مجلة الرسالة/العدد 255/المذهب الرمزي

مجلة الرسالة/العدد 255/المذهب الرمزي

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 05 - 1938



أهو نزعة سليمة في التفكير؟

للأستاذ عبد العزيز عزت

يعزو المذهب الرمزي اسمه الفرنسي إلى مورياس في نشرة طبعها عام 1886 وفي أحد أعداد جريدة هذا المذهب عند أوائل ظهورها، وأسمها (الرامز) - بطبيعة الحال - يجد القارئ مكتوباً فيها - بحبر!! - ما ترجمته: (الشيء الموجود ما هو إلا مظهر، مظهر خداع، لأنه يكفي أن تتغير حالتي النفسية حتى يتغير وجوده) - هكذا! - ويقول العلامة مارتينو مدير جامعة بواتييه في كتابه وعنوانه (المذهب البرناسي والرمزي) ما نصه (إننا نجد عند فرلين، وعند ملارميه، وعند رامبو وكثير من الرمزيين، أن الشيء الواقع ومثوله، حاضراً كان أم ماضياً، لا قيمة له مطلقاً.

ولكن إذا كان المذهب الرمزي يبلغ من العجز أن يتعامى وينكر وجود الأشياء الواقعة، ويجعلها إضافية إلى عوارض النفس وانفعالاتها، فماذا يستعيض بها يا ترى؟؟ يجيب مدير الجامعة السابق في نفس الكتاب صفحة 140 بقوله) إن عباقرة هذا المذهب يحلون هواجس النفس وشؤم التصور وإبهام الطلامس وضعف الإقدام، في مكان الرأي الواضح).

وعليه؛ فالمذهب الرمزي في الأدب وفي غير الأدب من فن ودين، هو نوع من الغمز واللمز في التفكير، لا يستقيم له عود ولا تمتد له ظلال. ذلك لأنه مبدأ بني على الالتواء والغموض الفكري، تنعدم فيه الصراحة، ويفسد فيه الوضوح، ويختل فيه ثبات الآراء بالمعنى الأفلاطوني. ولما كانت الصراحة والوضوح هما أساسي الحقائق الفكرية الثابتة التي بدونهما لا يستقيم للعقل منطق، ولا للشعور انسجام، كما يؤيد هذا ديكارت في كتابه المعنون (مقال عن المنهج) في إحدى قواعده الأربع العقلية؛ ولما كانت الحقيقة والفضيلة متكافئتين متعادلتين في فلسفة ديكارت، فقد أضحى هذا المذهب يتناقض وأول أصول العلم الحديث، ويتعارض وبديهيات مبادئ الأخلاق، هذا من الوجهة النفسية.

والرأي صحيح إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة تطور التفكير الإنساني، على صفحة الزمان، وتسلسل المعارف البشرية وتعاقب الملكات النفسية التي عملت على خلق التراث البشري في التاريخ. هذا التطور يؤكد لنا منطقاً لا يحيد مجراه، فلا تختل له حقبة من الزمن ولا (ينفك له تماسك في دورته، وقد عبر عنه أبو التفكير الإنساني الحاضر القائم في العلوم والأدب (أوجزت كنت) في كتبه المتعددة، وخاصة في كتابيه (الفلسفة الوضعية) و (التفكير الوضعي) (وهو يلخص كل فلسفته)، فهو يثبت إن الإنسانية تطورت في ثلاث حالات: الحالة الأولى وتسمى حالة (التصوف) أو (الدين) والحالة الثانية (التجريد العقلي) التي تتمثل في الحضارة اليونانية القديمة وعلى الخصوص في فلسفة ارسطو العظيم، والحالة الثالثة تسمى بالحالة (الوضعية) التي تحتل حالة العالم في زماننا هذا أي عهد التجربة الذي يقوم على ملاحظة مظاهر الطبيعة ومظاهر النفس لتحديد (علاقاتها) وصوغها في قوانين خاصة، أو لا تؤدي حتما إلى قوانين عامة بها، ولكن للإنسان أن يستغلها عملياً ويتنبأ نما سيؤدي إلية نشاطها في المستقبل القريب والبعيد

والذي يهمنا من هذه الحالات الثلاث، هي الحالة الأولى لما بينها وبين المذهب الرمزي من التشابه. فأوجزت وكونت يعرفها قائلا: أنها تمثل مظاهر الوجود، كاحساسات نتخيلها. فهي بهذا الاعتبار في مقدور تصورنا، نتوقف على إدراكنا لها بالبصيرة): أي إن الأشياء على اختلافها لا قيمة لوجودها الذاتي، ولكن بالنسبة إلى حالة النفس وأهوائها في مناسباتها المختلفة. ويقول إنها حالة النفسية تسود عند الزنوج والقبائل المتوحشة لعجزهم عن فهم المظاهر الخارجية، ولقصر إفهامهم عن إدراك المعاني النفسية المجردة؛ لهذا يستعيضون عن ذلك برموز يقدسونها لمدلولاتها، وبحركات وطقوس يرددونها في مناسبات معينة، ظناً منهم أنها تفي بما يرتسم لها من عقيدة في أذهانهم، وبعناصر الطبيعة يفرضون عليها الحياة، ثم يؤلهونها باعتبارها قطب الاتصال الروحاني بنفوسهم الحائرة!

كذلك المذهب الرمزي يمثل نوعاً من الدخول إلى النفس والتغلغل فيها، ونوعاً من الحرية الجامحة في إمكان التصوير والتعبير لمظاهرها التي لا نستقر على قرار. لهذا كان (الرامز) لا يخرج إلى الناس في وضوح العقل وانسجام المنطق، فهو أضعف من أن يرتفع إلى هذا المستوى الإنساني وكان لا يتبادل الخير وفضل المعاملة الفكرية مع بنى الإنسان في المجتمعات البشرية؛ وكان لغموض احساساته الإنسانية وتضارب نزعاته لا يقبل على تفهم أمر الوجود العالمي ماديا كان أم تاريخيا وإنما كان يمثل حالة نفسية هي أقرب إلى المريض منها من إلى شيء آخر، يسودها محض الخيال والوهم والأنانية الفردية بعينها، لأن العالم في كل نواحيه وفي كل مدلولاته الصحيحة، وكذلك التراث الإنساني الذي اتفق على استقامته العلماء والحكماء منذ العهود الأولى يصبح باطلا؛ ويجب أن تبتدئ الخليقة دورتها من جديد، وأن تتخذ في ذلك من (هواجس) هذا الرامز أسسها الأولى. وليس بعد ذلك من دليل على الخروج على إجماع السلف والخلف وقلب الحقائق والوجود في كل شيء؛ فالتاريخ يكذب، والمنطق يحتضر، والإجماع ينكر. . . وإنها لنزعة تذهب بالإنسانية إلى عهد تهيم فيه على وجهها في الأرض، فلا تخرج عن حد الفطرة والعراء!

وثالثاً - فان الرأي صحيح كذلك من الوجهة الاجتماعية، لأن العلم في نظر أبي الاجتماع الحديث (دركيم) هو التعاون المشترك بين العلماء. ونشوء المدارس الفكرية، التي تبغي إقامة قوانين ثابتة لمظاهر الوجود في كل شيء ترتكز على نظريات يدعمها البحث والاستقصاء. وهو أيضاً إشراك الناس في مفهوم الحقائق المكتشفة، ورفع الغموض والالتباس عن إفهامهم ليقروا في إجماع الحقائق واضحة. فالعلم إذاً مظهر من مظاهر الاجتماعي البشري مهمته خلق التماسك الفكري في عقلية الفرد عن طريق الوضوح، وخلق نفس هذا التماسك في عقلية الأفراد عن طريق ثبات الآراء والنظريات، لأنه كلما رفع الجهل والغموض والإبهام عن عقول الناس زاد (الوفاق) فيما بينهم، لاتحادهم في نفس وجهات النظر والتفكير

وأكبر دليل على صحة ما نقول هو أنه عندما ساد مذهب السوفسطائية في المجتمع اليوناني القديم الذي يرتكز على مبدأ (الشك) ومرض (الحيرة) الفكرية، لأنهم كانوا يبشرون بنظريات يصح أن يلقنوا الشبيبة نقيضها في الغد، فالعلم في نظرهم هو علم (الفرد) وعلم (المناسبات)، وعلم الفصاحة والثرثرة والرغاء، لهذا ساد الفهم (النسبي) للحقائق في ذلك الزمان، وأدى المنطق الفاسد إلى سوء الأخلاق لعجزهم عن تصور علم واحد ذي منهج واحد يوجد بين الناس ويوجه أفكارهم إلى الغايات المتحدة في الفهم، فلزم للقضاء على السوفسطائية قيام ثلاث ثورات لتنظيف المجتمع اليوناني من أدران أفكارهم: الأولى ثورة سقراط في الأخلاق، والثانية ثورة أفلاطون في الطبيعة، والثالثة ثورة أرسطو في المنطق. والمذهب الرمزي كالسفسطة ينعدم فيه الفهم الاجتماعي، لأنه يرجع الحقائق إلى محض (الفرد) أي هواجس نفس الرامز وتصوراته الملتوية وغموض احساساته التي تخرج عن أساليب المنطق، وتتناقض وعرف المجتمعات البشرية. لهذا كان هو مذهباً أنانياً أشد خطراً من الشيوعية بل ومن الفوضوية؛ لأن هذه المذاهب على ما بها من قبح دنيء تبغي في النهاية نوعاً من الخير للمجموع في نظامها الخاص المبتور. ويؤيدنا في رأينا هذا مدير جامعة بواتيية السابق الذكر، في كتابه صفحة 142 إذ يقول (المذهب الرمزي مذهب ثوري يركن إلية الشبان باسم التجديد لهدم النظام السياسي والاجتماعي والعقلي والفني الذي قد ورثوه عن سلفهم الصالح في بلادهم. ولهذا يجب أن يتخذ القائمون بالأمر فيها الحذر من مثل هذه النزعات الطائشة والصرخات الجامحة، التي تبغي قلب نظم المجتمعات الهادئة التي تساير التطوير العام لدورة النشاط المتزن في سائر أمم العالم)

(ويقول هذا العلامة كذلك في صفحات 209، 210، 211 من نفس الكتاب: إنه بالرغم من قيام مبادئ الحرية التامة في التعبير عن الآراء في بلد كفرنسا، وبالرغم من أن هذا البلد يعيش خاضعاً لمبادئ الثورة الفرنسية التي يدين بها نظام الحكم الجمهوري فيها، فإن المذهب الرمزي عندما ابتدأ ظهوره وأخذت (أبواقه) ترتب الدعاية والنشر له، قامت قائمة الناس في فرنسا وسموه (النزعة الجنونية) لما يتضمنه من القضاء على الروح الاجتماعية والتضامن بين أهل البلد الواحد. ولهذا أجمعت الناس في فرنسا على جموحه وشره الفتاك، وقاوموه بكل ما عندهم من قوة، وأمكنهم - كما يذكر العلامة المدير - أن يقضوا علية في عشرة أو خمسة عشر عاماً من ولادته، ودفنوه (غير مأسوف عليه)

وأقول بعد ذلك: إن مذهب (الرمزية) من أصول الكثلكة. فهي تذهب إلى نوع من التصوف يغمض كثيراً على عقول تابعيها. لهذا تعمد لتقريبه إلى إفهامهم إلى رموز خارجية محسوسة، كل منها له معنى بعيد يكفل لهم نوعاً من الترجيح في التصور. وهي في هذا تسير على الخصوص مع تعاليم القديس أوغسطين الذي كان يعتقد أن ليس هناك دين صحيح أو باطل، إلا وله ولتابعيه اتفاق محدود على رموز معينة لها مدلولات خاصة تنحصر فيها إفهامهم. وهذا ما دعا بعض الناس إلى اتهام الكاثوليكية بالوثنية، وعلى الخصوص عندما صرح رؤساؤها بأن المذهب الغالب في تعاليم الكنيسة هو مذهب القديس توماس؛ لأن هذا الحبر الكبير كان يخضع في تعاليمه إلى فلسفة أرسطو. والكل يعرف أن هذه فلسفة أرسطو هي فلسفة الصنم، لأن أساسها كأساس سائر الفلسفات القديمة. وكذلك فلسفة ديكارت في العهد الحديث هي علم الألهيات، وهذا العلم تنحصر أبحاثه في تحديد طبيعة العناصر الأولية التي بها يجب أن يتحقق الشكل الكامل في الهيولا العارية فيبدو ناصعاً كحقيقة وكغرض. وصحة قولنا هذا تؤيده نظرية تقسيم العلوم في هذه الفلسفات، وما كتبه على الخصوص العلامة المشهور رافينسون وهاملان عن أرسطو.

عبد العزيز عزت

عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة