مجلة الرسالة/العدد 255/نزاهة النقد

مجلة الرسالة/العدد 255/نزاهة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 05 - 1938



للأستاذ عبد الفتاح غندور

رأينا ما كتبه الأساتذة خصوم الرافعي وأنصاره فسرنا أن نلتمس النقد وساءنا أن نجد ما لا يرضي. وما كان لمثلي أن يلج هذه المعركة ناقداً أو حكماً قبل أن تنتهي لئلا يفوتني شيء من مواقفها فأصدر عن جهل فيما أحكم وأقايس، فأقع في السنة النقاد وأقلامهم، ويالها من ورطة حامية الوطيس إذ ذاك. غير أني آثرت الإقدام إذ وجدتني مضطراً - بعد تفكير - لتقديم رأي قبل أن تنتهي هذه المعركة، ويلوح لي أنها لا تنتهي، لعلي أصل إلى بعض ما يمكن أن يصل إليه حكم عدل وناقد بريء. فأقول:

قبل كل شيء يجب أن نعرف أن كل إنسان يستطيع أن يسيء وليس كل إنسان يستطيع أن يحسن وإذن فلا يصح أن يعتبر السوء يوماً ما أداة لمفخرة أو تكأة لمكرمة، لأن الناس كلهم فيه سواء ولأنه سوء أيضاً؛ وعلينا أن نتوسع في معنى السوء - كما نتوسع في معنى الحسن - ولندرك جميع شظاياه التي تفتك وتؤذي. وإذا توسع الأديب في ذلك أدرك الخطر وتسنى له أن يطير - كما يطير في كل مجال - إلى خيالاته العذبة ليفصل على جسم هذه الحقيقة ثوباً يليق، حتى إذا ما رأى حقيقة ماثلة بثوبها الخيالي الفخم أعطي كل شيء حقه ثم أهتدي إلى أن هذا الضرب من المعاملة الخشنة لا يجدي ولا يفحم، بل يؤذي ويؤلم، ولا سيما إذا كان مصدره الأدب والأدباء والنقد والنقاد

عاش الرافعي ليكتب أدبه ثم يموت؛ وقد أراد الله للرافعي أن يكون في هذه الدنيا عجباً، وشاء أن يجعل أدبه نسخة عجيبة لم ينسج على منوالها قلم لتكون مشكلة من المشاكل التي يختلف عليها الناس فيذهبون في تأويلها مذاهب شتى وللناس مذاهب فيما يعشقون

أما الرجل فقد مات، وأما أدبه فموجود، وأما آراء الناس فيه فكثير؛ ويعجبني التقدير للجهد والاحترام للأدب والإنصاف في النقد والحسن في الخلق. وإذا تم للرأي في هذا القانون والكامل أصدر عن روية ونقد في نزاهة وسبر غور الموضوع كالطبيب الماهر الذي كيف يحتال للجراحة وتفاصيلها ليصح المريض على يديه لا ليموت. وبعد ما مات الرافعي جعلت أرقب أقوال الناس، أرهفت أذاني وأيقظت نفسي؛ وكان أن كتب الزيات وغيره مقالاتهم في هذا الشأن فجثمت لقرأتها والتأمل فيها فأجتمع لي بعض الرأي وأعقب ذلك فترة طويلة كان العريان فيها يكتب تاريخ الرافعي، على أنني كنت أرقب حلول مفتتح هذا العام لأقرأ مقالات الأدباء بمناسبة مرور عام على وفاته، فظفرت في الرسالة بمقالة عنوانها (بين الرافعي والعقاد) للأستاذ سيد قطب فالتهمتها التهاماً؛ ثم عدت مرة أخرى أروي تأملاتي فيها فلذ لي من الأستاذ أدبه وذكاؤه وصراحة ضميره، وتمنيت أن لو ضم إلي ذلك حسن المواجهة ولين المجابهة تجاه أخيه الأديب الذي هو شريكه في الشعور والفكرة والقلم. وأخذت أفكر في حسن هذه المواجهة وكيف يجب أن تكون؛ وقلت ما كان ضره لو قال قولاً أرق وأحسن وأدعى لحرية النزاهة: يا ليته ويا ليته. . . وأستميح الأستاذ أني كنت أخذت عليه ما كتب كما أخذت على الأستاذ محمود محمد شاكر ما أملاه في الرد أيضاً، ولكنه معذور بعض العذر لأن الجروح قصاص. ولو كتب الأستاذ شاكر رداً جميلاً أرق مما كتب فهل كان الأستاذ قطب يستمر ويزداد في غلوائه يا ترى؟ ولا أدري هل يحجني الأستاذ شاكر بأن الأستاذ قطب قد شن الغارة دفعة وغلا ثم غلا وتحدى أصدقاء الرافعي فكان لزاماً أن تحفظ كرامة الرجال وكرامة الشعور فرددنا عليه بما يلائم المقام؟

وهنا يجدر بي أن أذكر ما كان وقر في نفسي اتجاه أستاذي الكبير (الزيات) حفظه الله عند ما كتب الأستاذ قطب حديثه هذا. . . ليغفر لي سوء ظني على رغم أن لي مندوحة عن هذا الغفران بالتوبة المستورة، ولكن الأديب يلذ له إظهار ما يخفيه الناس. قلت في نفسي كان يحسن بأستاذنا أن يعتذر من نشر مقال الأستاذ قطب أو يكتب له كلمة على الأقل في هذا المعنى ويبين له فيها وجه الأحجية وحسن الاختيار في العدول عن هذه الخطة لا حباً للرافعي، ولا بغضاً للأستاذ قطب، بل تحرياً للأولى واحتياطاً لما سينجم عن ذلك كله. ولما صدر العدد 253 والعدد 254 وقرأت مقالي الأستاذ الزيات عن الرافعي أخذتني - والله - هزة الطرب ونشوة الأدب لما فيهما من الصفاء النقدي النزيه الذي لا تشوبه ثورة ولا تخالطه كدرة، حتى لكأن هذين المقالين صورة روحية للرافعي لو صبتا في قالب الحياة لكانتا هما الرافعي نفسه. ولا تؤاخذني يا صاحب الرسالة فيما رميتك من سوء الظن. وما كنت أدري أن سماءك الصافية ستغدق وابلا من الخير والجمال والحياة تعلمنا فيه - معاشر المتأدبين - كيف نرتع في رياض الأدب الجميل الذي لا تصلح له إلا ملائكة السماء أو ملائكة الأرض ليكون مثلا أعلى للناس دائما

ماذا يضيرني إذا قلت للمخطئ إنك مخطئ بدلا من أن أقول له إنك غبي. . . بليد. . . لا، بل يجب عليّ - وأنا أديب - أن أحتال في إفهام المخطئ خطأه من غير أن أصارحه به ما دام هناك شعور رقيق وإحساس مرهف. وما دمنا نحمل بين جوانحنا الإنسانية المتأدبة التي تحتم علينا الإحسان والرفق والمودة فلن نجد إلى غيرها سبيلاً

أرأيت ما الذي أثار الرافعي والعقاد تلك الثورة المشهورة؟ أليس رضاء النفس والشهوة والكبرياء بما حصل، أليست تلك زلة الإنسانية التي أبتلى الله بها البشر؟

آه! ما أحوجنا إلى أدب صاحب الرسالة عسى أن نلتقي جميعاً ذلك اللقاء المحبب ونضم تلك الأجنحة بعضها إلى البعض لتطير في آفاق الجمال واللذة والنور وندخل في عالمنا الحافل المليء بأعاجيب السحر وأناشيد الخلود، ذلك خير مستقر وأحسن موئلا

وأخيراً أرجو الأستاذ قطب أن يحسن بي الظن ما استطاع وألا يظن أني قصدته وحده فيما كتبته. إن ذلك عام ما خصصت به أحداً، وإنما كان الأستاذ قطب السبب في ذلك ليس غير، فله شكري وأخوتي ومحبتي هو وإخوانه الأدباء

(دمشق)

عبد الفتاح غندورة