مجلة الرسالة/العدد 258/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 258/الكتب
على هامش السياسة
تأليف الدكتور حافظ عفيفي باشا
للأستاذ محمد سعيد العريان
على هامش السياسة، هكذا يسميه سعادة مؤلفه الكبير، تواضعاً وعزوفاً عن التعاظم بالألقاب والأسامي، تسمية متواضعة إن دلت على شيء في موضعها فإنما تدل على خلق المؤلف وطبعه، لكنها لا تدل على الموضوع الهام الذي يتناوله الكتاب. ولقد كان أقرب دلالة على موضوعه أن يسميه (في صميم السياسة) فليست السياسة هي هذا التطاحن الحزبي الذي نشهده في اجتماعات الأحزاب السياسية، والتراشق بالتهم والسباب الذي نقرؤه في مختلف الصحف الحزبية؛ وليست السياسة هي هذه المظاهرات التي تعج بها الشوارع وتضج بالهتاف لفلان وفلان من رجال الحكم والسياسة. إنما السياسة حكمة وتدبير ونظر بعيد، وتفكير فيما يعود على الأمة أفراداً وجماعات بالخير. . .
إن لكل أمة هدفاً تسعى إليه، ولكن هذه الأهداف جميعها تلتقي في كل أمة عند معنى واحد، هو التقدم بالأمة والسمو بها إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، والرقي بالشعب إلى المستوى اللائق به في العلم والثقافة، وفي الصحة العامة، وفي شئون الاقتصاد. . .
ولقد مضى على المصريين فترة غير قليلة وهم يجاهدون إلى غاية من غايات الشعوب الحرة، هي الظفر بالاستقلال. وقد طالت هذه الفترة والمصريون في جهادهم، وتنوعت أساليب الكفاح والمقاومة، حتى نسي المصريون ما وراء هذه الغاية، إذ كان جهادهم للاستقلال وحده، وطالت بهم الشقة حتى أوشك كثير منهم أن يوقنوا - سلباً أو إيجاباً - إن الاستقلال في ذاته غاية، فلما أذن الله أن تصل الأمة إلى هذه الغاية بعد طول جهاد، أحس الشعب بشيء من القلق السياسي، وتوزعت خواطرَ الناس شئونٌ وشجون؛ أما طائفة فقالت - وهي الأكثرية من الشعب -: وماذا أفدنا من الاستقلال؟ وماذا حصلنا بعد هذا الجهاد الذي أريقت فيه الدماء، وبذلت فيه الضحايا، وتحملنا فيه ما تحملنا من العنف والمشقة؟. . . وأوشكت هذه الطائفة أن تكفر بعد إيمان، وتعتقد أن ما بذلت في ساحة الجهاد منذ سنين وسنين لم يكن إلا عبثاً وجهداً بغير ثمرة. . .
وأما طائفة - وهم المؤمنون بحق هذه الأمة في الحياة - فقد بعدت مرامي همتهم، وانبسطت رقعة الأمل أمامهم، فقالوا لأنفسهم: ها نحن أولاء قد اجتزنا الدرب الشائك، ووقفنا على أول الطريق الذي يصل إلى المجد ويبلغ بنا مراقي السعادة. . . وأعدت أهبتها للجهاد إلى هدف جديد. . . فلم يكن ينقصها إلا الرائد الجريء الذي تترسم خطاه في هذا الطريق. وكان هذا الرائد هو مؤلف كتاب (على هامش السياسة)
على هامش السياسة كتاب تناول به مؤلفه أهم مسائلنا القومية في الوقت الحاضر، بأسلوب العالم الهادئ المتزن الفكر، فوصفها وصفاً صادقاً ليس فيه مبالغة ولا إغراق، ثم بين أسبابها وعللها ووسائل علاجها على ما هداه البحث. وتتلخص هذه المسائل في أربعة أبواب: الصحة العامة، والتعليم، ومسائلنا المالية، وسياستنا الاقتصادية
وقد تناول هذه الأبواب الأربعة فقسم كل واحد منها إلى فصول، تقسيما منطقياً واضح الأداء، بحيث لا يكاد يفرغ قارئه من قراءته حتى يكون قد ألّم بموضوعه إلماماً لا يدعه في حاجة إلى سؤال؛ كأنما يتحدث عن كل طائفة وفي كل مسألة واحدٌ من أهلها، فلا تفوته صغيرة أو كبيرة من مشاكلها وأمانيها
وإذا نحن قررنا أن هذه الأبواب الأربعة مما لا تتأتى دراستها مجتمعة على هذا الأسلوب لشخص واحد إلا إذا قُدِّر له أن يكون متخصصاً - عرفنا مقدار الجهد الذي بذله المؤلف حتى انتهى بمؤلفه إلى هذه الغاية من الكمال. وحمدنا له ما بذله من جهد وتضحية. وما ليّ طاقة في هذا الحيز الضيق من الكلام أن أتحدث عن كل واحدة من هذه المسائل بذاتها؛ إذ كان ذلك مما تضيق به صفحات الرسالة؛ وإذ كانت كل مسألة من هذه المسائل في حاجة إلى عناية في العرض والتعليق لا تجزي فيها سطور
وإننا لنغمط هذا الكتاب حقه بأن نسميه كتاباً؛ فما هو إلا مصر الحديثة كلها في مشاكلها وأمانيها؛ وما ينبغي أن نقرأه على أنه كتاب فيه ما في الكتب من رأي صاحبه مما قد يلذ أو يفيد؛ ولكنه مجموع المسائل التي تشغل أفكار الطبقة المثقفة من المصريين عامة. ولسنا نغلو في تقدير هذا الكتاب إذا قلنا أنه ينبغي على القائمين بشئون الحكم في مصر جميعاً أن يقرءوه ليعرفوا كثيراً مما فاتهم إلى اليوم أن يعرفوه من واجبات الحاكم المصلح. على أنه في جملته - على وفائه بما وُضع له - ليس إلا تنبيهاً إلى الكتَّاب ورجال الفكر جميعاً أن يتناولوا مسائلة بحثاً وتمحيصاً ودراسة؛ فذلك هو الوقت الذي ينبغي أن ترسم مصر فيه لنفسه دستوراً قوميّاً تسير على نهجه إلى الغاية المأمولة في السعادة والمجد، وهذا الكتاب هو فاتحة البحث المنتج في هذا الموضوع. . .
ذلك عرض موجز لموضوع هذا الكتاب القيم، لا يُعرِّف به كل التعريف ولكنه يدل عليه بعض الدلالة. وإنه لعجيب في بلادنا أيُّ عجيب أن يكون من رجال الحكم والسياسة في مصر من يرصد وقته لمثل هذا البحث والدرس والاستقصاء في شئون لا تعود عليه في خاصة نفسه بالفائدة العاجلة؛ وإن أعجب منه أن يكون من هؤلاء الزعماء السياسيين عالم أو مؤلف أو أديب له فكر وبيان ومعرفة؛ وأعجب من هذين أن يكون بحثه ودرسه واستقصاؤه في شئون الطبقات الدنيا من الشعب بحيث يقف درسه على ما يهم سواد الناس ويكشف عن آلامهم وأماني أنفسهم. . .
ولكن هذه العجائب الثلاثة قد اجتمعت لسعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا في مؤلفه القيم (على هامش السياسة)
ليس هذا فقط هو شأن هذا الكتاب، ولكن فيه شئوناً أخرى تستحق الملاحظة والتعقيب؛ فقد تعودنا وتعود الناس جميعاً ألا يروا ما تقع عليه أعينهم مرات متكررة في كل زمان ومكان؛ إذ كان الألف والعادة في المشاهدة مما يحملان على الغفلة والتعامي؛ فلن تجد كثيراً من الناس يعنون بالبحث والتدقيق في شأن ألفوه إلْف العادة ورأوه بأعينهم عشرات المرات حتى صاروا يمرون به فلا يحسون وجوده، ولكن الشيء الذي يسترعي الملاحظة ويبعث على التحري والتدقيق وتكرار النظر، هو الشيء الغريب الذي تشاهده العين أول مشاهدة. . . فنحن مثلا نعرف فلاحينا وأحوالهم ومعايشهم، وما منا إلا من عرف قليلا أو كثيرا عن القرية المصرية وشئون أهلها، ولكن قليلا منا من فكر في شئون هؤلاء الفلاحين أو نظر إليهم نظر الإنسان إلى أهله: يتعرف آلامهم ويفكر في سعادتهم. . . ومثل هذا الشأن شئون كثيرة في حياتنا، تسترعي اهتمام الأجانب والغرباء الذين يحلّون بيننا ضيوفاً كل عام ولا تثير أقل انتباه فينا، إذ كان هذا مما ألفنا أن نراه أو نسمع به، حتى أورثنا هذا الإلف بلادة في الملاحظة، فنمر به عمياناً أو كالعميان. . .
لذلك كان من عجائب هذا الكتاب أن نرى واحداً منا يحشد كل هذه المسائل في كتابه ويتناولها بالبحث والتدقيق والملاحظة على هذا النحو البديع الذي تناولها به الدكتور حافظ عفيفي باشا في كتابه. . .
والحقيقة أن قارئ هذا الكتاب ليجد فيه أشياء كثيرة تدعوه إلى العجب والإعجاب، وأشياء أخرى جديرة بأن تحمله على الفكر وإنعام النظر إلى مدى بعيد. . .
ومن يدري؟ فقد يكون مما يتحدث به التاريخ غداً حين يذكر هذه الفترة في الحياة المصرية، أن كتاباً ألفه الدكتور حافظ عفيفي باشا، كان هو الإرهاص الأول لنهضة الإصلاح في مصر المستقلة؛ ورب كتاب ألفه مؤلفه لغير التاريخ فكان هو نفسه فصلا من فصول التاريخ. . .
محمد سعيد العريان