مجلة الرسالة/العدد 260/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 260/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 06 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .

- 17 -

عاد المحامي يكدح من أجل قوته كدحاً شديداً، ويأخذ قسطه من النصب مع صديقه هرندن؛ وكان قد تركه وحده طيلة ذلك الصراع العنيف، فهو بذلك يخرج من جهد إلى جهد؛ والناس يعجبون من تلك القوة البدنية التي ما زال يتمتع بها قاطع الأخشاب في الغابة بالأمس وهو اليوم قد ناهز الخمسين أو كاد.

وإن به بعد عودته هذه لحاجة شديدة إلى المال فهو اليوم ذو عسرة؛ وإنه لن يطلب المال ليستعين به في الوصول إلى جاه كما يفعل دوجلاس ومن على شاكلته من الناس، بل لينفق منه فيما باتت تطلبه السياسة من أوجه الأنفاق؛ وإنه ليفطن إلى أن عودته إلى المحاماة إنما هي إلى أجل قريب، فلقد خطا في السياسة خطوة لن يكون بعدها نكوص

ولم يجعل إبراهام للمحاماة كل همه كما كان يفعل من قبل حينما كان يمني بالفشل في السياسة؛ فأن للسياسة اليوم نصيباً كبيراً من وقته ومن جهده؛ فهو يقرأ الصحف قراءة تمعن ليرى ماذا يقول الناس في مسألة العبيد، ولينظر في الأمر ليتعرف كيف يتطور وغلى أين يتجه البلاد فيه؛ وهو يدعم بنيان حزبه في ألينواس ويعدله ما استطاع من قوة يعتد بها في غد

ونظر الناس إليه اليوم نظرتهم إلى ذي جاه، ويشيرون إليه في إعجاب وإكبار، وهو يحس هذا فلا يزداد إلا دعة وليناً؛ فيدل بذلك على أن عظمته عظمة حقيقية تبدو للناس في أبسط مظهر لها فتكون بذلك في أبهى مظاهرها. . .

والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وبهاء منظره ولن يخرج الذهب عن صفته إذا وجد غفلاً من الزخرف؛ والنحاس مهما أدخل عليه من النقش والزينة لن يكون إلا نحاسا؛ ً والعظمة الحق هي التي تخلق الرجال وتبنيهم، وليست هي تلك التي يختلقها الرجال فيكون الواحد منهم بما يتصنع ويتكلف كالذي يحظر في حلة رائعة وهو لا خلق له؛ فلا تخفى الحلة سمته، ولا يكون منها إلا أنها تظهره أقبح منظراً وأحقر أمراً؛ فهو إنما ينبه الناس بما ينتحل ويدعى لنفسه من أوجه الكمال إلى حقيقته فيرون أنه ليس بالكبير ولكنه يتكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن كان ليخيل إليه أنه جوهر. . .

ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب بكماله، فإذا رددت فعله أو رأيه على ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه عقولهم وقلوبهم ما وجدت فيه شذوذاً ولا نقصاً؛ بل إنك لتراه حقيقاً أن يسير الناس كما يرمم، كأنه في أعماله كوكب في هذا الفلك الدائر يتحرك وفق نظام محدود فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام.

وكان من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع الناس بينهم وبينه الكلفة، فهو يصاحبهم ويعاشرهم كأنه أصغرهم قدراً؛ وهو على كثرة بره بهم لا يبتغي على معروف جزاء وكان إذا غشى مجلساً لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة فيأبى إلا أن يجلس حيثما اتفق له؛ وإنه ليستحي أن يناديه الناس باسمه مجرداً عن كل لقب يراد به التعظيم وهو عندهم أيب الأمين أو أيب العجوز أو هما معاً، وهي ألفاظ لها في أذنه سحر الغناء لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع. . .

وحسبك دليلاً على جمال نفسه وطيب عنصره أنه طلب إليه يومئذ أن يكتب كلمة فيها ملخص حياته لتكون مرشداً إلى ترجمة توضع له فلم يشر إلى أنه نشأ في الغابة من أبوين فقيرين، وأنه عمل منذ صغره على كسب قوته فساعد أباه تارة واشتغل أجيراً تارة، وأنه تعلم القراءة والكتابة دون مساعدة تذكر من جانب غيره، وأنه ذهب إلى نيوأر ليانز في تجارة لأحد الناس وأنه أشتغل بعدها صبياً في حانوت، وأنه عمل في تخطيط الأرض وفي توزيع البريد، وأنه عالج المحاماة حتى حذقها، وأنه اختير عضواً في مجلس الولاية. . . كل أولئك دون أن ترى في كلمته هذه العبارة تشعر بفخر أو تنم على الزهو، حتى أنه ما استطاع أن يشير بكلمة إلى ما أصاب من نجاح في السياسة، وهو إن فعل لم يك يعدو الحقيقة في شيء. . .

رجع إبراهام إلى سبرنجفيلد ولكن اسمه ملء الأسماع في كل مدينة من المدن الكبيرة وخاصة في الشمال؛ والصحف لا تفتأ تشير إلى ما كان بينه وبين دوجلاس، ولا تكاد تذكر مسألة العبيد إلا مقرونة باسمه؛ ثم أن مسألة العبيد تذكر اليوم معها مسألة أخرى هي مسألة الوحدة، فقد أخذت تزداد في الجنوب دعوة الداعين إلى الانفصال عن الشمال؛ وكان خصوم ابراهام يجتهدون أن يرجعوا إليه وإلى الحزب الجمهوري السبب في هذا الانفصال إذا تم، وكانوا يسمونه الجمهوري الأسود حنقاً عليه وكيداً له. . .

وانهالت عليه الدعوات من مدن كثيرة في الشمال ليخطب الناس فيها، فأعرض أول الأمر عن إجابة هذه الدعوات قائلاً: إنه إن ترك عمله في المحاماة مدة كما فعل من قبل فسوف يعدم قوته؛ ولكن خصومه لن يدعوا الكيد له ولن يتوانوا عن تشويه مبادئه والطعن عليه بكل فاحش من القول وباطل من الاتهام؛ وإذاً فإلى مجادلتهم من جديد ما من ذلك من بد. . .

وكانت ماري على ما به من خصاصة تطلب منه الكثير من المال لتظهر به في المظهر الذي يليق بما أصبح له من مكانة؛ وهي في الوقت نفسه لا تنفك تستعجله في السياسة وتحرص ألا يتهاون في أمر من أمورها

ولقد عظمت ثقته بنفسه؛ ولكن تواضعه يغلب عليه فيرى نفسه بين عاملين يتنازعانه، فبينما هو يفطن إلى قوته ويحس أن منطق الحوادث يسير به إلى حيث يصبح رجل الساعة، إذا به - وكأنه يخشى الخيلاء - ينظر إلى نفسه نظرة لولا ما عرف عنه من الصدق والصراحة لأخذت على أنها نوع من المكر يلجأ إليه لغاية في نفسه. فهو يسر إلى صديق له أثناء منازلته دوجلاس أن امرأته تتوقع أن سيصبح رئيس الاتحاد، ثم يقول لهذا الصديق وهو يضحك ملء نفسه ويداه تعتقلان ركبتيه وهو مستلق على ظهره: (صور لنفسك يا صاحبي كيف يصير أبله مثلي رئيسا)

يا الله لهذا الرجل! ولكن المبدأ عنده كما أسلفنا فوق كل اعتبار آخر، وما الرياسة عنده إلا غرور ما لم تكن وسيلة إلى تحقيق ما استقر في نفسه، لذلك كان يجهد ويدأب كلما خاف على مبادئه أن تعصف بها الأهواء والمغالطات، ولم يخطر بباله يوماً ما أن يخطو خطوة واحدة من أجل غرض شخصي

وكان لا يزال يرى في دوجلاس أخطر خصومه، لا لما كان بينهما من منافسة، بل لما كان يمتاز به ذلك الرجل من المكر الشديد والمقدرة على أن يخدع الناس في سياسة بلادهم ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق أطماعه الشخصية وهو لا يراعي في الحق إلاً ولا ذمة

وكأن دوجلاس لم يكفه ما كان من جدال فحمل في أهايو على الحزب الجمهوري وقذفه بما شاء من اتهامات. فذهب لنكولن وخطب الناس في كولمبس وسنسناتي، وفي هذه المدينة أعلن سياسته في صراحة وجلاء، قال: (إني أعلن أول الأمر لأهل كنتولي أني كما يقولون - ولكن كما أفهم أنا - جمهوري أسود؛ إني أعتقد أن نظام العبيد خطأ خلقي وسياسي، وإني أود ألا تنتشر العبودية من بعد في هذه الولايات المتحدة!

ولم يقتصر كلامه على نظام العبيد بل تكلم في شؤون أخرى كانت تهم الناس، منها راس المال ونظام العمل، ولقد أطرب في ذلك السامعين وملك مشاعرهم؛ ولما رأى إقبالهم على هذا الحديث أعاده في سوق جمعية زراعية في حفل أقامته بعد ذلك بأسبوعين فقال أنه يرى رأس المال مديناً في وجوده للعمل، فللعمل لذلك أهم وأعلى منزلة، وإن خير عمل هو ما يقوم به الفرد الحر الذكي المستقل الذي يعد ذخر البلاد وعتادها. . .

وفيما هو ينافح عن حزبه ويجادل خصومه في مبادئه إذ وقع في البلاد حادث جديد زاد هياجها وكان مثله مثل الزيت يلقى به على النار وذلك هو حادث جون برون، فإن هذا الرجل على كبر سنه قد أعلن الثورة لتحرير العبيد، ولقد كانت له قبل ذلك بثلاث سنوات حركة جريئة لنصرة قضيتهم في كنساس، وقد عول اليوم أن يذكي نار الثورة في البلاد إذ لم يطق صبراً على بقاء هذا النظام البغيض، وكان أهل الجنوب قد قتلوا ابنه من قبل وباتوا يتربصون به ليقتلوه هو. . .

خرج هذا الرجل في ثمانين لا أكثر من الرجال، منهم خمسة من الزنوج؛ وكان قلبه يفيض حماسة، فأعلن خطته في جرأة الأبطال واستهتارهم بالموت، ألا وهي حق كل زنجي أن يثور على مالكه، فليس أمام هؤلاء الزنوج غير القوة؛ ولكن جون برون لم يكد يخطو الخطوة الأولى ويستولي على مركز يجعله قاعدة لحركته حتى غلب على أمره فحوكم وأعدم. . . ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس هادئة. ولما حانت منيته استنزل لعنة الله على الظالمين أعداء الحرية. . .

واغتدى جون بجرأته ثم بميتته هذه بطلاً عند دعاة التحرير في الشمال؛ وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته ويجعلونه رمزاً لأحرار الشمائل ومثالاً يجب أن يحتذيه كل من كان له قلب يخفق بحب الحرية. . . ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب فلن تفضي مبادئ الجمهوريين إلا إلى مثله. . .

وأدرك لنكولن خطر التهم، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما رمى المارد الصغير ورطة؛ ولكن صوت الحق لا يضيع في ضجيج الباطل؛ فهذا لنكولن يتلقى دعوة من جماعة في نيويورك فيلبي مسرعاً ويلقي خطاباً من أبدع وأروع ما وانته به عبقريته وفي جمع لم يسبق أن وقف في مثله

احتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر. . . واحتشد كذلك عدد هائل من عامة الناس ليروا لنكولن، هذا الذي كان يشتغل نجاراً أول ما نشأ فاستطاع أن يرقى حتى يقف من دوجلاس الشهير موقف الند من نده وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة. . .

ولقد ارتاع فؤاده عند ما بلغ مكان الاجتماع وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية؛ ولما نهض للخطابة شاهد بعض الناس علامات الحيرة عليه، فقد كان على غير ما ألف مشغول البال بملابسه المتهدلة العتيقة التفصيل والحياكة والتي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف

وتطلع عامة الناس إليه في دهشة، وتقسمت ألحاظهم بين قامته الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة الأطفال وحماسة الأبطال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وشدته في الحق، وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة. . .

وكان صوته في أول الأمر خافتاً، ولكنه أخذ يعلو حتى ملأ الأسماع. وصفه أحد الحاضرين فقال: (أخذ وجهه يضئ بما في باطنه من نيران. . . وجلجل صوته وعظمت قوة خطابته، واتفق له إلى حد كبير مثل سهولة الإنجيل البالغة. . . وكان يسود المكان صمت عميق بينما هو يتكلم حتى لقد كان إذا سكت يسمع هسيس الغاز منبعثاً من ثقوب المصابيح، فإذا تحمس السامعون دوت في جنبات المكان رعود قاصفة من الاستحسان)

ولقد عد خطابه هذا من أبلغ الخطب السياسية قاطبة. قال عنه جريلي - وهو الذي رأيناه قبل ذلك بعامين يدعو إلى أن ينضم دوجلاس إلى الحزب الجمهوري ففقد بذلك مودته -: (ما من رجل استطاع أن يبلغ لأول مرة بخطابه إلى مثل هذا الأثر الذي بلغ إليه لنكولن أمام جمهور المستمعين في نيويورك)

عاد لنكولن فأوضح خطة الحزب الجمهوري بما لا يدع مجالاً من بعد لدسائس خصومه، ثم استنكر ما فعله جون برون ومما ذكره في ذلك قوله: (لا يمكننا أن نعارض في الحكم على جون برون جزاء خيانته ولاية من ولايات الاتحاد، لا يمكننا أن نعارض في ذلك ولو أنه يوافقنا فيما يراه من خطأ نظام العبيد فان ذلك لا يبرر العنف وسفك الدماء والخيانة)

وأقبل عليه الناس كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم يهنئونه بما ظفر به من توفيق في هذا الحفل المشهود، ويعلنون إليه حبهم وولاءهم وإعجابهم بمبادئه. ولقد طار صيته بهذا الخطاب عل نحو لم يرى مثله من قبل، وأخذ الناس يحسون أنه الرجل الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء. ولقد رأى الصحف وهو في طريقه إلى سبرنجفيلد تتحدث عن ترشيحه للرياسة في الانتخاب الذي يحل ميعاده في نهاية هذا العام. . .

(يتبع)

الخفيف