل كان يرى نفسه دون دوجلاس مقدرة ومكانة وهو قاهره على أعين الناس في أمر له عند الناس خطره؟ ولقد انتخب أول الأم عضواً في مجلس المقاطعة ولكنه ما لبث أن استقال منه واخذ يدعو لنفسه ليختار عضواً في مجلس الشيوخ للولايات. . . وكان منافسه في هذا شيلدز، ذلك الرجل الذي تحداه من قبل إلى مبارزة بالسيف لما كتبه لنكولن عنه في إحدى الصحف وعده هو إهانة له.

وكان الذين ينتخبون عضو مجلس الشيوخ هم أعضاء مجلس المقاطعة، وكان المجلس يومئذ يجمع أنماطا من الرجال فرقت بينهم الأهواء وباعدت الآراء، ففيهم بقايا حزب الهوجز الذين يمقتون التطرف، وفيهم الديمقراطيون أنصار مبدأ العبيد، وفيهم المعارضون لقرار نبراسكا، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن تتذبذب سياستهم حسب ما يقوم في رؤوسهم من الآراء في مسألة العبيد.

وكان يظفر أبراهام بما يتوق إليه وبما باتت زوجته تمنى النفس به لولا أن دعا الديمقراطيون في اللحظة الأخيرة إلى رجل غير لنكولن ومنافسته؛ وعندئذ أشار لنكولن على نصرائه أن يمنحوا هذا الرجل الجديد أصواتهم ليفوت الأمر على منافسه الأول إذ كان هذا من أصحاب دوجلاس بينما الآخر ممن يعارضون قرار نبراسكا؛ وهكذا يذوق لنكولن مرارة الفشل من جديد!

ولكن الفشل هذه المرة لم يبلغ من نفسه ما كان يبلغه في الأيام السالفة، فهو اليوم مطمئن إلى نصيبه من رضاء الناس وإلى حظه من الصيت والنفوذ. لقد قابل الأمر بدون اكتراث لولا ما أظهرته زوجته من غضب وحنق، على أنها ما لبثت أن رضيت وسكنت ثورتها، ذلك أنها كانت تكاد ترى رأى العين ما ينتظر زوجها من مستقبل عظيم. . .

ولم يصرفه الفشل عن السياسة كما كان عسَّيا أن يفعل في ظروف غير هذه؛ فلقد عرف أن فشله يومئذ إنما يرجع إلى أسباب لا يستخذي لها، ومن أهم تلك الأسباب ما فعله دعاة التحرير، فلقد حشروا اسم لنكولن على غير علم منه في معضديهم وراحوا يباهون به الأحزاب؛ ولقد أدى هذا إلى انزعاج كثير من الديمقراطيين إذ حسبوه قد مال إلى الطفرة في مشكلة العبيد، كذلك أنكر الهوجز عليه أن ينحرف عن سياسته القائمة على الحذر، ولقد كانوا يحبون منه اكتفاءه بمقاومة انتشار العبيد، أما أن يميل إلى التحرير فجأة فيعمل مع المتطرفين على القضاء على الاتحاد فذلك ما لا يقبلونه منه؛ وهكذا اخذ على الرجال ما لم يجنه فأصابه من الخذلان ما أصابه. . .

لا جرم انه اليوم رجل سياسة اكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة العبيد قد صار لها المكان الأول من همه فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد؛ وإنا لنرى فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف شأنه في ذلك كغيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح لديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، فما أن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية فيضل أو يهلك دونها وبذر البقية لمن يليه. . .

على انه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره وإجماعهم على التسليم له بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه اكثر من أن يكون منهم!. . .

وتوافت له فيما توافى من أسباب العظمة تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها؛ والتي تجعل العظيم يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين؛ شيء يحسونه وإن كان أكثرهم يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم والذي يسميه بعض الناس الحماسة ويسميه بعضهم الإخلاص ويسميه آخرون الأيمان والذي هو في الحق مزيج من هذا كله لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروقه. . . ومن الناس من وهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة ولكنهم حرموا تلك الخصلة فما استطاعوا في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم؛ ومنهم من لم يعظم ذكائهم ولكن يمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس. . . ومن هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدا والذي تنكرت له الأيام وعركته المحن فبقى كما يبقى الجوهر الحر لا تترك فيه النار من اثر إلا البرهان القاطع على انه جوهر حر لا مظهر. . .

وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهل رجلين من أبنائها درجاً في مدرج الشعب وبرزا من صفوف العامة وهما جورج وشنجطون وأبراهام لنكولن؛ أما أولهما فيرفع القواعد ويقيم الصرح، وأما الثاني فيمسكه أن ينهار؛ وتكون بذلك عظمة أمريكا عظمة ذات أصالة إذ لم تنشا عن تقليد أو تستند إلى مهرج من سلطان زائف، ويكون صرحها كالجبل الذي هو من أوتاد الأرض، لا كالبناء الذي يقوم على أسس يجوز عليها أن تجتث من وفق الأرض. . .

ومضت الأيام تسير بابن الغابة سيراً معجلاً وثيقاً ليؤدي رسالته، ولعله اشرف من حاضره على ما يعده له الغد القريب. اجل لعله أخذ يدرك أن مسألة العبيد مفضية حتما إلى خطوة واسعة يخطوها غداً فيحس بعدها أنه ترك في تاريخ بلاده ما تذكره به الأجيال. أقرأ كتابه إلى صديقه سبيد تقع فيه على رأيه وتتبين كثيرا مما كان يجول في نفسه، قال: (في عام 1841 قمنا معاً برحلة مملة على صفحة ماء منخفض في قارب بخاري من لوسفيل إلى سان لويس، ولعلك تذكر كما أذكر أنه كان على ظهر القارب عشرة أو اثنا عشر عبداً مقرنين في الحديد. ولقد كان هذا المنظر مبعث عذاب مستمر لي، وإني أبصر شيئاً مثله كلما لمست نهر الأهايو أو أي جهة من جهات العبيد. وخلاف الجميل منك يا صديقي أن ترى في أني لا اهتم بالشيء الذي ينطوي على قوة تكربني والذي لا يفتأ يسبب لي الكرب. لقد كنت حرباً أن تتبين إلى أي حد يقتل سواد الناس في الشمال مشاعرهم حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بولائهم للدستور وللوحدة)

في هذه الكلمة القصيرة، ينجلي لنا رأيه في مسالة العبيد فهي مبعث آلم في نفسه، ألم استقر فيها منذ القدم فما يبرحها، وهو على الرغم من هذا الألم يحرص على الوحدة وعلى الدستور وفي ذلك تلخيص دقيق لمنهاجه الذي سيأخذ به نفسه حين يهم أن يهوي بالضربة الحاسمة فهو ضنين بالوحدة أن تتزلزل كما هو حريص أن يمحو كل اثر للعبودية في البلاد. . .

لن يضيره اليوم ألا يصل إلى مقعد في مجلس الشيوخ بل ربما كان الشر في أن يظفر بهذا المقعد، فلقد كانت له بعد فشله جولات لها خطرها في حياته، جولات تنتهي به حتما إلى رياسة الجمهورية فلم يبق ثمة على الدرب إلا مرحلة. . .

وكثيراً ما يبتئس المرء إذا فاتته فرصة كأنما أغلقت بفواتها مسالك الفوز من دونه، وهو لا يدري أنه ربما كان الخير في فواتها! والحياة مليئة بالأمثال حافلة بالعبر؛ والعظماء وحدهم هم الذين لا يلويهم فوات الفرص وان ابتأست لفواتها أحيانا نفوسهم، بل انهم ليحمون على الشدائد ويستعرون على الكفاح ويستشعرون اللذة في النصر، كما يستشعرونها في ركوب الصعاب إلى ذلك النصر، ولن ينقص منها ما قد يصيبهم من خذلان.

ولقد كان لنكولن من هؤلاء البواسل الأفذاذ الذين لا يحفلون الصعاب، والذين لا يحول بينهم وبين وجهتهم خذلان مهما عظم؛ بقي في سبر نجفيلد بعد فشله ليكون في المدينة زعيم الحزب الجديد الذي تستقبل البلاد مولده؛ وهل كان غيره تجتمع عليه القلوب والأهواء؟

كانت البلاد تستقبل حزباً جديداً هو الحزب الجمهوري؛ ولقد تألف هذا الحزب من عدة عناصر يجمع بينها حرصها على مقاومة انتشار العبيد حسب ما جاء في اتفاقية سوري، فكان ينتظم عدداً من الهوجز وعدداً من الديمقراطيين وجماعة من دعاة التحرير؛ وكان قيام هذا الحزب في تاريخ البلاد فاتحة فصل جديد كما كان في تاريخ لنكو لن مبدأ عهد جديد.

(يتبع)

الخفيف