مجلة الرسالة/العدد 26/في طريق المنفى

مجلة الرسالة/العدد 26/في طريق المنفى

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1934



للأديب حسين شوقي

هي ذكرى مؤلمة من ذكريات الصبي حدثت في بداية الحرب العالمية.

عند مغادرتنا محطة القاهرة في طريق المنفى، جاء أقاربنا يودعوننا وكانوا يعتقدون أن الحرب سوف تنتهي قريبا لأن الفيالق الألمانية المظفرة كانت وقتئذ عل أبواب باريس، فكان من المفروض أن فرنسا سوف تضطر إلى التسليم، وعلى هذا نرجع من المنفى بعد أشهر قليلة، ولكن اخطأ مع الأسف هذا الحساب لأننا بقينا في الخارج خمس سنوات، كما أن بعض هؤلاء الأقارب الأعزاء أدركتهم المنية قبل عودتنا إلى الوطن. قصدنا بعد ذلك السويس حيث ركبنا سفينة أسبانية قادمة من جزر الفلبين، وتقصد برشلونة (أسبانيا)، ولم تكن السفينة متينة ولا كبيرة، ولكن لم يكن لنا وقتئذ الخيار في ركوب سفينة أخرى وقديما قالوا ان المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه، وفوق هذا لم تشفق أمواج المحيطات الهندية على هذه السفينة في طريقها إلى السويس، فخلفتها في حالة سيئة.

انقضت الأيام من الرحلة في هدوء تام، وقد تعرفت أسرتي بمعظم المسافرين وأغلبهم أسر ألمانية ونمساوية اعتقل رجالها في مصر. وكم كان محزناً حال هذه الأسر وهي مدفوعة إلى مصير مبهم مجهول بلا مال ولا نصير! ولولا أمل هؤلاء القوم في النصر لما استطاعوا أن يصبروا على ما كانوا فيه من بؤس وشقاء.

أما أنا فقد تعرفت على الفور (قبل أقاربي) بالركاب الذين هم من سني، لأن الديمقراطية الحق هي التي تسود علاقات الأطفال

وكنا - هؤلاء الأطفال - وأنا - بطبيعة الحال غير شاعرين بالمأساة الكبيرة التي تمثل على مسرح العالم، بل العكس كانت فرصة لنا لنمثل معارك كالتي كانت ناشبة بين الألمان وخصومهم

ولكننا كنا نجد بصعوبة من يرضى منا ان يقوم بدور العدو لأن هذه الوقائع كانت دائما تنتهي بفوز ألمانيا، وبضرب الجنود المفروض أنهم أعداء ضربا مبرحا. وكان معنا على ظهر السفينة قسيس ألماني منفي من مصر، وكان يلومنا على عملنا ويدعونا إلى المحبة والوئام، ولكن لعمري هل كان الكبار وقتئذ ينصتون إلى مثل هذا القول حتى ينصت إليه الصغار؟

وكان على ظهر السفينة - غير هذه الأسر الألمانية - عشيقان أسبانيان قادمان من الفلبين، وكانت حالهما أشبه بحالنا - معشر الأطفال - في عدم الاكتراث بما يقع في الدنيا من حوادث جسام، إذ كانا يقضيان الأيام في غزل متواصل، كان لهما على ظهر السفينة كرسيان طويلان متلاصقان، فكنت إذا مررت أمامها قطعا الغزل، فإذا انصرفت استأنفاه، فأغضبني هذا التصرف منهما، وأقسمت أن أفاجئهما متلبسين بالجريمة، من اجل هذا وضعت كرسي بالقرب منهما ثم اضطجعت عليه، وغطيت وجهي بشال من الصوف متظاهراً بالنوم، فلما أستأنف العاشقان الغزل فزعت من مقعدي فجأة وضحكت ضحكة عالية لأنني كنت أرقبهما من ثقب صغير أحدثته بأسناني في الشال!

ثم كان هناك راكب اختل عقله من طول السفر، إذ مضى عليه أربعون يوما وهو في السفينة، وكانوا يسمحون له بالنزهة على ظهر المركب في حراسة بحار حتى لا يلقي بنفسه في اليم، ولكن جنون هذا المجنون كان من حسن حظنا هادئا. وكان بعضهم يزعم أن مثل هذا الجنون وقتي يذهب لدى نزول صاحبه على الأرض. ثم كانت معنا في السفينة شحنة من الثيران مرسلة إلى أسبانيا ليمثل بها - المسكينة - (في الكوريداس)، ولكن قبل وصولنا إلى برشلونة بيوم، هبت عاصفة شديدة لم أذكر أني شاهدت في حياتي مثلها، فكانت أمواجها الصاخبة تهاجمنا، وكأنها في بأسها قبائل الهون المتوحشة، وكانت تصيح أثناء الهجوم صياحا شديدا، فإذا كان غرضها إذ ذاك أن ترعبنا فأنها أدركت حقاً بغيتها، إذ كانت حالنا جميعاً سيئة جداً كما أن أضلاع سفينتنا كانت تئن من جراء هذه الصدمات أنين الشيخ الهرم عند أزمة (لومباجو) حادة. . . وقد أمر القبطان بإلقاء الثيران في البحر حتى يخفف عبء المركب، ولا زلت أذكر ذلك المنظر البشع برغم عهده البعيد! كان يلقى بالثيران الواحد تلو الآخر وهي تصرخ كأنها تشهد السماء على جبروت الإنسان!

وقد أخرتنا هذه الزوبعة - التي ما زالت إلى اليوم أعجب من نجاتنا منها - يوما كاملاً عن ميعاد الوصول. .

ولما بلغنا في النهاية برشلونة، وتراءت لنا المدينة عن بعد، لم يكن فرحنا إذ ذاك يقل عن فرح (كرستوف كولومب) حين شاهد (سان سلفادور). . وقبل أن ينزل إلى البر، اقترب مني أحد أصدقائي الصغار، وهمس في إذني قائلا: أتعلم لماذا نجونا من العاصفة؟ ان القسيس كان يصلي من أجلنا طول الليل. فلما نقلت هذا الحديث إلى والدي ابتسم وقال: بل هي دعوات جدتك يا بني!. . أما أنا فأرى ان العناية لم تشأ ان يموت هذا الشاعر قبل أن يتم رسالته، ويغني على قيثارته حضارة العرب الفخمة بالأندلس!

حسين شوقي