مجلة الرسالة/العدد 256/حول المذهب الرمزي

مجلة الرسالة/العدد 256/حول المذهب الرمزي

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1938



للأستاذ محمد فهمي

تناول الأستاذ عبد العزيز عزت المذهب الرمزي في مقاله الأخير بالعدد (255) من الرسالة (الغراء) فجاء بآراء تجعل القارئ يقف متسائلاً. . . ماذا يقصد الأستاذ عزت بهذا؟! هل يقصد الرمزية في الفلسفة أم يقصد الرمزية في الأدب والشعر؟ فأن كان يقصد الأولى فأنه لم يحدد غرضه، لأن ما ساقه من آراء العلامة مارتينو في كتابه (المذهب الرمزي والبرناس) (إننا نجد عند فولين وعند ملارميه وعند رامبو وكثير من الرمزيين أن الشيء الواقع وقبوله حاضراً كان أم ماضياً لا قيمة له مطلقاً) وليس في هذا إشارة إلى رمزية في الفلسفة. إذن فالأستاذ يقصد رمزية الأدب والشعر وهو ما يفهم من ثنايا مقاله ومن الأمثلة التي ساقها وأسماء زعماء الرمزية الذين ذكرهم. ومن العجيب أن يخلط الأستاذ في الاستشهاد والرد والتجريح هذا الخلط الذي يبعده عن خاصّية تحديد الموضوع تلك الخاصّية التي يتوخاَّها كل دارسٍ للفلسفة مثل الأستاذ الفاضل.

فالمعروف أن الفلسفة شيء والشعر والأدب شيءُ آخر. وأن المذاهب الفلسفية غير المذاهب الأدبية وان كان التفاعل متصلاً بين هذه وتلك، ولكن عن طريق الاحتكاك والتأثير لا عن طريق الاندماج؛ فلكلٍ ميدانه ومنطقته. فالفلسفة مظهر نشاط التفكير العقلي؛ وأما الآداب والشعر فمظاهر لانفعالات الحسّ وهواجس الروح.

فما شأن آراء أوجست كونت (في كتبه المتعددة عن الفلسفة الوضعية والتفكير الوضعي برمزية الأدب والشعر؟! وما شأن رأي أبي الاجتماع الحديث (دوركيم) في العلم برمزية الأدب والشعر؟! وما كانت الرمزية التي تناولها الأستاذ مذهباً من مذاهب العلوم! بل ما شأن مذاهب فلاسفة السوفسطائيين والثورات الثلاث التي أثارها على التعاقب سقراط وأفلاطون وأرسطو؟ ما شأن كل هذا بالمذهب الرمزي الذي يتحدث عنه الأستاذ في مقاله؟ حقاً لقد هدَّمت هذه الثورات الثلاث الكبيرة من آراء السوفسطائيين حتى صدَّعت مذهبهم، ولكن هل غيرت أو هدّمت فن سوفوكليس واريستوفان ويوريبيد؟ كلاَّ، لأنها كانت ثورات في الفلسفة ولم تكن ثورات في الفنون والآداب! وقد عاصر هؤلاء الأعلام في الأدب الإغريقي كلا المذهبين السوفسطائي والسقراطي فما تهدم فنهم بهذا ولا بذاك! وأظننا لسنا بحاجة إلى القول أن العلم شيء والأدب شيء آخر. فالعلم لا وطن له، وإن النظرية العلمية يبتكرها عالم في أي بلد من بلاد العالم، وعندما نثبت بالتجربة والبرهان تصير ميراثاً مشتركاً لكل عالم على وجه الأرض من أي مملكة هو ولأي جنسية يتبع وبأيّ دين يدين. وما هكذا الشأن في الأدب. فلكل أمة أدبها ونوازعها ومظاهر بيئتها وتراث تاريخها وديانتها وتقاليدها. فكيف يسوق الأستاذ تلك الآراء والأدلة الطويلة العريضة لرجال الفلسفة والعلم في موضوع هو من أخص خصائص الآداب والشعر!!؟

أما استشهاد الأستاذ برأي العلامة (مارتينو) (. . . فأن المذهب الرمزي عندما أبتدأ ظهوره وأخذت أبواقه ترتب الدعاية والنشر له قامت قائمة الناس في فرنسا وسموه (النزعة الجنونية) لما يتضمنه من القضاء على الروح الاجتماعية والتضامن بين أهل البلد الواحد، ولهذا أجمعت الناس في فرنسا على جموحه وشره الفتاك وقاوموه بكل ما عندهم من قوة، وأمكنهم - كما يذكر العلامة المدير - أن يقضوا عليه في عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً من ولادته، ودفنوه (غير مأسوف عليه).

هكذا يقول العلامة مارتينو الذي يستشهد به الأستاذ عزت. وما أظن العلامة المدير إلا ناقداً مجرحاً قاسياً، أو مفكراً قريب الشبه بطائفة المحافظين عندنا الذين يقيمون الدنيا ويقعدونها (دنياهم وحدهم طبعاً) كلما نشأ اتجاه جديد سواء في الأدب أو الشعر أو الاجتماع. وإلا كيف ساغ للعلامة الكبير أن ينساق مع رأي الناس في تسمية الرمزية (النزعة الجنونية) إذ على هذا القياس يكون من ذكرهم في كتابه (المذهب البرناسي والرمزي) من الأعلام أمثال فرلين وملارميه ورامبو وكثير من الرمزيين إلا مجانين! ولا أظن العلامة الكبير يوافق على هذا ولا الناس في فرنسا ولا القراء ولا الأستاذ عزت!

ثم ماذا يقصد من أن المذهب الرمزي قضي عليه في عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً من ولادته؟ هل معنى هذا أن آثار الرمزيين قضي عليها تماماً (غير مأسوف عليها) وإنها الآن في حيز الكتابات الهيروغليفية قبل اكتشاف شمبليون لحجر رشيد؟ أم أن الرمزية قد قضي عليها كمذهب قائم بذاته له أنصاره ومدرسته! إن كان الأخير فهذا أمر طبيعي وهو مآل كل مذهب قائم الآن. فالآداب والشعر تتغير بتغير المجتمع والبيئة في الأمة في عصورها المتعاقبة. وإنك لتشاهد الآن في إنجلترا أن مذهب الرومانتيكية وكان من أعلامه شكسبير وملتون، وفي فرنسا هوجو ولامارتين، قد أخلى الطريق لغيره من المذاهب التي خلفته شأن مذهب الرمزية وكل مذهب أتى أو قائم أو سيأتي. . .

ولكن لا ينكر أحد فضل الرومانتيكية في الأدبين الإنجليزي والفرنسي وأنها كانت من العوامل المؤثرة في نشوء المذاهب التي أعقبتها. وهكذا فعلت الرمزية إذ أثرت فيما خلفها من المذاهب.

بل إن مذهب السوفوسطائيين في الفلسفة الذي ذكره الأستاذ في مقاله كان له أكبر الفضل في نشوء الفلسفة السقراطية وتلك الآراء والتعاليم القيمة التي أبتدعها سقراط وحمل لواءها أفلاطون من بعده؛ ثم كانت أساساً لتلميذه الفذ أرسطو. ولا يخفي أن من السوفوسطائيين من كانوا يلمسون الحقيقة في بعض المواقف حيث يخطئها سقراط نفسه. (أنظر محاورة بروتا جوارس) بين سقراط وشيخ السوفسطائيين الذي سميت المحاورة باسمه.

ولعلي في هذه الكلمة قد جلوت بعض نواحي الأشكال والغموض اللذين أثارهما مقال الأستاذ عزت الأخير؛ ولعله في مقالاته الآتية يتفضل بمراعاة التحديد وعدم الخلط بين المذاهب الفلسفية وآراء الفلاسفة وبين المذاهب في الآداب والشعر.

(القاهرة)

محمد فهمي