مجلة الرسالة/العدد 258/الأنباط وأطلال بترا الخالدة
مجلة الرسالة/العدد 258/الأنباط وأطلال بترا الخالدة
للأستاذ خليل جمعه الطوال
- 3 -
معبد ايزيس
وينتهي السبق أمام معبد عظيم هو في الحقيقة أجمل وأخلد ما في الشرق الأدنى من الآثار النبطية الرومانية الرائعة. وقد حفر - معبد إيزيس - قبيل الفتح الروماني (بقرن ونصف القرن تقريباً) أي بين عام 50 ق. م. و 50 ب. م. وقد كانت بترا إبان ذلك في أوج عظمتها. يبلغ علو هذا المعبد (26) متراً ويتركب من طبقتين (انظر الصورة شكل 2) أما الطبقة السفلى فتتألف من ستة أعمدة رملية ضخمة متوجة بالتيجان الإغريقية الشكل، ومن فوقها جميعاً قوس روماني مثلث غاية في الرونق، والزخرفة، ويقوم المعبد في وسط هذه الأعمدة الهائلة وهو بهو واسع كان يجتمع فيه المتعبدون لإقامة شعائرهم الدينية وإحراق البخور في المجامر الحجرية المحفورة على جدرانه الأربعة، وإلى جانبه غرفتان كبيرتان، وهما للتعبد في الأيام العادية
أما الطبقة العليا فتتألف من ثلاثة هياكل رائعة، تقوم بين أعمدة رملية بديعة، متوجة بالأقواس الرمانية المثلثة، ويدعي الهيكل الأوسط بمزار إيزيس، ولا يزال تمثال إيزيس قائماً في وسطه برونقه وبهائه، وتتوج هذا الهيكل قبة مخروطية الشكل يبلغ علوها ثلاثة أمتار، ويسميها البدو قبة فرعون، أو خزنة فرعون، وهم يعتقدون أن فرعون قد وضع تحتها كنزاً ثميناً، ولذلك فقد شوهوا جمالها بما أطلقوه عليها من الرصاص طمعاً في الحصول على هذا الكنز الموهوم، بهدمها وتحطيمها. ويشتمل القسم العلوي أيضاً على تمثالين آخرين يحيطان بتمثال إيزيس من اليمين والشمال. ومما يدعو إلى الدهشة حقاً محافظة هذا المعبد بتماثيله وأعمدته على رونقه وبهائه طيلة هذه الأحقاب بالرغم من تعرضه لعوامل الطبيعة الهدامة، ولعبث البدو السذج
الملهى الكبير
ويقع في الجهة الغربية من معبد إيزيس - أو الخزنة - وعلى مسافة قصيرة منه، وه مدرج كبير يحتوي على (34) صفاً مستديراً، ويتسع لنحو ثلاثة آلاف متفرج. وقد حفر في الصخر الرملي الملون حفراً متقناً في المدة التي تقع بين 40ق. م. و 40ب. م. وهو من الآثار الرمانية العديدة. ويقال إن هذا المدرج كان كسوق عكاظ لا يؤمونه إلا في المواسم الخاصة به
أم الصناديق
تقع في الجهة المقابلة (للملهى الكبير) وهي قبور هائلة الحجم محفورة في جبل رملي كبير على شكل مساكن تتألف من ثلاث طبقات (أنظر شكل 3) عالية تتمثل فيها جميع تطورات الفن البيزنطي العربي، وذلك باختلاف أعمدتها، ونسق ترتيبها، وطريقة حفرها، إذ فيها البسيط الهين، والعظيم الرائع، ويتصل بعضها ببعض بمدارج صغيرة متعددة، وإلى الجهة الشمالية من أمَّ الصناديق مدرج صغير آخر كان يجتمع فيه الناس عند حدوث وفاة أو جنازة. وفي أم الصناديق نقوش ورسوم كثيرة يمثل أحدها فتاة مستلقية على سريرها
قبر التماثيل
وهو بناية هائلة، يبلغ علوها تسعة عشر متراً، تحيط بها أربع أعمدة كبيرة، وفي واجهتها بين الأعمدة ثلاثة تماثيل كبيرة ويقال إن هذا الهيكل الفخم، (وأم التركمانية) التي تقع في طريق الدير هما من القبور الخاصة بالعائلات الملكية والأرستقراطية. ويؤيد هذا النقوش النبطية الكثيرة المحفورة على عتبة التركمانية حفراً بارزاً. (شكل 4). ومن القبور العظيمة: (قبور السريان، وأم الصياغ، والسرايا، والمدحلة) وسنأتي على وصفها جميعها في مقال آخر
قصر فرعون (قصر البنت)
ويقع في وسط الساحة الرومانية العامة (الندوة) ويمتاز عن غيره من الآثار بأنه مبني من الحجارة الكبيرة وليس محفوراً في الصخور كغيره، يبلغ علوه 20 متراً. وقد تداعت أكثر جدارنه؛ ويوجد في وسطه أريكة حجرية، ومقاعد صغيرة كثيرة، وله مدخل كبير واسع تحيط به بعض شجيرات من العرعر. ويقابل هذا القصر مسلتان طويلتان: الأولى على بعد 30 متراً منه، وتعرف بمسلة فرعون، وهي تتألف من تسعة أعمدة، طول العمود الواحد نحو ثلاثة أمتار تقريباً. والثانية على بعد كيلو متر واحد من الأولى، وهي أطول منها وأضخم، وتدعى (مسلة النصارى). والراجح أن هذه التسمية قد أطلقت عليها خلال عام 460ب. م. في زمن أحد مطارنة اليونان، كما تدل على ذلك الكتابات والنقوش التي عليها (شكل5)
السيق البارد
وهو محطة صغيرة للقوافل النبطية التي تروح وتغدو من الشمال، تقع بين جبل البيداء وثغره، وقد عثر الدكتور نيلسون في هذا السيق على مخطوطات مجرية ذات قيمة فنية في تاريخ الديانة النبطية، إلا أنها - مع الأسف - قد نقلت إلى أوربا فيما نقل من آثار شرق الأردن الثمينة
المذبح الكبير
وهو من أماكن العبادة الرئيسية يقوم على جبل يبلغ علوه 150 متراً، ويصعد إليه بمدرج طويل يزيد على 250 درجة. وهو عبارة عن حضيض محفور في قمة الجبل المنبسطة، عمقه قدم واحد، وطوله ثمانية أمتار، وعرضه ستة أمتار، وتقوم في وسطه حجرة ناشزة كانت هيكلاً للإله (ديشورة)، ويقع المذبح في الجهة الجنوبية من هذا الحضيض، وهو مستدير الشكل، وفي وسطه جرن صغير يتجمع فيه دم الذبيحة ويسيل في قناة صغيرة ضيقة حتى الهيكل. وقد كان الناس يجتمعون على قمة هذا المذبح مرة في كل عام، يقدمون قرابينهم وضحاياهم للآله ديشورة ويتلون أمامه صلواتهم وأدعيتهم الكثيرة، وذلك في طقوس وترتيبات عبادية خاصة
معبد الدير
ويقع في أقصى الآثار من الجهة الشمالية، وهو أعظم أطلال بترا روعة وبهاءً، ودقة وجمالا، وضخامة وعلواً حفر خلال القرن الواقع بين 50ق. م. و 50ب. م. ويبلغ علوه (40) مترا، وعرضه (50) متراً. وهو يتألف من ثلاثة أقسام هي: البهو، والهياكل، والقبة، (انظر شكل 7)، أما البهو فيقع في القسم السفلي منه، طوله (10) أمتار، وعرضه (12) متراً، وارتفاعه (14) متراً، وتزين وجهته الأمامية ثمانية أعمدة إغريقية التيجان، ضخمة الشكل، يربط بعضها ببعض أقواس جميلة، تقوم بينها طائفة من التماثيل المشوهة، وفوق البهو (الكنيسة) الهياكل الثلاثة وهي تشبه هياكل معبد إيزيس إلاَّ أنها أكبر منها حجماً أما القبة فتتوج الهيكل الأوسط منها، وهي تتألف من قسمين يبلغ علوها معاً تسعة أمتار، ومحراب يناهز هذا العلوَّ أيضاً. وتتسع مساحة القسم الأسفل من القبة لنحو (50) رجلا أو أكثر. وهي ما تزال مشمخرة في الفضاء، ساخرة من عبث الأقدار وكر الحوادث الكبار.
أساطير طريفة
يسكن بترا فريق - عشيرة - من البدو، وقد سلمت إليهم يد الدهر والأقدار أطلال حضارة عريقة، لا عهد لهم بمرئياتها، ولا طاقة لهم على تقليدها؛ فاختلفوا في تعليل تلك القوة الخفية التي شيدت ذلك البنيان العظيم الذي يعجزون عن تقليده، واختلفوا أيضاً في تعليل مصدر تلك القوة الهائلة، فذهبوا لذلك يحيكون حولها مختلف القصص والأساطير، بالشكل الذي يمليه عليهم خيالهم وتصورهم، وبالكيفية التي توائم أذواقهم ومشاربهم فقالوا في موضوع المسلتين:
(لقد كان لفرعون زوجتان، وقد خرجتا ذات يوم بطفليهما إلى الجبل المقابل للملهى، وحدث أن استهانتا بنعمة الله الكبرى على الإنسان، إذ أنهما مسحتا غائط ولديهما بكسرة من الخبز، فعاقبهما الله بأن حولهما إلى مسلتين حجريتين.
أسطورة قصر فرعون
حدثني أحدهم، وقال: (كان لفرعون بنت بلغت سن الزواج، وقد حظر عليها والدها الخروج من القصر؛ وفي ذات يوم أجمعت أمرها على أن تتزوج من الشخص الذي يستطيع أن يجر إلى قصرها ماء أحد الينابيع. فقام لهذه الغاية شخصان، وتمكن كل منهما من جر ماء أحد الينابيع إلى قصرها في وقت واحد ويوم واحد، فسألت الأول: كيف تمكنت من جر الماء إلى قصري في مثل هذه المدة القصيرة؟ فأجاب: بقوتي وبقوة بطانتي وعشيرتي؛ ثم سألت الثاني. فأجاب: بعون الله الذي عضدني وعضد رجالي وجمالي؛ فسرت من جوابه، ودهشت لثقته بعون الله، وتزوجته. وفيما هي تفكر لتجمع عزيمتها على الزواج من أحدهما سقط جناح فراشة في قناة الرجل الأول، فتعطل الماء فيها عن الجريان، ولم يستطع أحد أن يرجع الماء إلى مجراه، فتيقنت الأميرة أن الله قد قدر هذه الأعجوبة لتكون برهاناً لها على حسن اختيارها للرجل الثاني)
تلكم هي آثارنا، وذلكم هو تاريخنا، تشهد بعظمته هذه الأطلال الخالدة التي شدناها، وليس عاراً على من أهدى إلى المدنية هذه الثروة الكبرى، وأسدى إلى الإنسانية مثل هذه الخدمات الجلى ليس عاراً عليه أن يستريح ريثما يستجم يسترجع نشاطه، فيعيدها كرة عربية، وصرخة عالية تعيد إلى هذه الأطلال نطقها وماضيها
(شرق الأردن)
خليل جمعه الطوال