مجلة الرسالة/العدد 257/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 257/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1938



ابراهام لنكولن هدية الأحراج إلى عالم المدينة

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 14 -

وثمة حادثة أخرى لها دلالتها على عظمة الرجل ونبله وسمو نفسه؛ ذلك أنه تقدم عن طيب خاطر ليدافع عن حفيد كارترايت ذلك الرجل الذي طعنه في دينه قبل ذلك بعشرين عاماً وهو ينافسه في الوصول إلى مقعد في مجلس الولاية؛ وكانت هذه التهمة أيضاً تهمة القتل؛ ولشد ما تأثر كارترايت وهو اليوم شيخ كبير حينما شاهد حرارة دفاع خصمه لنكولن عن حفيده الذي ما لبث أن برئت ساحته. . .

وأي شيء لعمري أجمل من هذا؟ ألا إنه الخلق العظيم يبهج جماله النفوس ويملك طيبة الأفئدة، إن للناس فيه لقدوة أي قدوة، وإن لهم في صاحبه لأسوة لن يتسنى لهم مثلها إلا في الأفذاذ القلقين الذين ظهروا في هذا الوجود برهاناً على أنه ثمة من صلة بين هذه الأرض وبين السماء!

وندير الحديث بعد إلى السياسة فنذكر أن المؤتمر الذي انعقد من الجمهوريين في سبرنجفيلد عام 1858 لترشيح عضو عن الولاية لمجلس الشيوخ قد اجتمعت كلمة رجاله على ترشيح لنكولن، ولقد فعلوا ذلك في غبطة وفي حماسة شديدتين

وهكذا اتفقت كلمة الجمهوريين على لنكولن يقدمونه لينافس دوجلاس رجل الديمقراطيين في الانتخاب لمجلس الشيوخ؛ فيلتقي بذلك الخصمان ويكون بينهما هذه المرة جلاد دونه كل ما سلف من جلاد؛ وينتهي الصراع بينهما فإذا دوجلاس يرى نفسه وقد ابتعد عن الهدف بقدر ما اقترب منه ابن الأحراج، ثم إذا هو يفطن إلى طعنه سوف تحول بينه وبين غايته المرجوَّة فلا يظفر بها أبداً. . .

وعرف لنكولن مبلغ ما ينطوي عليه الموقف من خطر، وأدرك أنه ملاق منه رهفاً شديداً وعنتاً. ولكنه يحس في قرارة نفسه أن له في ذلك ما يشفي نفسه، فهو يحمى على الصراع وهو لا تظهر مواهبه على أحسن ما تظهر إلا حين يبتعثها ضجيج الموقف وتستثيرها حرارة الدفاع

وكذلك أشفق دوجلاس وأوجس في نفسه خيفة، ولقد فطن وهو الخبير بأقدار الرجال، البصير بأمور السياسة، إلى دقة الموقف. وأدرك أن ابراهام اليوم غيره بالأمس، فهو منه إذ ذاك حيال قوة لا تنفع معها حيلة ولا يجد في مكر أو دهاء، قوة منشأها عقيدة صقلتها الأيام ووثقتها التجارب وأمدتها الفطرة بمثل ما تمد به التربة الصالحة الشجرة الطيبة من الغذاء الصالح؛ فليس ثمة ما يحول بينها وبين امتداد الجذور وسموق الفرع. وكأنما كانت ماري يوم فضلت لنكولن على منافسه ورضيت به زوجاً، تطلع على الغيب فترى هذا الصراع بين الرجلين ثم تصدر حكمها على هدي وبصيرة وعلى تجربة لا تدع مجالاً لوهم!

وهل كان انتخاب إبراهام لمجلس الشيوخ هو غاية ما يتمناه؟ كلا فما أهون هذا الأمر إذا قيس إلى ما كانت تجيش به نفسه من آمال لم يكن يراها وقفاً على نفسه بل كان يراها لصالح غيره؛ وهو لن يشعر لها بقيمة أو خطر إلا أن يتسع مداها حتى يشمل أمريكا كلها؛ بل إنه ليرى رضاء نفسه في أن يشقى ليسعد بنو جنسه. . .

لذلك لم يكن عجباً أن يسير كما تملي عليه مبادئه وكما يوحي إليه قلبه، لا كما يتطلبه الانتخاب من محاولات ومداورات وألاعيب وأكاذيب ومرونة وليونة وغير ذلك مما يتذرع به الكثيرون من أصحاب السياسة حين يجعلون غرضهم النجاح في المعركة فحسب. وما كان إبراهام يرى في الوصول إلى مقعد في الشيوخ إلا إحدى الوسائل لتحقيق غرضه الأسمى وذلك كما محصته الأيام هو حل معضلة العبيد مع المحافظة على كيان الاتحاد

وفيما كان رجال حزبه يقدمونه، كان هو يعد خطاباً حاسماً يعبر به عما في نفسه، ولقد ظل يثبت ما يجري في باله على قصاصات من الورق يدسها في قبعته، حتى استوى له موضوعه فجمعه بعضه إلى بعض ولم يفض به إلى بعض خلصائه إلا قبل إلقائه ببضع ساعات؛ ولقد أخذهم الدهش لما جاء فيه أنه لم ير رأيه منهم سوى صديقه هردون؛ ولكن لنكولن كان إذا صمم على أمر لن يلويه عنه شيء فقال لهم (أي أصدقائي: إن هذا الشيء قد أجل مدة طويلة أرى فيها الكفاية؛ ولقد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن أنطلق بهاتيكم العواطف، فإذا قدر لي أن يكون مصري السقوط بسبب هذا الخطاب فلأسقطن مربوطاً إلى الصدق؛ دعوني ألقى حتفي في الدفاع عما أرى أنه العدل والحق. . .)

ولما انعقد ذلك المؤتمر الجمهوري الذي كان ينتخب عضو الشيوخ قام فيهم لنكولن يلقي خطابه فقال: (حضرة الرئيس، حضرات السادة رجال المؤتمر: إذا استطعنا بادئ ذي بدء أن نعلم أين نحن وإلى أي وجهة، أمكننا أن نعرف ماذا نصنع وكيف نصنعه. إننا الآن بعد خمسة أعوام منذ تلك السياسة التي اتبعت مع وجود ذلك الوعد الوثيق الذي قصد به أن يوضع حد لذلك القلق الذي تبعثه مسألة العبيد، ولكن هذا القلق طالما أخذت تلك السياسة تفعل فعلها لم يقتصر أمره على أنه لم يوقف فحسب، بل لقد ظل يتزايد أبداً؛ وفي رأيي أنه لن ينتهي حتى يفضي بنا إلى أزمة نجتازها. إن البيت الذي ينقسم بعضه على بعض لن يقوم؛ إني أعتقد أن هذه الحكومة لا يمكنها أن تدوم ونصفها عبيد والنصف الآخر أحرار، وأنا لا أبغي أن تنقسم عري الاتحاد كما لا أبغي أن ينهار البيت، ولكني أبغي ألا يستمر في انقسامه؛ ولسوف يكون كله إلى هذا الجانب أو إلى ذاك؛ فأما أن يحول خصوم العبودية دون أي انتشار لها في المستقبل ويضعوها حيث يرتاح الرأي إلى أنها وضعت في الموضع الذي يفضي بها إلى الفناء النهائي، وإما أن يدفعها أنصارها إلى الأمام بحيث تصير قانونية في كل الولايات القديم منها والجديد والشمالي والجنوبي)

ذلك هو الخطاب الذي أفضى به لنكولن إلى رجال المؤتمر في صراحة وجلاء؛ ولقد أشفق أنصاره من لهجته الحاسمة ثم من تلك العبارة التي اقتبسها من الإنجيل وخافوا أن يحملها خصومه على غير محملها فيظنون وهو يريد بالبيت المنقسم على نفسه الولايات الأمريكية أنه يشير إلى قطع العقدة لا حلها وأن سبيله إلى ذلك الحرب. . .

وكان دوجلاس قد نزل بشيكاغو يدعو إلى انتخابه للشيوخ، فوجد في خطاب خصمه ومنافسه، لنكولن، فرصة يغتنمها فاتهمه أنه من دعاة التحرير بالقوة وأخذ يحذر الناس من انتخابه واغتاظ لنكولن لتلك التهمة النكراء، ولكنه لم يستكثرها على دوجلاس، وإنه لواثق أن الأيام ستقذف بحقه على باطل خصمه فيدفعه فإذا هو زاهق

وما كان إبراهام ممن يقرون الثورة مهما بلغ من مقته لنظام العبيد، ولسوف يبقى دستوره هو حل تلك المسألة بما يتفق مع الصالح العام على أن يكون ذلك في كنف الاتحاد وتحت رايته التي لا يرضى إلا أن تظل خافقة عالية تجمع على محبتها وإكبارها أبناء الوطن كله

وعول دوجلاس أن يخوض المعركة على أساس خصومته لبيوكالون في مسألة دستور كنساس، لا على أساس مخاصمته لنكولن أو مخالفته فيما جاء في خطابه الجديد من أراء كأنه يستعظم أن يكون ذلك الرجل الذي ما زال شأنه منحصراً في ولايته نداً له؛ وإن كان دوجلاس ليحس بينه وبين نفسه مبلغ ما تتطوى عليه نفس الرجل من عظمة ومبلغ ما يحمله قلبه من إيمان

ولقد شاع خطابه في الناس وتناقلته الصحف في طول البلاد وعرضها، فكان ذلك أبلغ رد على ترفع دوجلاس وذهابه بنفسه؛ وأحس إبراهام مبلغ ما أحدثه الخطاب من أثر في البلاد، لتبين ذلك في قوله: (إذا كان لي أن أمر بالقلم على صفحات تاريخي، وأمحو حياتي كلها عن الأنظار؛ وقد ترك لي أن أختار شيئاً استثنيه من هذا المحو فإني أختار هذا الخطاب فأدعه للعالم لم تذهب معالمه

وليس في قوله هذا شيء من المغالاة، فان خطابه كان أكبر حافز لأول الرأي أن يقفوا من مسألة العبيد موقف الذي يريد أن يصل إلى غاية، فلا تهاون ولا تلكؤ بعد اليوم، وإلا تفاقم الخطب واستعصي الحل، ودخلت البلاد في طور من الفوضى الجامحة فيأتي على الأخضر واليابس؛ كما أن هذا الخطاب كان أهم حادث في تاريخ حياته فبعده صار للسياسة كل همه، وبه قدر له أن يصير في السياسة من رجال أمريكا كلها لا من رجال الينواس فحسب. . .

ولقد خطب لنكولن بعدها في شيكاغو يرد على ما اتهمه به دوجلاس؛ فأعلن أن الوثيقة الكبرى التي يجب أن يتقيد بها الأمريكيون ويسيروا على نهجها هي وثيقة إعلان الاستقلال وأنه يجب أن ينظر إلى مسألة العبيد نظرة إنسانية، وأن يراعي اتفاق مسوري فيما يشجر بين الفريقين من خلاف

وتكلم دوجلاس بعد ذلك في بلومنجتن ثم في سبر نجفيلد، ورد لنكولن عليه في المرتين، حتى بدا له فخطا خطوة لم يسبقه إلى مثلها رجل من قبله في التاريخ السياسي للبلاد، وذلك أنه أرسل إلى دوجلاس رسولاً يعلن إليه أنه يتحداه أن يلتقي رأياه في مبارزة خطابية يستمع فيها الناس إليهما ويحكموا بينهما حسبما يرون من كلامهما. . .

ولقد ضاق دوجلاس بهذا التحدي وهو الذي يعرف أصالة صاحبة وشدة إيمانه ذلك الإيمان الذي رسخ حتى ما يحتال عليه بحيلة أو تزعزعه مطاولة أو يفل منه جاه أو إغراء، والذي جعل كل وسيلة من وسائل المغالبة بحيث تكون منه كالموج من الصخر لا يلطمه إلا لينحسر عنه ولم يبق فيه من قوة الموج بشيء وأبي على دوجلاس كبرياءه وغلواؤه أن يتخاذل فيتخلف عن هذا النزال فقبله على كره منه قال: (سوف تصبح يداي مليئة؛ إنه رجل حزبه ذو البأس؛ ملؤه الذكاء والحقائق والتواريخ. . . وهو أمين بقدر ما هو أريب حذر، وإذا قدر لي أن أظهر عليه فسوف يكون انتصاري بشق النفس) وقال في موضع آخر (أني لا أحس - بيني وبينك - إني أرغب في الذهاب إلى هذا الجدال؛ إن البلاد كلها تعرفني ولقد سبق أن قدرتني وعرفت قدري؛ وأن لنكولن بالنسبة لي ليعد غير معروف، فإذا أتيح له أن ينتصر عليّ في هذا الجدل - وإني لأود أن أذكر أنه أقدر رجل في الحزب الجمهوري - فانه يكسب كل شيء بينما أخسر أنا كل شيء؛ أما إذا قدر لي الفوز فإني لن أغتم إلا قليلا؛ إني لا أحب أن أذهب في تلك المجادلة معه. . .)

ولكنه على الرغم منة ذلك لم يستطيع إلا أن يجيبه إلى ما طلب؛ وحددت سبع مدن يلتقي فيها الرجلان فيتناظران والناس من حولهما يشهدون ما يكون بينهما. وفرح لنكولن وقد أتيحت له أعظم فرصة ليعبر عما في نفسه؛ وأي فرصة هي؟ ألم يك دوجلاس في الناس أكثرهم استفزازاً له وادعاهم أن يبرز له ما استكن من مواهبه؟ ثم أليست هذه المجادلة كفيلة أن تجمع إلى أنصاره ومحبيه أنصار دوجلاس ومحبيه فيكون الكلام في حشد قلما يتسنى أن يلتقي على هذه الصورة؟ فإذا قدر له أن يكسب هذه القلوب أو أن يصل إلى إقناع هذه العقول فأي فوز هو وأي فخر؟

(يتبع)

الخفيف