مجلة الرسالة/العدد 260/كلمة ثالثة على الهامش

مجلة الرسالة/العدد 260/كلمة ثالثة على الهامش

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 06 - 1938



للأستاذ علي الطنطاوي

لقد أكرم الأستاذ قطب دمشق وجيرتها. . . وصمت عن تقويم كلمتي (ووضعها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي في مدارج الآداب والآراء، وشاء لي بهذا الصمت أفضل مما شئت لنفسي) فلم يسعني إلا أن أشكر له ما تفضل به علي وعلى دمشق التي لن تنسى له هذا الفضل. . . ولكن متى سألت سيد قطب تقويم كلمتي ومتى طلبت إليه رأيه فيها؟ وهل بقى علي أن أصدر عن رأي سيد قطب فيما أكتب؟ لا يا سيدي، ما هكذا يكون النقد ولا هكذا تكون المناقشة. إني سقت رأياً إن كان خطأ عدت إلى الصواب الذي تكشفه لي فيه، وإن كان صواباً وجب أن تعود أنت إليه فبين خطأه من صوابه، وعد عن هذا الأسلوب أسلوب التعريض والسخرية، واعلم أني إن حططت عليك ساخراً ومعرضاً لم أدعك حتى تلتصق بالأرض، وأنا من أقدر الناس على ذلك، ولكن ذلك شيء يأباه الخلق الكريم، وتأباه (الرسالة) ولقد كانت لي في هذا الميدان جولات، صرعت فيها كثيراً من الكتاب المدعين المستكبرين، ثم أقلعت عنها واستغفرت الله، وأرجو ألا يضطرني أحد إلى مثلها. ثم إن العهد بك تنكر من الأستاذ شاكر هذا الأسلوب فما لك لا تنكر على أحد شيئاًُ إلا عدت فانغمست فيه إلى إذنيك؟

لقد أنكرت علي أن ذكرت المتقدمين من نقدة الأدب، ومازالت تبدأ في السخرية وتعيد، كأن ذكر هؤلاء المتقدمين جريمة في شريعة التجديد. . . وهاأنت ذا في مقالك الأخير (العدد 258) تقر بصحة مذهبهم في اللفظ والمعنى وتثبته بقولك في آخر مقالك: (قد تكون المعاني كذلك) - أي ملقاة على قوارع الطرق - وها أنت ذا تتبعه بفعلك: كانوا يأخذون البيت والبيتين فيتكلمون فيهما، وأنت تفعل فعلهم، تأخذ إذا تكلمت عن الرافعي بيتاً من الشرق وبيتاً من الغرب تتوهم أن فيه ضعفاً فتتخذه معولاً لهدمه، ثم تأخذ للعقاد ما تظن أن فيه قوة وجمالا، فتجعل منه وسيلة إلى مدحه، فكأنك لم تسمع بنقد حديث، ولم تدر به. . . وإلا فأين شروط النقد، وأين التجرد عن الهوى، وأين (الموضوعية) في البحث، وأين الدراسة العامة التي تكشف عن أدب الأديب من كافة نواحيه؟ أليس كلامك عن الرجلين هو المدح لهذا والهجاء لذلك؟ بل إني لأظنك والله لا تريد بالعقاد إلا شراً حين تختار اخترت

إنا والله نجل العقاد، ونعرف له منزلته، ونعده في الأكابر من كتابنا، ولكن قوله:

أيها الجيبون انعم سلاماً ... يا أخا العبقري والبهلوان

هذا الشعر يشين طالباً ذكياً لو نسب إليه فكيف بالعقاد العظيم؟

دع الابتداء بـ (أيهذا) وما في هذا الابتداء من ثقل واستكراه، ودع الجيبون التي لو حلف متزوج بالطلاق على أنها لا تدخل شعراً لما أحسبه يحنث. وانظر في (أنعم سلاما) قالت العرب عم صباحاً، جاء في اللسان: (وأنعم الله صباحك من النعومة، وقولهم عم صباحاً كلمة تحية كأنه محذوف من نعم ينعم (بالكسر) كما تقول: كل من أكل يأكل فحذف منه النون والألف استخفافاً) فالنعومة في قول العرب مسندة إلى الصباح الذي هو زمان فإذا نعم صباح المخاطب كان سعيداً مسروراً فما معنى إسناد النعومة إلى السلام، هل المعنى أنه يطلب من هذا الجيبون أن يسلم سلاماً ناعماً؟ وماذا يعني بذلك؟

وانظر في قوله (يا أخا العبقرية والبهلوان)، ودع كلمة (البهلوان) وما فيها من صحة وجمال! وانظر إلى اقترانها بالعبقري تدرك مبلغ ما فيها من الغرابة والثقل على السمع وما فيها من غموض المعنى، حتى أن القارئ لا يفهمها إلا إذا قرأ كتاب دارون. . . مع أن الشعر يجب أن يفهمه كل من كان ذا شعور مرهف، وكان واقفاً على لغة هذا الشعر، فإذا جاوز الأمر هذين الشرطين صار علماً منظوماً! لا فرق بينه وبين ألفية أبن مالك مطلقاً.

والبنون في قوله (كيف يرضى لك البنون مقاماً مزرياً) من هم هؤلاء البنون؟ إن الإقرار حجة قاصرة، وإنا لنسأل الله السلامة من خذلانه! إن هذه النظرية لم تثبت عند أصحاب العلم ولم تصبح بعد حقيقة علمية، أفكلما ظهرت نظرية في الفلك أو الطبيعة، فنظمها أديب، كان بنظمها شاعراً كبيراً؟ فلم لا ينظم الدكتور ناجي إذن في الطب، والمهندس في الهندسة، وأبو شادي في البكترلوجيا، وعوض في الجغرافيا؟ وأي فرق بالله بين نظرية دارون ونظريات غيره من العلماء؟

وتأمل قوله:

(يا عميد الفنون صبراً ومهلا) واترك مهلا التي لم تجئ إلا للقافية. وفكر في هذه الفنون التي صار عميدها قرداً في حديقة الحيوانات ثم انتقل إلى قوله: مرحباً مرحباًُ وأهلا وسهلا ... والهدايا ما بين لب وفول

ألا تذكر بشاراً وربابة ربة البيت. . . أفيعقل أن يتصدر سيد قطب للنقد والكلام في مثل الرافعي أبلغ من كتب في العربية ثم يختار مثل هذا الشعر إلا أن يكون عدواً للعقاد يريد أن يذمه بما يشبه في ظاهره المدح؟ أو أن نكون قد فقدنا عقولنا فلم نعد نميز بين الحسن والقبيح، ولم نعد نعرف أقدار الكلام. . .

وبعد فأني أسأل الأستاذ البليغ صاحب الرسالة هذا السؤال الذي يتردد على فم كل قارئ للرسالة في دمشق؛ وأرجو أن يتفضل بالجواب: لماذا تنشر الرسالة هذه المقالات للأستاذ قطب؟ أللحقيقة، والحقيقة لا ظل لها في هذه المقالات؟ أم من أجل الأستاذ العقاد وفيها من الإيذاء للعقاد مثل ما فيها من المس بالرافعي؟ أم بغضاً بالرافعي والأستاذ صاحب الرسالة صديقه حميم، وهو شريكه في التلبس بجريمة البلاغة والحرص على البيان المشرق الذي يسوء هؤلاء المجددين؟ أم لماذا؟

أننا لم نفد من هذه المقالات إلا فائدة واحدة، هي أننا عرفنا أن الجديد إن كان كما يصوره سيد قطب فهو أهون شيء وأبعده عن الحق، وإنا راضون بقديمنا، مطمئنون إلى (رجعيتنا. . .) عرفنا هذا، أفلا يعفينا الأستاذ قطب من هذه المقالات؟ ألا يتفضل فيعلم أن قراء الرسالة قد غدوا بفضل الرافعي والزيات وسائر من كتب فيها من البلغاء لا يعدلون ببلاغة القول وصفاء الديباجة شيئاً وأن كل سعي لتكفيرهم بالبلاغة (والتبشير) فيهم بهذا الجديد سعي ضائع!

فهل الغاية إذن ملء صفحات الرسالة بمقالات الأستاذ سيد قطب؟

دمشق

علي الطنطاوي

(الرسالة) والرسالة تجيب صديقها الأستاذ الطنطاوي بان من

مبادئها أن تكون صورة صادقة لأدب العصر فلا تسجل مذهباً

دون مذهب، ولا تتوخى أسلوباً دون أسلوب. ومعارك النقد ظاهرة مألوفة في عصور الأدب عفت الرسالة عنها حيناً، ثم

رأت من أخير أن تسجل هذه المعركة؛ لأن أدب الرافعي

وأدب العقاد يمثلان وجهتي الثقافة في أقطار العروبة؛ فالقول

فيهما - إذا حسن - يعين المتأدب على الوجهة التي يوليها،

وينعش الأدب من الخمود الذي هو فيه. ومن حسن القول أن

يتكلم الناظر في الأدب بلسان الأدب، وأن يعتقد أن أدب

الرجل شيء آخر غير شخصه، فلا ينبغي أن يدخل الناقد في

حسابه الحياة والموت، ولا الصداقة والعداوة

أما رأي الرسالة في الكاتبين العظيمين فقد سجلت في افتتاحياتها. فهي لا تحمل من تبعات ما تنشر غير ذلك الذي رأت