مجلة الرسالة/العدد 257/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 257/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1938



كيفما اتفق

كتاب بالإنجليزية للدكتور أحمد زكي أبو شادي

للأديب نصري عطا الله سوس

الدكتور أبو شادي شخصية فريدة كل ما فيها معجب محبب، وهو مثال باهر للكاتب الذي يحيا حياة عامرة بمختلف أنواع النشاط الناهض. وحسب الطبيب الشاعر أنه إحدى الشخصيات القلائل التي تعددت نواحي أذهانها دون أن تطغى ناحية على أخرى. وهو مثل حي بليغ لاستحالة العداوة بين الفلسفة والدين والعلم والشعر. وإن الخلاف بين نوعين من أنواع المعرفة لا يجد له مكاناً إلا في الذهن الكليل الذي لا يمكنه أن يفهم إلا جزءا من كل، والذي توفرت له بعض المؤهلات ولم يتوفر له البعض الآخر؛ ولكن العقل الكبير يدرك بالبديهة قبل أن يثبت بالبرهان (إذا فرض إمكان الإثبات عن طريق العلم) أن العالم وحدة لا تتجزأ وأنه من المستحيل أن يناقض بعض أجزائها البعض الآخر

ويعجبني في الدكتور أبي شادي أنه كائن حي قائم بذاته يتفجر إيمانه بالحياة وربها وما بعدها من أعماق ذاته ولا يتقبل تعاليم السلف مغمض العينين. والاستقلال الذاتي صفة نادرة؛ ولكن الحياة بدونها تصبح باهتة رثة عديمة الطعم عديمة القيمة. وقد اتجه الدكتور إلى التأليف بالإنجليزية وبين يدي الطبعة الثانية لكتابه (كيفما اتفق) وقد تناول بالبحث في كتابه هذا أهم المشاكل العالمية مثل تحسين النسل، العوامل التي يجب أن تتوفر في الشخص المتمدين، العبقرية، الديمقراطية والحكم المطلق، الدين، المساواة بين الجنسين، الاقتصاد، التعاون، والأخلاق، ويجب على كل شخص يحس بوجوده أن يدرس هذه الموضوعات ويكوَّن له رأياً خاصاً فيها؛ وغرض الكاتب هو خير الفرد وسعادة المجموع. غير أني أختلف معه في بعض ما يقترحه من وسائل وغايات

تطغى شخصية العالِم في هذا الكتاب على ما عداها. وأي عالم؟ ذلك الذي لا يؤمن إلا بالعقل وحده والمنطق والمقاييس المضبوطة - وعهدي بأبي شادي شاعراً كبيراً ولكن شخصية الشاعر اختفت تماماً من هذا الكتاب، وفي هذا خسارة لا كسب. وقد تطرف الكاتب في بعض آرائه تطرفاً عنيفاً وهاجم بعض النواحي التي لا يسهل مناقشتها في مصر وإن كانت هذه النواحي أكثر الأشياء افتقاراً إلى البحث والتمحيص. ولا شك في أن كل مثقف يؤمن بما قاله المؤلف عن (الأساطير) وأن اعتناق الجماهير إياها مصدر الكثير من الضرر، ولكنه لن يجد من يؤمن بالعلم وحده. العلم الذي يتخذ المقاييس والرياضيات أساساً له - ومن العسف أن نهاجم عقائد الشخص العادي ونحاول تشكيكه فيها مهما كان فيها من خلط وزيف قبل أن نمده بما يشغل مكان هذه العقائد - والعلم لن يقوم مقام العقيدة، وكل حضارة لا تستند إلى إيمان قوي لا يمكنها أن تثبت لا لإرهاصات الزمن - ولا شك في أن العلم ركن قوي من أركان الحضارة ولكنه لا يمد الإنسان بالإيمان الذي يريح القلب ويطمئن الضمير، ولكن الإيمان ينبع من أعماق النفس ولا حيلة للمنطق معه! وستمر دهور ودهور قبل أن يترجم الإنسان العادي النور وتغريد الطيور وجمال الزهور إلى معان إلهيه. ومن هنا صعوبة مهاجمة (الأساطير) في الوقت الحاضر - وعندي أن كل إصلاح لا يبتدئ بالفرد مصيره الفشل المحتوم - فيجب على المصلحين أن ينموا شعور الفرد بإنسانيته وأن يستخدموا العلم في تحريره من ربقة المادة، وأن يفتحوا أمامه سبيل تهذيب الضمير بواسطة الآداب والفنون حتى يتفجر إيمانه بالقوة الخالقة من أعماق ذاته المحرَّرة. وعندئذ يمكنه أن يُنزل الأساطير مكانتها الحقيقية؛ ومتى وصل إلى هذا المستوى وشعر بكرامته الإنسانية فسيشعر بواجبه شعوره بحقه وسيفهم معنى الحياة الإنسانية الحقة، ويخصص نفسه لخدمة مثلها العليا، ولن يؤمن بالدكتاتورية أو يسمح بها. أما الإيمان بالعلم وحده فمظهر من مظاهر الصلف والاغترار الذهني

وأعتقد أن العالم الذي حوى صدره علم الأوائل والأواخر، والذي يقول (إن الحياة على هذه الأرض محض صدفة) أو يبلغ به التبجح إلى أن يقول: (إن الله عالم رياضي) إنسان بائس مسكين، والشخص العادي الضعيف الذي يرى أن مظاهر القدرة الالهيه مبثوثة في كل شيء اسعد منه بمراحل. والظاهر أن المؤلف تأثر بكتابات الذهنيين ونظريات برتراند رسل عن وحدة الروح والجسم وهلاكهما معاً. وحسبي أن أذكر مثلا من هذه النظريات يرينا خلل وضلال القياس الذهني:

يقول رسل إن حالة (الإشراق والصفاء) والمعاني اللطيفة التي تترقرق في قلب الإنسان أثناءها تشبه حالة السكر وما يخالج النفس أثناءها من نزوات، لأن السكر حالة شاذة تقع بواسطة مؤثر خارجي هو الخمر؛ وكذا حالة الإشراق أيضاً لأنها تقع بواسطة مؤثر خارجي هو الصوم! وهذا هو ما يؤدي إليه الإيمان بالعلم وحده

ولا شك أن هذا الكتاب خطوة حسنة في سبيل توطيد العلاقات الثقافية بين مصر وبريطانيا؛ غير أن القارئ الغربي لن يجد في هذا الكتاب جديداً ولا يمكنه أن يتبين أن المؤلف رجل شرقي، لأن (الشخصية) بمعناها الأدبي معدومة الأثر في الكتاب. وقد عالج المؤلف موضوعات معروفة مطروقة في الغرب ولا فضل له فيها إلا الجمع والترتيب والاختيار؛ ثم عرض لبعض المظاهر الاجتماعية في مصر. ولعله ينحو في كتاباته المستقبلة نحواً جديداً بحيث تبدو فيها خصائص الروح الشرقية الحرة، وهذا ميدان واسع تعود الكتابة فيه بالفائدة على الشرق والغرب، لأن مظاهر العلم والفن والأدب في أوربا الحديثة متأثرة بما ترزح تحته هذه القارة من أنواع المحن والبلاء، ولا يمكن للشخص الغربي المنشَّأ في حلقة هذه الظروف أن ينظر إليها نظرة أصيلة فاحصة ولكن الرجل الشرقي الذي لم يتأثر بهذه الظروف يمكنه أن ينظر إلى هذه الأحوال نظرة أقرب إلى الحق والصدق، ويجب على الكاتب الشرقي أن يهْدي إلى الغرب مما عندنا لا مما يستعيره منه

بقي أن نقول إن الشرق مفتقر إلى مثل هذا الكتاب أكثر من افتقار الغرب إليه، ويقول المؤلف في مقدمته أنه يعني بكتابه القارئ العادي (الغربي طبعاً) ثم يعود فيقول إنه لا يعني بكتبه عموماً إلا الخاصة، وإنه لا يتهم بسواد القراء في الشرق؛ ولما كانت خاصتهم تعرف الإنكليزية فلا ضير عليه في الكتابة بها؛ ولكن المؤلف يدعو إلى التعاون العالمي، وهذا لن يكون إلا إذا ارتفع القارئ الشرقي العادي إلى مستوى القارئ الغربي العادي ولعلنا نرى الكتاب مترجماً إلى العربية بعد تعديل يلائم الشرق

نصري عطا الله سوس