مجلة الرسالة/العدد 260/تأملات في الأدب والحياة

مجلة الرسالة/العدد 260/تأملات في الأدب والحياة

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 06 - 1938



للأستاذ إسماعيل مظهر

أديب طبعة ثانية

عرضت في كلمة سابقة إلى تلك المعركة القائمة على صفحات الرسالة بين الأدباء حول أدب الأستاذ العقاد وأدب الأستاذ الرافعي رحمه الله؛ وسقت نقدي مساق من لا يبرئ نفسه مما تناول ذلك النقد من رأي واتجاه. فلم أخرج ذاتي من مجال النقد الذي سقت، معترفاً بان ذلك رجوع إلى الحق، واطمئنان إلى اتجاه جديد. ولكن هذا كله لم يرض الأديب سيد قطب فراح يتهكم ويسخر لا ليقول شيئاً جديداً ولا ليحاسب نفسه حساب الرجل القادر على كبح عواطفه ليجعل لعقله بعض القدرة على وزن الموقف بميزان لا يميل مع الهوى ولا ينساق مع الانفعال.

غير أن انفعال الأديب سيد قطب فيما كتب لم يكن ليجعل لعقله محلاً من الأثر في صوغ المعاني التي أرادها، فأخذ يرمي الجمل والكلم ذات اليمين وذات الشمال وعن أمام وعن خلف، شأن الثائر لا شأن الناقد؛ ثم خانته ثورته وخذله انفعاله، فاستيقظ عقله الباطن استيقاظة طفيفة، فرجع إلى قوله: (أنا)، كأنما طبيعته لم تقو على احتمال تلك الثورة ولم تستطع مقاومة ذلك الانفعال، فتبدت في ثوب ذي ألوان - ألقى إليه به قزح وأدبر وانصرف - كان أبين لون فيه ذلك اللون الذي تتخيله من قوله:

(وإننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب (أي الأستاذ العقاد) لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)

إذن فالأديب سيد قطب أشد الناس فهماً لأدب الأستاذ العقاد، وليس ذلك فقط فهو أيضاً أشد الناس اقتناعاً بطريقته؛ وليس هذا ولا ذاك فقط، بل هو فوق هذا وفوق ذاك أقدر الناس على النسج على منوال الأستاذ العقاد. وإذن يكون الأديب سيد قطب، أديب طبعة ثانية؛ فهو باعترافه أديب، غير أنه عبارة عن نسخة من أديب آخر؛ أديب شخصية صورة من شخصية أديب آخر، وأدبه لوحة من أدب شخص آخر؛ أديب أسلوبه كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر؛ أديب نفسيته وطبعه وذاتيته كالصورة الموهومة التي تلتقطها المصورة الضوئية وتطبعها على الرق المعروف، ولكنها صورة وه هذه الصورة الوهمية، قد أفرغ عليها الأديب سيد قطب صفات وحلاها بفضائل، لا أنكر أنه نسبها إلى الأستاذ العقاد، كما لا أنكر أنه إنما نسبها إلى الأستاذ العقاد، لتكون نسبتها إليه منصرفة بالتبعية إلى (الطبعة الثانية) من الأستاذ العقاد؛ وتلك الطبعة هي الأديب سيد قطب

أما هذه الصفات وتلك الفضائل، فلا أنكر أنها قد فخمت وحليت، حتى إذا لابست أدب الأستاذ العقاد، لابست بالتبعية (طبعة ثانية) سيد قطب. يقول الأديب سيد قطب في مقاله الأخير:

(يعنى العقاد (والأديب سيد قطب باعتباره طبعة ثانية) إمام المدرسة الحديثة (والأديب سيد قطب باعتباره إمام المدرسة الحديثة طبعة ثانية) بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهنية، ويعنى بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة)

ثم يقول:

(وللعقاد (والأديب سيد قطب باعتباره طبعة ثانية) عناية بتصحيح مقاييس الأحكام على الطبائع والنفوس) ومنشؤه أنه صاحب (نفس) خاصة، وطبع (أصيل)، فهو لا يتلقى المبادئ والأحكام من الخارج، ولكن يفيض بها من الداخل، ويسمع فيها منطق الحياة الخالدة، ووحي الإنسانية الدائمة، لا منطق الفرد العابر، ولا الجيل القاصر) - ومن عندنا - تعبيرات الاختلاجات المستقوية على النفسانيات في كلمن سعفص قرشت هذا الكلام المغلق بسبعة أبواب كما يقولون، وأشباهه في كلام الأديب سيد قطب كثير وكثير جداً وجداً كثير، هو الذي يحاول أن يجلو به أستاذاً كالعقاد في مجال الكلام عن مذهبه، فإذا به يطمس المعاني ويرسل التعميمات التي لا حدود لها

لتكون حدوداً لمذهب أدبي. غير أن لهذا الأمر حقيقة خفية؛ حقيقة تختفي وراء هذه الضربات القاسية المصمة التي يخرج من هذه الطبلة التي يضرب عليها الأديب سيد قطب. أما هذه الحقيقة فهي أن الأديب قطب لا يتكلم عن الأستاذ العقاد، وإنما يحاول أن يتكلم عن نفسه متخذاً من الأستاذ العقاد دريئة يحتمي بها. كيف لا والأديب سيد قطب (من أخلص تلاميذ هذا الكاتب لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)؟ أما أن الأديب سيد قطب (أشد الناس فهماً لطريقة الأستاذ العقاد واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها) فأمر جدلي، ودعوى من السهل أن يدعيها أي إنسان؛ والدعوى شيء وإثباتها شيء آخر. وأما أنه يتكلم عن الأستاذ العقاد ليتكلم عن نفسه؛ وأما أنه لم يمدح الأستاذ العقاد ألا ليمدح نفسه، وليقول صراحة أنه خليفة العقاد في طريقته وإنه، أشد الناس فهماً لها واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها، فدعوى نقولها ونثبتها بكلام ذلك الأديب نفسه.

وحيث أن الأديب سيد قطب أثار النقع متخذاً من خصومة أدبية قديمة بين أديبين ذريعة للكلام في أشياء بعيدة عن مذهبيهما

وحيث أنه نصر الأستاذ العقاد على الأستاذ الرافعي رحمه الله في حماسة متقدة دلت على أنه يحاول من ورائها كسباً أدبياً

وحيث أنه قضى بأن الأستاذ العقاد صاحب مذهب، وأن مناظره لا مذهب له من غير أن يقيم الحجة على ذلك

وحيث أنه أتضح أن السبب في ذلك إنما يرجع إلى غرض خفي هو أن يدعي لنفسه أنه أشد الناس فهماً لطريقة الأستاذ العقاد واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها

وحيث أن المنطق يسلم بأنه لم يقصد من وراء ما كتب كله إلا بلوغ هذه الغاية الشخصية، وهو أن يكون خليفة الأستاذ العقاد، محاولاً أن يستل مجد أديب خدم الأدب ربع قرن ليدعيه لنفسه ببضع مقالات

لهذا كله يكون الأديب سيد قطب (طبعة ثانية) ولكنها طبعة مزورة من الأستاذ العقاد

هذا الاستقراء صحيح تحت مسئوليتي ولا أتكلم في هذا الموضوع مرة ثانية. فإن الحقائق التي نمت عنها كلمات الأديب تجعل كل نقاش في الموضوع فاقد القيمة، ما دام أن (أنا) هي المحور الذي تدور من حوله تلك البحوث

عن فولتير

(1) من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وما هو عملك؟ وما الذي سوف يحل بك؟ عامة ذي أسئلة ينبغي أن يفكر فيها كل مخلوق في هذا الوجود؛ ولكن لم يجب عنها كائن ما. أتساءل عن النباتات بأي سر تنمو، وكيف أن الأرض الواحدة تؤتي بالثمر المتباين المختلف؟ إن هذه الكائنات غير الحساسة - مع إيماني بأنها زودت بسر إلهي - تتركني أمامها شاعراً بالجهل العميق، سابحاً في فروضي العميقة. إني أقف حائراً أمام هذه القطعان الغفيرة من الحيوانات، فكلها ذات قدرة على الحركة والانتقال، وفيها من الاحساسات ما أجد مثله في نفسي، ولها انفعالات تمتد إلى حيث تكون الأفكار والذكريات. ومع هذا فانهم بأنفسهم أجهل مني بنفسي. فلأي شيء وجدوا؟ وإلى أي شيء سوف ينقلبون؟ لقد أظن أن السيارات وتلك الشموس العظيمة التي تملأ رحاب الفضاء يأهل بها مخلوقات مفكرة واعية، ولكن دونها حاجز أبدي يفصلني عنها، فأن واحداً من سكان تلك الكرات العظام، لم يستطع الاتصال بعالمنا

قال رئيس الدير، متجلياً في الطبيعة، للفارس: إن النجوم قد صنعت من أجل الأرض، وإن الأرض والحيوانات صنعت من أجل الإنسان. ولكن هذه الكرة الأرضية الصغيرة إذ تدور مع بقية السيارات من حول الشمس؛ وإن هذه الحركة المنتظمة المنتسقة التي تسيرها الأجرام السماوية إذ ربما تستمر ولو لم يكن ناس؛ وإذ كان في سيارنا الصغير من الحيوانات عدد اعظم من عدد أبناء آدم؛ فقد أتصور أن رئيس الدير قد شمله حب الذات وعمه الغرام بالنفس، فخيل إليه أن كل شيء قد صنع من أجله. وإني لأرى أن الإنسان عرضة لأن يلتهمه أي حيوان إذا لم يتقها بالسلاح، وإن كل الحيوانات تأكله بعد أن يموت. من أجل هذا داخلني الشك في أن رئيس الدير والفارس هما سيدا الطبيعة. وباعتباري كائناً هو يحكم وجوده عبد لكل شيء يحيط به، لا سيداً آمراً مطاعاً؛ كائنا مكبلاً حيث ذهب وكان؛ كائناً تحيط به اللانهايات، أبدأ بحثي عن طبيعة نفسي.

2 - ضعفنا

إني حيوان ضعيف؛ ولدت بلا قوة وبلا معرفة وبلا غريزة. كنت عديم القدرة حتى على الزحف إلى ثدي أمي، على الضد من كل ذوات الأربع. استوعبت قليلاً من الفكرات، وحزت قليلاً من القوة عندما أخذت أعضائي تبرز وتتكون. ومضت القوة تزيد في، حتى إذا بلغت حداً اكتملت فيه، أخذت من ثم في التناقص. وتلك القوة التي مكنتني من إدراك الفكرات أخذت بدورها تزيد وتستفحل حتى بلغت حدها الأقصى، ثم أخذت تتخاذل بعد ذلك، حتى لأشعر بأنها تفني شيئاً فشيئاً ما هي تلك القوة الآلية التي تزيد من قدرة أعضائي في حدود هذا الهيكل الجسمي؟ إني لأجهلها. وأولئك الذين قضوا أعمارهم في الفحص عنها، ليسوا أكثر مني معرفة بها.

وما هي تلك القوة الأخرى التي تحمل الصور إلى ذهني، ثم تخزنها في ذاكرتي؟ أما أولئك الذين أجروا بالمال لكي يعرفوا شيئاً، فقد ذهبت كدودهم أدراج الرياح. ونحن وهم في الجهل سواء بالمبادئ الأولية التي تقوم عليها طفولتنا

3 - كيف أفكر

هل علمتني تلك الكتب التي حبرت في خلال الألفين الفارطين من السنين شيئاً؟ قد تشب في نفوسنا بعض الأحيان رغبة في أن نعرف كيف نفكر، وقلما تقوم في أنفسنا رغبة في أن نعرف كيف نهضم أو كيف نمشي. لقد تساءلت ما هو عقلي؟ والحق أنه سؤال كثيراً ما اربكني

لقد حاولت أن أكشف بقوة عقلي ما إذا كانت المصادر التي تجعلني أهضم وأمشي، هي بنفسها المصادر التي تجعلني أتقبل الفكرات. ولم أستطع أن أدرك كيف وإلى أين تذهب تلك الفكرات عندما يعضني الجوع بنابه السام، وكيف تعود وتتجدد بعد أن أسد نهمة الجوع بالأكل

استبنت فارقاً كبيراً شاسعاً بين الفكر والاغتذاء، بغيره لا أستطيع التفكير، حتى لقد اعتقدت أن في كياني مادة تفكر وأخرى تهضم. ومع هذا وبالرغم من أني رضت نفسي دائماً على الاعتقاد بأن في وجودي شيئين، فإني من الوجهة المادية أشعر شعوراً صادقاً بأنني شيء واحد. على أن هذا التناقض يؤلمني ويؤذيني

سألت بعضهم، وكانوا من أولئك الذين يفلحون الأرض، أمنا العظمى، عما إذا كان كل منهم شيئين، وعما إذا كانوا قد استكشفوا بفلسفتهم الخاصة أن فيهم جوهراً خالداً باقياً، ومع ذلك فهو مؤلف من لا شيء ولا امتداد له، وأنه يؤثر في أعصابهم من غير أن يلمسها، وإن هذا الجوهر قد حل فيهم بعد أن حملت فيهم أمهاتهم بستة أسابيع؟ فظنوا أني أهزل، ومضوا يفلحون الأرض مبتسمين من غير أن يحيروا جواباً

4 - أمن الضروري أن أعرف لما أن وجدت أن عدداً عظيما من الناس ليس لهم أية فكرة في تلك المشكلات التي تساورني، وهم مع ذلك لا تختلجهم الشكوك فيما يتلقى في المدارس أو في الوجود عامة أو في المادة أو في الروح إلى غير ذلك؛ ورأيت أنهم يهزءون من رغبتي التي تدفعني إلى معرفة هذه الأشياء واستيعابها، شرعت الريبة تداخلني في ضرورة معرفتها؛ وتخيلت أن الطبيعة قد أعطت لكل مخلوق نصيباً هو حقه الطبيعي غير زائد ولا منقوص، وإذن تكون تلك الأشياء التي لا نستطيع أن نعرفها، ليست من نصيبنا، ولكن بالرغم من هذا اليأس، فأني لا أقدر على أن أجرد نفسي من الرغبة في أن أتعلم، فان حب الاستطلاع نزعة سوف تظل غير مكفية في نفسي.

5 - أرسطو طاليس وديكارت وغسندي

بدأ أرسطو طاليس كلامه بالقول بأن الشك نبع المعرفة، وتابعه ديكارت فانتقل بهذه النزعة خطوة أخرى حتى لقد علمني كلاهما بألا أعتقد في شيء يقولانه. وديكارت هذا على الأخص بعد أن ادعى أنه يشك، مضى يتكلم بأسلوب تقريري حاسم في أشياء لا يفهمها. يقول أنه موقن بالحقائق، بينما تجده على خطأ كبير في طبعياته. لقد بنى ديكارت عوالم وهمية، فان حلقاته الزوبعية وعناصره الثلاثة، أمور تثير الضحك، حتى لقد أشك فيما قال في النفس، إذا قست علمه بها على علمه بالأجسام

هو يعتقد، أو بالحري يظن أنه يعتقد، أننا نولد مزودين بفكرات غيبية، فهل يحق لي أن أقول بناءً على هذا أن هوميروس قد ولد مزوداً بالإلياذة، وأنها كانت كامنة في تضاعيف ذهنه. مما لاشك فيه أن هوميروس قد ولد وذهنه مهيأ لأن يستوعب فيما بعد فكرات شعرية، بعضها جميل، وبعضها متضارب، وفي بعض الأحيان مصبوغة بالمغالاة، وفي النهاية استطاع أن يؤلف الإلياذة، إننا إنما نولد في هذه الدنيا وفينا البذرة التي تتمخض عما سوف نكون، ولكن الحقيقة أننا نولد وليس فينا من الفكريات الفطرية أكثر مما كان عند روفائيل وميكال انجلو من أقلام وألوان عند مولدهما

يحاول ديكارت أن يوحد بين خيالاته تلك، بأن يفرض بأن الناس يفكرون دائماً. من هنا أستطيع أن أفرض أيضاً أن الطيور تطير على وجه الدوام، وأن الكلاب تجري فلا تقف، لأن في الطيور القدرة على الطير، وفي الكلاب القدرة على الجري.

إننا لا نحتاج، لكي نقتنع، بما يتناقض هذه الأقوال، إلا لفتة إلى تجاريبنا، وأخرى إلى الطبيعة البشرية، فليس في الإنسانية برمتها واحد بلغ منه الجنون مبلغ أن يعتقد أنه مضى يفكر كل حياته ليلا ونهاراً بغير انقطاع، من يوم أن كان جنيناً حتى مرضه الأخير؛ أما الملجأ الذي يلجأ إليه الذين يدافعون عن تلك الأقصوصة، فقولهم إننا نفكر على الولاء، وبغير انقطاع، من غير أن تدرك أننا نفكر، ومن هنا يمكن أن نقول إننا قد نشرب ونأكل ونركب الخيل من غير أن تدرك أننا فعلنا ذلك؛ وإذا كنت عاجزاً عن أن تدرك أنك تحوز فكرات، فكيف تعتقد أو توقن بأن فيك منها شيء؟ لقد سخر غسندي من هذا المذهب المتطرف، جهد ما يستحق أن يسخر منه. ولكن أتعلم ماذا كانت النتيجة؟ كانت أن ديكارت وغسندي قد رميا بأنهما من الملاحدة المنكرين لله.

إسماعيل مظهر