مجلة الرسالة/العدد 259/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة/العدد 259/ليلى المريضة في العراق

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 06 - 1938


للدكتور زكي مبارك

(بقية المقال الحادي والعشرين)

وفي وادي السلام يقول الأستاذ علي الشرقي:

ثلاثون جيلاً قد ثوتْ في قرارةٍ ... تزاحم في عُرب وفُرس وأكراد

ففي الخمسة الأشبار دُكَّتْ مدائنٌ ... وقد طُوِيتْ في حُفرة ألف بغداد

عبرت على الوادي وسَفَّتْ عجاجةٌ ... فكم من بلاد في الغبار وكم ناد!

وأبقيت لم أنفض عن الرأس تربهُ ... لأرفع تكريماً على الرأس أجدادي

وكذلك كان الدخول إلى النجف من باب السلام، أي الموت!

وبحثت عن فندق فكان فندق السلام فتشاءمت، ثم أسلمت نفسي إليه، لعلمي بأني صائرٌ لا محالة إلى السلام، أي إلى الموت!

ثم رأيت فندق السلام بالنجف شبيهاً بأخيه فندق السلام في حيّ سيدنا الحسين بالقاهرة. رأيت الناس ينامون زرافات في حجرة واحدة، فأخذت أمتعتي وانصرفت، وذهبت إلى فندق ثان فرأيته أعجب من الأول، فمضيت إلى ثالث فرأيته أغرب من أخويه، وانتهى بي المطاف إلى غرفة حقيرة في فندق حقير هو أعظم الفنادق بالنجف

ولعل الفنادق كانت كذلك لقربها من وادي السلام، فهي تروض المرء على قبول الدفن مع من يعرف ومن لا يعرف، وتقرَّب إلى ذهنه صورة المساواة في دنيا الأموات

كان غبار السفر الذي دام أكثر من أربع ساعات آذاني، وكنت أحب أن أصلح من شأني في الفندق لأستعد لمقابلة البهاليل من آل ليلى، فلم أجد في الفندق ما يسعف، ولكن لا بأس فسيعلم النجفيون بعد ساعات أني نزلت في فندف فيغضبون ويقولون (هذه فضيحة) وينقلون أمتعتي إلى منزل أحد الأصدقاء

وعندئذ أتذكر أن النزول في الفندق كان عند أهل العراق علامة من علائم المسكنة، يشهد بذلك قول الشاعر القديم

يا أيها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي

آكل من خبزي ومن كِسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرس ويشهد بذلك قول شاعر حديث هو الرصافي:

سكنت الخان في بلدي كأني ... أخو سفر تَقَاذُفهُ الدروبُ

وأصرخ في وجه النجفيين قائلاً: إن المدينة التي تخلو من فندق نظيف لا تسمى مدينة، والذين عاشوا في أوربا كما عشتُ لا يستطيعون النزول في منازل الأصدقاء، والفندق النظيف هو المأوى الطيب للضيف، والحكومة المصرية لا تنزل ضيوفها في غير الفنادق، لأنها تعرف قيمة الفنادق، وكذلك تصنع حكومة العراق حين تستقبل ضيوفها في بغداد

فيا أهل النجف، تذكروا أن مدينتكم في حاجة إلى فندق نظيف، وتذكروا أن مثل ذلك الفندق ينقل مدينتكم من حال إلى أحوال

خرجت من الفندق أتلفت ذات اليمين وذات الشمال لأرى شبيهات ليلى، شفا الله ليلى وشفاني، ومنحني وإياها العزاء يوم الفراق، إن كان لنا سبيلٌ إلى التلاقي قبل الفراق

وساقتني قدماي، بل هداني قلبي إلى الحرم الحيدري

وقفت بصحن الحرم كالأرقم، والحمد لله على نعمة العافية، وليته يتفضل بحفظ هذه العافية ولو عشر سنين لأداوي جميع المرضى من الملاح

وقلت في نفسي: أنا تلميذ الشريف الرضي الذي يقول:

لو أنها بفناء البيت سانحةٌ ... لصِدتُها وابتدعت الصيد في الحرم

فإذا كان الشريف استباح الصيد في الحرم النبوي فأنا أستبيحه في الحرم الحيدري

ودرت حول الضريح مرتين، ثم وقع البصر على فتاة ساجية الطَّرف مشرقة الجبين فخفق القلب

ثم وقفت

أصاول عينيها بعيني والهوى ... يشيع الحميا في فؤادي وأعضائي

وظنت الفتاة أنها أقدر مني على الفتون، فحاولت قتلي، ثم لطف الهوى فصرعتها، فجمعت ما تبدد من قواها، وفرت فرار الغزال المطعون

وعَدَوتُ لاقتناصها فلم أفلح. وكيف يعدو النشوان وهو كالمقيد في الشوك!

من أي سحر صيغت تلك العيون؟

وإلى أية غاية تسير تلك العيون؟ ولأية حكمة خلقت المقادير تلك العيون؟

لقد أفلح الدساس الظريف الذي نقلني إلى النجف، وهو على ظرفه لئيم خبيث

وبالنجف الحاريّ إن زرت أهله ... مهاً مهملات ما عليهن سائس

خرجن بحب اللهو في غير ريبة ... عفائف باغي اللهو منهن آيس

ثم طفت بالحرم مرة ثانية فوجدت ناساً يقرءون أدعيات وصلوات وحولهم نساء يبكين ورجال يبكون، فوقفت أسمع وأبكي، وهل في الدنيا بلاء مثل بلائي؟ أنا العاشق المهجور الذي غدرت به ليلاه. ولو كانت ليلى واحدة لصبرت، ولكنهن ليليات!

فيا بديع الملاحات ويا فاطر السموات، كيف ترى حالي!

ويا خالق النخيل والأعناب، كيف سكبت الصهباء في روحي؟ ويا مجري الدمع في الشؤون، كيف علمتني وعلمت الحمائم النُّواح

وما الذي أعددت لتكريمي يوم ألقاك وقد سبَّحت بحمدك فوق أفنان الجمال!

وما عندك لسلامتي من الناس، وقد خاصمت فيك جميع الناس!

وطفت بصحن الحرم مرة ثالثة فوجدت ضريح الحبوبي الذي يقول:

اسقني كأساً وخذ كأساً إليك ... فلذيذ العيش أن نشتركا

وإذا جُدت بها من شفتيك ... فاسقنيها وخذ الأولى لكا

أو فحسبي خمرةٌ من ناظريك ... أذهبت نسكي وأضحت منسكا

وانهب الوقت ودَعْ ما سلفا ... واغتنم صفوك قبل الرَّنق

إن صفا العيش فما كان صفا ... أو تلاقينا فقد لا نلتقي

وعند ذلك الضريح طال بكائي، فهذا شاعر قضى حياته في التغني بالجمال، ثم رآه النجفيون صوفياً فدفنوه بجوار أمير المؤمنين، وأنا أفنيت شبابي في التغني بالجمال ولم أجد غير العقوق!

فمتى يعرف قومي أني صوفيٌّ يؤمن بوحدة الوجود؟

ومتى يعرف قومي أني أصدق تلاميذ ابن الفارض في هذا الزمان؟

اللهم لطفك ورحمتك، فقد طال بلائي بالناس!

يئستُ من الصيد في الحرم الحيدري بعد فرار تلك الغزالة، وبدأتُ أعتب على سيدنا علي بن أبي طالب، فمثلي لا يُكرَم في رحابه بالماش والُجلاَّش، وإنما يكرم مثلي بالهيام في أودية الفتون، وما كنت في حياتي من الفاسقين، وإنما كنت مؤمناً يتقرب إلى ربه بعبادة الجمال

وفي حومة هذا العَتْب تذكرت أن لي في النجف صديقاً من تلاميذ الأستاذ محمد هاشم عطية هو السيد محمد تقي آل الشيخ راضي، فقلت أذهب إليه عساه يجد السبيل إلى الظبية التي نفرت مني، ولكني ما كدت أصل إلى منزله بعد طول البحث حتى وجدته في ارتياع، فقد علم أن الشرطة في النجف تبحث عني، لأني في ظنهم وردت النجف لمطاردة الظباء، وقد رأى بفطرته السليمة أن ينفي الشبهة فدعا علماء النجف للتسليم على العالم العلامة الدكتور زكي مبارك!

وما هي إلا لحظة حتى كانت الدار تموج بالغرّ البهاليل من أقطاب النجف

وجلست بين القوم جلسة العالم الحق، وما يصعب عليّ أن أمثل هذا الدور الفظيع، فانتقدت صاحب مجلة الحضارة لأنه يدعو إلى تعديل المذاهب القديمة في التعليم، وقلت أن مذاهب التعليم في النجف كمذاهب التعليم في الأزهر لا ينبغي أن تزول

وعجب القوم من أن يصدر هذا القول عن رجل متخرج في السوربون

ولكني في الواقع لم أكن مرائياً، فقد صح عندي أن الأساليب الأزهرية والنجفية أساليب تنفع أجزل النفع في رياضة العقل، يضاف إلى ذلك أن الأزهر هو الذي حفظ اللغة العربية في عهد المماليك، وأن النجف هو الذي حفظ اللغة العربية في عهد الأتراك، ورعاية العهد توجب الإبقاء على تلك الأساليب التي استطاعت أن ترسل النور الوهاج في دياجير الظلمات

وبعد طول الحوار فهمت أن في النجف ثورة فكرية تشبه الثورة التي وقعت في الأزهر منذ أكثر من ربع قرن، وعرفت أن طلبة العلم في النجف يريدون أن يغيروا حالهم ليسايروا مناهج التعليم في العصر الحديث

وقد تأكد ذلك المعنى حين قال الأستاذ الصوري: ما رأيك يا دكتور في أن أخلع عمامتي؟ فقلت: أنا أبغض المعممين الذين يخلعون عماماتهم! فقال: هل تعرف ما قلتُ في العمامة؟ لقد قلت: إنها منعت رزقي وفِسقي فابتسمت وقلت: وكيف تعيش يا مسكين بلا رزق، وبلا فسق؟!

وتقدم الأستاذ البلاغي صاحب مجلة الاعتدال فقص أحاديث يشيب لها الوليد، ومنها عرفت أن طلبة العلم في النجف يعيشون في بؤس. وقد طفر الدمع من عيني حين سمعت أن عالما نجفياً أشرت إليه في كتاب (عبقرية الشريف الرضي) جلس في صحن الحرم الحيدري يبيع كتبه ليسدَّ ما عليه من ديون، لم يجنيها لهوٌ ولاُ مجون، وإنما جناها الخبز والماء

وكان هذا العالم المحقق لقيني في الكاظمية منذ أشهر، لقيني لقاء المساكين؛ ولما لقيني في النجف تبسم وقال: كنت في الكاظمية غريباً، وأنا اليوم في بلدي، وأنا حاضر لخدمتك

وكنتُ أحب أن أقبل دعوته الكريمة، ولكني وا أسفاه كنت عرفت ترجمة حالة منذ لحظات ففررت من كرمه بترفق وتلطف

لا تحزن أيها الزميل؛ فسيكون لي ولك مكانٌ بين الصابرين

لا تحزن، فالدنيا أحقر من أن يبكي على نعيمها أحرار الرجال

لقد سمعت أنك بعت دارك بثمن بخس لتسدد ديونك. فهل علمت أن لك عقبى الدار يوم يجزى الله الصابرين؟

ثم مضيت فطوَّفت بالنجف وحولي جيش من أهل العلم والأدب والبيان، وفي أحد المنعطفات وقع البصر على طفلة من قريبات ليلى، فمددت يدي امسح خدها الأسيل فصرخت، وتضاحك الرفاق، ولكني سأرجع بإذن الله إلى النجف لأعرف أهل تلك الطفلة وأخطبها لأحد أبنائي، وبيت أهلها يقع في دربونة متصلة بدربونتين إحداهما توصَّل إلى الرابطة الأدبية، والثانية توصَّل إلى الحرم الحيدري، ولذلك البيت روشن عليه بَرَّادة، وبداخله بئرٌ وسرداب، وفوق الروشن حمامتان تسجعان، وفوق عتبات ذلك البيت تتحدر مدامع العشاق

يا شبيهة ليلى في حسنها ودلالها ولؤمها وغدرها! ترفقي بقلبي فقد تركته في الدَّربونة لتدوسه في كل صباح أقدامك الرقاق

يا شبيهة (كريمة) الغالية التي تداعت أباها في الأحلام تذكَّري أن طيفاً زارك في النجف ولن يعود. يا أخت (زينب)، تذكري أن الرجل الذي مدَّ يمينه ليمسح خدك الأسيل لم يكن فاجراً، وإنما هو مجاهد ترك وطنه وأهله في سبيل العقيدة والوجدان إليك دمعي يا حلوة يا جميلة، وهو دمعٌ تمردَّ على الخطوب، ثم أذلَّته عيون الملاح. أحبك أيتها الطفلة الوسيمة وأشتهي أن أسمع صراخك مرة ثانية، فما كان وحق الحب ألا صراخ الدلال

واستيقظت في اليوم التالي مبكراً لأرى الكوفة، ولأقف بأطلالها كما وقف أستاذي ماسينيون، وكان أكبر همي أن أرى مسجد الكوفة الذي طُعن فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والذي فار في زاويته التنور لعهد نوح عليه السلام، والذي صلى فيه ألف نبيَّ وألف وصيَّ، والذي فيه عصا موسى، والذي هلك فيه يغوث ويعوق، والذي يحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب، وفي وسطه روضة من رياض الجنة كذلك تقول الأساطير

وما كانت في عيني وقلبي أساطير، وإن كنتُ تلميذ منصور فهمي وطه حسين

لقد شهدت بعيني كيفُ طُعنَ علي بن أبي طالب ورأيت دمه رأى العيان

ورأيت المكان الذي خطب فيه الحجاج خطبته المشهورة، الحجاج الهائل الذي أصلح العراق، وافسد العراق

ورأيت قبر مسلم بن عقيل رسول الحسين، ورأيت كيف يبكي الناس على قبره وكأنما قتل بالأمس، فتذكرت أن العراق يحوي ثروة عظيمة جدَّاً من الحماسة الوجدانية، وتذكرت أن العراق تغلب عليه سرعة الانفعال، فهو يقتل المصلح بلا ترفق، ثم يجعل البكاء عليه شريعة من الشرائع

تذكرت أن العراق كالقوة الكهربائية التي تحيى وتميت، وهو ينتظر رجلا في طغيان الفرات وسماحة النيل

إن العراق من قُوى العروبة والإسلام، ولكن أين من يعرف؟

لقد هداني العراق وأضلني، وكان على الدهر مصدر هداية وضلال

ثم مضيت أتلمس آثار الحيرة البيضاء، مضيت أتلمس آثار الخورنق، فلم أعرف ولم يعرف رفاقي أين الخورنق

وكان هيامي بأطلال الحيرة موسماً من مواسم الشعر والخيال،

وفي ذلك الهيام عرفت شيئاً من مدينة العرب في الجاهلية ولو كان لي شيء من الأمر في حكومة العراق لأجريت نهر السدير من جديد لأنقش في وجه الزمن ذكريات النعمان

مضينا إلى أطلال الخورنق مع سائق جهول فقادنا إلى مكان موحش، فقال الرفاق: ليس هذا مكان الخورنق. فقال السائق: أنتم تبحثون عن أحجار، وههنا أحجار!

صدقت أيها الجهول، فنحن نبحث عن أحجار، ولكننا نبحث عن أحجار نواطق!

عندئذ تذكرت فراعين مصر، فقد كانوا يدركون أن الزمن لئيم غدار، وأن التاريخ كلام في كلام، فبنوا أهرامهم وقصورهم بأساليب يعجز عن فهمها الزمان

وقد تقوضت آثار الملوك في المشرقين والمغربين وعجز الدهر الغادر عن هدم آثار الفراعين

ما أشقاك في دنياك وأخراك أيها النعمان! أنت قتلت سِنِمَّار ليبقى سر الخورنق، فهل بقي الخورنق؟

ليتك استعنت الجندي المجهول في وادي النيل، ليتك بنيت هرماً يعجز اللئام عن نقل أحجاره ليبنوا بيوتهم الخاوية

أيها النعمان، سلام عليك من شاعر مصري يبكي لمصيرك في التاريخ!

أيها النعمان، أيها الملك العربي العظيم، أين الخورنق وأين السدير. . .؟

اعترف أيها الملك بعظمة الشعر والشعراء، فنحن الذين حفظنا مكانك في التاريخ، ولولا الشعراء لطمس الزمن مكانك في التاريخ

وفدت على أطلال قصرك وأنا جائع ظمآن فما تزودت غير الأسى والأنين

وفدت على أطلال أنكرتها العين، وعرفها القلب

وفدت على أطلال لم يعرفها جيرانك من أهل النجف، وعرفها شاعر مصري مظلوم ينكره أهله، كما أنكرك أهلك

فيا زميلي في البؤس والشقاء، سلام عليك

ثم مضينا نمتع النظر بطغيان الفرات، وأين طغيان الفرات من طغيان قلبي!

هذه الكوفة الاسلامية، وتلك الحيرة الجاهلية، وأولئك الغافلون من العرب والمسلمين. فيا رب الأرباب أنقذ عبدك المسكين من ظلم الجحود والعقوق ورجعت إلى النجف أسأل عن أخوات ليلى، ولكن كيف؟ إن النجف كله يطارد العاشق المسكين الذي ضيع مستقبله في سبيل هواه

ويصمم النجفيون على إقامة حفلة تكريم للدكتور زكي مبارك فأرفض، لأن تلك الحفلة كانت توجب أن أتخلف عن دروسي في دار المعلمين العالية، وتخلفي عن دروسي أمر مستحيل. وكذلك أقهر علماء النجف وأمتطي السيارة إلى بغداد

رجعت في زي المساكين لأني لم أجد الشفيع إلى ليلاي

رجعت ذليلاً مقهوراً، فماذا أصنع؟

آه من حبي وغرامي وبلواي!

لقد هجرتني ليلي وصدفت عني ظمياء

فلأذهب إلى الموصل لأستشفع بقريبات ليلى هناك

إلى الموصل الذي رقدت في ثراه عظام أبي تمام أمتطي قطار المساء. . .

(للحديث شجون)

زكي مبارك