مجلة الرسالة/العدد 26/النفس والرقص
مجلة الرسالة/العدد 26/النفس والرقص
للكاتب الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري
ترجمة الدكتور طه حسين
اركسيماك - هي المدهشة، هي البالغة غاية الإبداع في الرقص (اتكتيه)
فيدر - ما أعرفك بهن!
اركسيماك - لكل هؤلاء الحسان أسماء كثيرة أخرى بعضها يأتيهن من الاسرة، وبعضها يأتي من الاخصاء
فيدر - أنت أخص هؤلاء الأخصاء!. . تعرفهن اكثر مما ينبغي!
اركسيماك - أنا اعرفهن اكثر جدا من المعرفة الحسنة، ومن بعض الأنحاء أحسن مما يعرفن أنفسهن. أي فيدر! الست أنا الطبيب؟ عندي وبي تستحيل أسرار الطب كلها، أسرارا تشترى بها كل أسرار الراقصة! هن يدعونني لكل شيء، يدعونني لالتواء القدم، وللدمل، والذهول، ولما يمس القلب من حزن، وللأحداث المختلفة التي تصيبهن من الصناعة (وهذه الأحداث الجوهرية التي تنتج في سهولة من مهنة شديدة الحركة) وضبقهن الخفي، حتى الغيرة سواء أكان مصدرها الفن أو الغرام، وحتى للحلم. . أتعلم انه يكفي ان يسررن إلى ببعض ما يقلقهن من الأحلام لاستنبط من ذلك ان في بعض أسنانهن فساد؟
سقراط - يالك من رجل خليق بالإعجاب يعرف الأسنان بالأحلام! أتظن إن أسنان الفلاسفة كلها فاسدة؟
اركسيماك - لتحمني الآلهة من عض سقراط؟
فيدر - دع هذا وانظر إلى هذه الأذرع والسوق التي لا تحصى! عدد ضئيل من النساء يظهر ألف شيء ألف مشعل، ألف رواق معمد قليل البقاء، عروشا، عمدا. . الصور تذوب تنمحي. إنما هي جماعة من الشجر حسان الغصون يهزها نسيم الموسيقى! أترى يا اركسيماك أن هناك حلما يصور من الألم واضطراب العقل اكثر مما يصور هذا الذي نراه الآن؟
سقراط - ولكن هذا الذي نراه إذا حققت ابعد الأشياء عن الحلم أي فيدر العزيز
فيدر - ولكني أنا حالم. . حالم بالعذوبة تضاعف نفسها بنفسها إلى غير حد بما يكون بي هؤلاء العذارى من التلاقي ومن تبادل الصور. حالم بهذا التماس الذي لا يوصف والذي يحدث في النفس بين الأزمنة، بين بياض الأذرع واشتباكها بمقدار، وأصوات هذه الأنغام المؤتلفة الخافتة والتي يظهر عليها كل شيء كأنه مصور محمول. تنفس اختلاط هؤلاء الفتيات الساحات كأنه شذى مسكي مركب، ويهيم محضري في هذا الظرف المختلط حيث تضل كل واحدة منهن مع رفيقة ثم تظهر مع رفيقة أخرى
سقراط - إن نفسك لمفتونة باللذة، إن ما تراه لنقيض الحلم لا أثر للمصادفة فيه. . ولكن نقيض الحلم ما هو يا فيدر؟ إنما هو حلم آخر! حلم تنبه ويقظة يحلمه العقل نفسه! - وماذا يمكن أن يحلم العقل؟ لو حلم العقل صلبا قائما مثلج العين مطبق الفم كأنه سيد شفتيه - فالحلم الذييراه هل يكون إلا شيئاً كالذي نراه الآن - هذا العالم من القوة الدقيقة والتخيل المتعمد في عناية وإتقان! حلم، حلم، ولكنه حلم يملؤه التناسق كله نظام، كله فعل وغناء. . من يدري أي القوانين المقدسة تحلم هنا الآن وقد اتخذت وجوها نضرة واتفقت على أن تظهر للناس كيف تستطيع الأشياء الواقعة وغير الواقعة والمعقولة ان تمتزج وتأتلف حسب ما لآلهة الفن من مقدرة؟
اركسيماك - من الحق يا سقراط ان كنز هذه الصور لا يقدر. . ألا تظن أن فكرة الآلهة هي بالضبط ما نرى وان هذا التشابه الفخم إلى غير حد. هذا التداور والتقابل والتقاطع التي لا تنتهي والتي تظهر لأعيننا ينقلنا إلى عالم المعرفة الإلهية؟
فيدر - ما أجمله ما أظرفه هذا المعبد الصغير الوردي المستدير الذي يؤلفنه الآن والذي يدور في بطء كأنه الليل! انه ليتفرق فتيات أن الأردية لتتطاير وكان الآلهة قد غيروا من تفكيرهم
اركسيماك - إن الفكرة الإلهية الآن هي هذه الجماعات الكثيرة المختلفة الألوان من الوجوه الباسمة. أنها تبدئ المعاد من هذه الحركات الحدة وهذه العَواصف اللذيذة التي تتألف من جسمين أو ثلاثة أجسام ثم لا تستطيع أن تفترق. . لقد وقعت إحداهن فيما يشبه الأسر فلن تخرج من سلاسلهن السحرية!
سقراط - ولكن ماذا يصنعن فجأة؟. . . إنهن ليختلطن، ثم يمضين مسرعات!. . .
فيدر - هي يطرن إلى الأبواب، ينحنين ليستقبلن اركسيماك - أي اتكتيه! أي اتكتيه!. . . يا للآلهة!. . اتكتيه الخافقة!
سقراط - ليست شيئاً.
فيدر - هي طائر صغير
سقراط - شيء لا جسم له!
اركسيماك - شيء لا ثمن له!
فيدر - أي سقراط! كأنها تطيع إشكالا لا ترى!
سقراط - أو تذعن لقضاء جليل!
اركسيماك - أنظر! أنظر! أترى أنها تبتدئ بمشي الاهي؛ مشي يسير مستدير. . تبتدئ بأرقى ما عندها من الفن، تمشي في يسر على ما انتهت إليه من القمة! طبيعتها الثانية هذه أبعد ما تكون عن طبيعتها الأولى، ولكن يجب أن تشبهها، حتى تخدعنا عنها.
سقراط - إني لاستمتع إلى أقصى حد بهذه الحرية. أن صاحباتها الآن لمستقرات كأنهن مسحورات. وأن الموسيقيات ليسمعن لأنفسهن دون أن يحولن أبصارهن عنها. . . يمتزجن بها كأنما يلححن في كمال التوقيع.
فيدر - إحداهن كأنها المرجانة الوردية قد انعطفت على نفسها وهي تنفخ في قوقعة عظيمة.
اركسيماك - صاحبة المزمار هذه العالية في الطول ذات الفخذين النحيفتين كأنهما المغزلان، قد لفت إحداهما على الأخرى، ومدت قدمها الظريفة التي تخفق إبهامها بوزن الموسيقى. . . أي سقراط ما ترى في هذه الراقصة؟
سقراط - أي اركسيماك هذه المخلوقة الصغيرة تدعو إلى التفكير. . أنها تجمع على نفسها أنها تحتمل جلالا كان مفرقا فينا جميعا وكان يحل غير مشعور به كل الذين يشتركون في هذا اللهو. مشى يسير، وإذا هي الآهة، وإذا نحن جميعا كأننا الآلهة!. . . مشى يسير ايسر التسلسل كأنها تأجر الفضاء بأعمال جميلة متساوية وتضرب بعقبها حركات كالدنانير ذات الرنين. كأنما تعد وتحصي في قطع من الذهب الخالص ما ننفقه نحن غافلين نقدا عاديا من الخطوات حين نسعى لأي غاية من الغايات
اركسيماك - أيها العزيز سقراط. إنها تعلمنا ما نعمل، مظهرة لنفوسنا في جلاء ما تأتي أجسامنا من الحركات، تظهر لنا ساقاها حركاتنا كأنها المعجزات. ثم هي تدهشنا بمقدار ما ينبغي أن ندهش
فيدر - في أي شيء تمتاز هذه الراقصة عندك بشيء سقراطي، فتعلمنا من المشي كيف نعرف أنفسنا بأنفسنا خيراً مما كنا نعرفها،
اركسيماك - في هذا بالضبط وهو أن خطواتنا تبلغ من اليسر والألف حدا لا نشرفها معه بملاحظتها في أنفسنا ومن حيث هي أعمال غريبة إلا أن يكون أحدنا مقعداً أو مريضاً فيضطره العجز إلى الإعجاب بها - وإذن فهن يحملننا كما يعرفن، ونحن نجهلهن، وهن يختلفن باختلاف الأرض والغاية والأخلاق والأحوال بل وضوح الطريق، ونحن ننفقهن في غير تفكير.
ولكن انظر إلى هذا المشي التوقيعي الكامل. تمشيه اتكتيه على ارض لا عيب فيها، وهي حرة صريحة تكاد تكون مرنة تضع في تناسق على مرآة قوتها قدميها متتابعتين، عقبها يصب جسمها نحو مقدمة رجلها، ثم تمر رجلها الأخرى فتتلقى الجسم وتصبه إلى امام، وهكذا على حين تخط قمة رأسها البديعة في الحاضر الأبدي جبهة موجة متثنية
وإذا كانت الأرض هنا كأنها مطلقة قد برت من كل عوج مفسد للتوقيع أو دافع إلى التردد فهذا المشي العظيم الذي لا غاية له إلا نفسه، والذي برئ من الوان الفساد على اختلافها يصبح نموذجا عاما
(انظر أي جمال، أي أمن شامل للنفس ينشأ من طول خطواتها الفخمة، هذه الخطوات الممتلئة ملائمة لعددها الذي يلائم الموسيقى ولكن عدد الخطوات وطولها ملائمتان من ناحية أخرى لقوام الجسم
سقراط - انك لتحسن الحديث عن هذه الأشياء أيها الخبير اركسيماك حتى أنى لمظطر إلى أن أرى كما تتفكر. إني لأنظر إلى هذه المرآة التي تمشي وتثير في نفسي شعور السكون لا اعني إلا بما لحركاتها من المساواة. . .
فيدر - إنها لتقف بين محاسنها التي لا تنتهي. .
اركسيماك - ستريان!
فيدر - إنها تغمض عينها. .
سقراط - إنها كلها في عينيها المغمضتين وحيدة مع نفسها في إفناء عنايتها الخاصة. تشعر كأنها أصبحت شيئاً حادثا جليلا.
اركسيماك - انتظرا، ان. . . الصمت الصمت!
فيدر - يالها لحظة حلوة! هذا الصمت تناقض. كيف السبيل إلى إلا أصبح. الصمت!
سقراط - لحظة عذراء حقا. ثم لحظة نحس فيها كأن شيئا يجب ان ينقطع في النفس وفي الانتظار وفي الجماعة. . شئ ينقع ولكنه في الوقت نفسه كأنه يتصل.
طه حسين