مجلة الرسالة/العدد 257/بين العقاد والرافعي

مجلة الرسالة/العدد 257/بين العقاد والرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1938



للأستاذ سيد قطب

- 6 -

جاء في حديث الأستاذ سعيد العريان عما بين العقاد والرافعي:

(أصدر العقاد ديوان (وحي الأربعين) في سنة 1933، والسياسة المصرية يومئذ تسير في طريق معوج، وحكومة صدقي باشا تمكن لنفسها بالحديد والنار، و (الوفد) ومن ورائه الأمة كلها يجاهد حكم الفرد ويكافح للخلاص، والعقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، يكتب المقالة السياسية فترن رنيناً، ويلقفها آلاف القراء بلهفة وشوق، في كل مدينة وكل قرية، فلا عجب أن يكون العقاد بذلك عند عامة القراء، هو أبلغ من كتب وأشعر من نظم، حتى ليؤول أمره من بعد إلى أن ينحله الدكتور طه حسين بك الوفدي المتحمس، لقب (أمير الشعراء) تملقاً للشعب ونزولاً على هواه)

ثم قال كلاماً آخر يمت إلى هذا الكلام، ويضرب على نغمته ويرجع انتصار العقاد على الرافعي في المعركة عند غالبية القراء إلى هذه العوامل السياسية. وكان هذا وأمثاله من الأسباب الأولى التي حفزتني للكتابة في الموضوع الذي أكتب فيه، لأنها ندت عن التاريخ إلى الحكم والتعليق والترجيح

يخطئ الذين يعتقدون أن العقاد يستمد قوته من ظروف طارئة أو قوى خارجة عن ذاته، كالسياسة، والحزبية، والصحافة. . . الخ

والبراهين على ذلك شتى

فلقد قيل أن العقاد كان قوياً بأن كان (كاتب الوفد الأول) ولكن العقاد خرج على الوفد أول الخارجين في إبان قوته وسطوته، وبعد تجربة في الخروج عليه ذهب بها إلى عالم النسيان ثمانية من أعضائه يتابعهم ثلاثون من الهيئة الوفدية

وقد لقي من الكيد، ووسائل النضال، الظاهرة والخفية، البريئة والشائنة، ما لو وجه إلى هيئة كاملة لضعضعها. فماذا كانت عاقبة هذا الخروج؟

لقد بقي العقاد هو (الكاتب الجبار)، وتضعضع خصومه ووراءهم قوة العدد، وقوة الحكم، وقوة المال، وقوة الماضي الوطني، وكل قوة مأمولة في الوجود!! ثم قيل: إن العقاد يستمد قوته من الصحافة؛ ولكنه طوى قلمه عامين كاملين وكان ذلك بعض ما دبره له خصومه الأقوياء. فماذا كانت العاقبة؟

لقد بقي العقاد مع ذلك جهير الصوت، مسموع الرأي، وأخرج للناس في هذا الفترة ثلاثة مؤلفات: أحدها (سعد زغلول) وهو يكفي وحده لخلود كاتب عظيم، وبقي خصومه يحسبون حسابه، ويتوقون قلمه، وبقي كل فرد في القراء يرتقب عودته إلى الميدان. . . وقد عاد!

ثم لماذا يكون العقاد قوياً بالسياسة وحدها، وخصومه - ومنهم الرافعي - كانوا يلجئون إلى الدين، وهو أقوى أثراً من السياسة، وأتباعه أكثر من أتباعها، فلم لم تكن لهم الغلبة وسلاحهم أقوى وأبرز؟

الحق، أن كل هذه تعلات وأوهام، وخطأ في تقدير أسباب الغلبة، ووسائل البروز، وإغفال للقوى الذاتية الكامنة التي هي مدار كل نصر وظهور في عالم الوجود

ألف حزب سياسي، وألف صحافة، وألف مناسبة طارئة، لم تكن كفيلة بإبراز العقاد، لو لم يكن العقاد نفسه قوة من قوة الطبيعة، وطاقة من طاقة الحياة؛ ولو لم تكن في أطواء نفسه ومواهبه، بذور العظمة، وخميرة التفوق، ودوافع النهوض

إنما انتصر العقاد لأنه يكتب في السياسة بالهام من الوطنية، ثم يجنح بالوطنية إلى النزعة الإنسانية، وينفق في هذا كله من ذخيرة روحية لا تفنى

والحقيقة أن العقاد - مع هذا - مغبون أشد الغبن، في مدى شهرته، وفي نوع شهرته. مغبون لأنه في بيئة بينه وبينها عشرات الأميال من الفوارق والخطوات، وقل فيها من يتابعه في سموقه، أو يترسم خطاه على بعد المسافة. ومغبون لأنه ليس معروفاً بخير ما فيه، لأن خير إنتاجه، يتطلب قراء من نوع مفقود أو شبه مفقود

ولو فهم ذلك بعض من نفسوا عليه وحقدوا، لأراحوا بالهم بعض الشيء، أو لعلهم كانوا يزيدون عداء وحقداً. . .

ويخطئ الذين يحاولن أن يدرسوا العقاد - ولا أقول ينتقدونه - وكل محصولهم من الثقافة، كتب لغوية درسوها، وكتب أدبية فهموها من آداب اللغة العربية. فليس العقاد أديب لغة وأديب أسلوب، حتى تكفي اللغة ويكفي الأدب الخالص في فهمه، ولكن نتاج العقاد مجتمع ثقافات ودراسات قديمة وحديثة، عربية وغير عربية، مصهورة في بوتقة طبيعة ممتازة، ونفس رحبة، وذهن مشرق ومواهب تنتفع بالثقافة، وتعلو على حدود الثقافات!

ولقد رقيت إلى محاولة استيعاب العقاد - وأفلحت إلى مدى - على درج من دراسات شخصية جمة، ليست دراسة الأدب العربي ولا اللغة العربية إلا أولى خطواتها. دراسات تشمل كل ما نقل إلى اللغة العربية - على وجه التقريب - من الآداب الإفرنجية: قصة ورواية وشعراً، ومن المباحث النفسية الحديثة: نظريات العقل الباطن والتحليل النفسي والمسلكية. . الخ ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة ومن مباحث علم الأحياء - بقدر ما استطعت - وما نشر عن دارون ونظريته ومن مباحث الضوء في الطبيعة، والتجارب الكيماوية. ومما استطعت أن أفهمه عن أنيشتين والنسبية، وعن بناء الكون وتحليل الذرة، وعلاقته بالإشعاع. . . الخ

ولا أفصل أو أتوسع في هذا، فحسبي أن أقول: إنني انتفعت بكل معرب أو مؤلف، عن النظريات العلمية والفلسفية الحديثة في شتى أنواع الثقافة، مدفوعاً في ذلك بميل طبيعي، كان يسيرني - دون إرادة - حينما أتناول صحيفة كالمقتطف مثلاً أن أبدأ بقراءة البحوث النفسية، ومباحث علم الحياة، وما قد تتضمنه عن علم وظائف الأعضاء، وعن تحطيم الذرة. . . وما أشبه ذلك قبل أن أتناول ما بها من بحث أدبي أو قصيدة!

وبكل هذه الثقافات بعد الثقافة الأدبية، وبعد استعداد نفسي انتفعت في فهم العقاد واستيعابه إلى حد ما. وسأزداد له فهماً كلما اتسع مدى ثقافتي، وفتحت جوانب نفسي، وقويت نوازع الحياة فيها

فالذين يحسبون الأدب مادة لغة أو أسلوب، ويعتمدون على نفوس ضيقة وأذهان محدودة، وثقافة من لون واحد، لا يصح لهم أن يطمعوا في دراسة العقاد، ولا يجوز منهم أن ينقدوا العقاد، لأن أدواتهم لا تزال ناقصة، أو معدومة فيما يتصدون له. بينما الرافعي أستاذهم لغة وأسلوب متى فهما لم يبق شيء وراءهما غير مفهوم، فهو سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء.

واللغة والأسلوب وحدهما لم يكونا كافيين لدراسة أي شاعر عربي عظيم، في وقت لم تكن الثقافة الإنسانية قد بلغت مبلغها الآن، والذين يراعون اللغة والأدب المحض وحدهما لا يستطيعون دراسة المتنبي ولا المعري، بل لا يستطيعون دراسة ابن الرومي وأبي نؤاس، لأن جداول من الفلسفة ومن الفلك والطب والتنجيم وسواها، قد صبت في ثقافاتهم؛ فكان لا بد من قسط يعادلها عند نقادهم مع الاستعداد النفسي الأصيل إذا شاءوا النقد على حقيقته

وأقرب مثل على فساد النقد الذي يتصدى له اللغويون والأسلوبيون، ما أورده الأستاذ محمود محمد شاكر عن قزح وقوسه، وناقشته فيه في العدد الماضي. فهو يأخذ على العقاد نقده لبيت شوقي:

قصراً أرى أم فلكا ... وشجراً أم قزحا

وذلك لأن العقاد قد قال بعد هذا:

ألقى لهن بقوسه ... قزح وأدبر وانصرف

فلبسن من أسلابه ... شتى المطارف والطرف

وفساد هذا المأخذ أن الأستاذ لا يفرق بين صورة لغوية وصورة ذهنية خيالية. فلفظة (قزح) في بيت شوقي، لا تزيد على أنها (لفظة) لغوية ليس وراءها صورة ذهنية متخيلة مقصودة. فالمرجع فيها إلى القاموس، والقول قول القاموس؛ أما هي عند العقاد، فتعني (حالة) خاصة مطلوبة، فيها قزح ملك الألوان، ممسكا قوسه، وهؤلاء الحسان ينازعنه عليها، فيغلبنه، فيسلم بالغلبة، ويلقي قوسه وسلاحه وينصرف فلبسن منها شتى المطارف والطرف. فالمرجع هنا للذهن والذوق لا القاموس

وقد عانى الرافعي ما عاناه شاكر، وما تعانيه المدرسة الرافعية كلها في تفسير العقاد، لأن عدتها للنقد من استعداد طبيعي وثقافة مكسوبة، شيء قليل

ولا حيلة في فهم كثير من أدب العقاد بغير الاستعداد الطبيعي، مع لون من ألوان الثقافة الإنسانية الحديثة. والأمثال على ذلك قد توضح ما سبق من إجمال. فها هي ذي قطعة من (وحي الأربعين) بعنوان: (سعادة في قمقم)

هنا قمقم سابح في الدم ... أسائلُ عنه ولم أعلم

جهلت حباياه حتى أتى ... عريف الطلاسم بالمعجم

ففيه كما قيل مسجونة ... سعادة بعض بني آدم

تجن جنونا بنور الضحى ... وتذبل في حبسها المظلم

وقد زعموا أن إطلاقها ... رهين بهمة ذاك الفم: بسر على شفتي فاتن ... يباح إلى شفتي مغرم

فهل أنت مطلقها منعما ... فديتك أم لست بالمنعم؟

وما أنا بالمشتهي قبلة ... ولا بالحريص على مغنم

ولكنما أنا أبكي أسى ... لتلك الشهيدة في القمقم!

فهل فهم الرافعيون شيئاً من هذه القطعة مع وضوح كل لفظة فيها وكل عبارة؟ وكيف يستطيع فهمها من لم يدرس شيئاً عن نظرية فرويد في (العقل الباطن) ويكون مع هذا على استعداد لأن يحس، بأن النوازع والرغبات المكبوتة في النفس والأشجان والبلابل والاضطرابات التي تعتريها في إبان ضرام الحب، تظل تعتلج النفس، وتقلقها وتهزها هزاً كمواد البركان المكتوم، حتى ينفس عنها، ويتاح لها التعبير، فإذا هي سعادة وهدوء وراحة

هذا ما يقوله العقاد في ثوب من الفن، وجمال من التعبير! عواطفه الثائرة، وبلابله المضطرمة، هي نفسها سعادة حبيسة إذا أتيح لها الكشف والتعبير، وكيف يكون التعبير؟ يكون بقبلة على (شفتي فاتن) تبيح السر إلى شفتي مغرم، وعندئذ تنطلق تلك الشهيدة في القمقم التي يبكي لها أسى.

فهنا النظرية العلمية، والحقيقة المدركة، والفن العالي، والدعابة القوية، والغزل الشفاف، تلتقي كلها في قطعة قصيرة، يطلب بها قبلة!

وإليك مثالا آخر في (عابر سبيل) تحت عنوان (ابنا النور - الزهر يخاطب الجوهر)

يا جوهر الحسن لا تضعفي ... لديك بالموضع المهان

فالزهر والجوهر المصفى ... صوان في النور توأمان

أشعة النور في يدينا ... وديعة أو وديعتان

لكننا بيننا اختلفنا ... يا جوهر الحسن في الصيان

تصونها أنت من بعيد ... بالسيف والرمح والسنان

ولم تزل في يديّ كنزاً ... يصان بالعطف والحنان

ومعدن النور فيَّ حي ... وفيك معنى الحياة فان

فيا زماناً بلا حياة ... إني حياة بلا زمان

كل له من أبيه حظ ... ونحن بالحظ راضيان فمن أين يدرك قارئ ما في مثل هذه القطعة من جمال، قبل أن يعرف المادة الخاصة لفهمها من دراسة (الضوء) وتوزيعه وأثره في الأحياء وغير الأحياء، ونصيب الزهرة منه ونصيب اللؤلؤة، ثم يضيف إلى هذا عاطفته هو، وإحساسه بمظاهر الحياة وعطفه على الزهرة الحية التي تحفظ كنز النور بالعطف والحنان. . . الخ

وقد اخترت هاتين القطعتين، تتطلبان دراسة علمية للنفس أو للضوء، ووراءهما كثير مما يتطلب دراسات أخرى أعمق وأوسع وأرقى في مدارج المعرفة الإنسانية، فيحسن أن أنبه إلى أن هذه الدراسات ليست هي كل ما في نتاج العقاد، ولا هي خير ما فيه، فأن وراءها ذخيرة نفسية وطاقة روحية، وإشراقاً ذهنياً، وهذه المواهب هي التي تحيل تلك الثقافات فناً سائغاً، ولكنه فن صعب المرتقى؛ تبدأ درجاته بالثقافة وتنتهي بفسحة النفس، ورحابة الحس، وتوفز الشعور. وليس كل من درس تلك النظريات بقادر على فهم العقاد ما لم يكن ذا نفس وقلب وحياة!

وموعدي مع القراء كلمات أخرى، لعلني بها أوضح الفروق الأساسية بين المدرستين، فينكشف سبب الخلاف الأصيل بينهما، ومقدار أصالة كل منهما، وحقه في الحياة والاحترام.

(حلوان)

سيد قطب