مجلة الرسالة/العدد 260/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة/العدد 260/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة - العدد 260 المؤلف زكي مبارك
ليلى المريضة في العراق
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 06 - 1938


للدكتور زكي مبارك

- 22 -

ليت ليلى تعرف بعض ما ألاقي في ليالي الصد من أهوال!

ليت ليلى تعرف كيف ندمت على التعرف إلى وجهها الجميل!

ليت ليلى تعرف كيف هدت عزمي وقوضت بنياني!

ليتها تعرف أن هواها أورث جسمي وقلبي أسقاماً وعقابيل ستكدر ما بقي من حياتي!

وليتني أعتبر بما صرت إليه فأتقي الله في نفسي وأتصون عن الهوى والفتون!

ما أشد حزني على ما ضيعت من شبابي في التغزل بالعيون السود!

ما أشد ندمي على الغفلة التي خضت أوحالها يوم وثقت بعهود الملاح. . .!

سيطول بكائي على العافية التي بددتها تبديد المسرفين على أنفسهم وأنا أتنقل من أرض إلى أرض في سبيل الجمال

سأكتوي بنار الحقد على الدنيا وعلى الناس كلما تفكرت فيما ردني الحب إليه من ظلمات.

لم يبقى لي رجاء في غير الله.

ومن سوء البخت ألا أعرف الأيمان إلا في أيام الضر والبؤس!

إليك أرجع يا ربي، أرجع مقهورا ًمدحوراً بعد طول الهيام بأودية الضلال

إليك أرجع، ولا فضل لي في هذا الرجوع، فقد انهد كياني، وانشقت مرارتي، وصار من الموجع أن أحمل إلى فمي كوباً من الماء

إليك أرجع، فامنحني من العافية ما أنقل به صور ذنوبي إلى ألواح خيالي، عساني أعرف كيف أستغفر وأنيب

لم أجد في النجف شفيعاً إلى ليلاى، فقلت أذهب إلى الموصل وتلك نهاية المطاف في البحث عن الشفعاء

وعقدت العزم على السفر بالقطار الذي يقوم من بغداد في الساعة التاسعة مساء

ولكن صديقاً موصليا طرق بابي في الساعة السادسة وعرف نيتي في الذهاب إلى الموصل، فنهاني، ولما استوضحت السبب قال: إن أهل الموصل يحقدون عليك؛ فانزعجت وقلت: كيف؟ فأجاب:

أنت أطلت التشبيب بالعيون السود فغنمت عطف أهل البصرة وأهل بغداد، وخسرت مودة أهل الموصل، لأن عيونهم شهل لا سود. . .

فقلت: أتغزل بالعيون الشهل وأتناسى العيون السود

فقال: كان ذلك قبل اليوم

وتركني وانصرف

وكذلك قضيت نحو ثلاث ساعات في كرب وبلاء

أشهد أن ذلك الصديق طيب القلب، فما تعمد يوم إيذائي، ولكنه سيئ التصرف، فهو يزورني من حين إلى حين ليكدر صفائي، وهو يجد لذة في تنغيص من يعرف، ويشعر بارتياح حين يستطيع إلقاء صديقه في أتون العذاب

وقد وصل في إيذائي إلى ما يريد وخرج وهو جذلان

وفي غمرة هذا الحزن المظلم دخل موصلي آخر، موصلي كريم كاد أهله ينسونني أهلي، موصلي صيغ قلبه من العطف والحنان، فشاع الأنس في روحي حين اغتبقت بروحه الرفيق

وما هي إلا لحظات حتى كنت في القطار وهو يحملني التحية إلى أقربائه بالموصل الجميل

وفي القطار رأيت رجلا بيده مجلة تسمى (الأندلس الجديدة) وهي فيما أتذكر تصدر في البرازيل، وفيها رأيت مقالة في تجريح صديقي العزيز الدكتور زكي مبارك، فابتسمت وقلت: جرحوه كيف شئتم فستطيب الدنيا يوم يصل إلى فؤاده ليلاه!

وكان رأسي قد أثقله النعاس فلم أعرف شيئاً من معالم الطريق

وصلت إلى كركوك بعد عشر ساعات في القطار، وكركوك هي (شهرزور) في كلام القدماء، وفيها تشهد العين لأول نظرة مشاعيل اللهب، لهب النفط، فيدرك العقل أن هذا اللهب هو الذي يجذب الفراش، الفراش البغيض الذي يفد من وراء البحار ليسيطر على ذخائر تلك الأرض، وبعض البلاد تؤذي أهلها بفضل ما فيها من ذخائر وكنوز، والجمال يجني على أهله في أكثر الأحيان

ومضيت فسألت عن رئيس البلدية وهو الشيخ حبيب الطالباني فعرفني بأقربائه ودعاني للتنزه في حديقته الغناء، وهناك جرى الحديث عن اللغة العربية فعرفت أن أهل كركوك بعضهم من الأكراد وبعضهم من التركمان وأنهم يتكلمون الكردية والتركية بأسهل مما يتكلمون العربية

وبعد لحظات رجع أبناؤه من المدرسة فدعاهم للتسليم علي، فوقفوا صفاً في أدب واستحياء، فسألتهم أن ينشدوا شيئاً مما يحفظون فأسمعوني نشيداً عربياً بديعاً دلني على أن أطفال تلك الناحية سيكونون بأذن الله من سواعد العروبة بعد حين

وكذلك عرفت أن الحكومة العراقية تستطيع بسهولة أن تؤلف بين عناصر العراق، وأن تجعل منه شعباً موحد اللغة والتقاليد في زمن قليل. ويؤيد ذلك أن العروبة هي في الواقع فكرة لا جنس، والكردي يتحول بعواطفه إلى العروبة بلا عناء

ومنظر كركوك جميل ولكن أهلها يشكون قلة المياه، وفيها اليوم نحو أربعين ألفاً من السكان، ودورها تبلغ ثمانية آلاف، وبها حديقة للشعب، ومكتبة، ولها ضواح صالحة لأن تكون من مرابع الابتهاج لو وجدت من يصلها بأصول التمدن الحديث.

وفي شهر زور - وهي كركوك - يقول أحد الشعراء:

وعدتِ بأن تزوري بعد شهر ... فزُوري قد تقضَّى الشهر زُورى

وموعد بيننا نهر المعَّلى ... إلى البلد المسمى شهر زُور

فأشهُر صدك المحتوم حقٌ ... ولكن شهر وصلك شهر زُور

خطرت ببالي هذه الأبيات وأنا أطوف بكركوك فحزنت، فذلك شاعر كان يشك في صدق ليلاه، كما أشك في صدق ليلاي. ورأيت أن أبحث عن قريبات ليلى هناك، ثم خشيت أن يصعب التفاهم باللغة العربية فمضيت إلى أربيل بلد المبارك بن حمد بن المبارك الذي يقول:

تذكَّرنيك الريح مرَّت عليلةً ... على الروض مطلولاً وقد وضح الفجرُ

وما بعدت دارٌ ولا شط منزلٌ ... إذا نحن أدنتنا الأمانيُّ والذِّكرُ

وصلت أربيل في وقت القيظ فلم أجد من النشاط ما أصعد به لرؤية القلعة التي تحدثت عنها كتب التواريخ، وإنما اكتفيت بزيارة المسجد وشهود بعض الأسواق. وراعني أن تقوم أكثر المنازل على ربوة عالية تستدرج شياطين الشعر والخيال وفكرت في تلقف بعض المعلومات عن أربيل فلم أجد من يسعفني بما أريد، حتى الشرطي حارس الميدان لم يعرف شيئاً عن عدد السكان في أربيل ولم يستطع أن يرشدني إلى بعض المدارس، وهذا لا يمنع أن يكون في أربيل أدباء نرى آثار أقلامهم في بعض المجلات المصرية من حين إلى حين

ثم اتجهت نحو الموصل فراعني أن أرى حقول الحنطة على جانبي الطريق، وهي تشهد بما في تلك البقاع من خيرات، وراعني أن أرى السيارة تنتقل من نجاد إلى وهاد، ومن وهاد إلى نجاد كأننا في جبل لبنان

الله أكبر ولله الحمد!

هذا مسجد النبي يونس، وهو فوق هضبة عالية، وكأنه نوتردام دي لاجارد التي تروع من يدخل إلى مرسيليا أول مرة.

وعند الجسر يستوقفني الشرطي ليسأل عن أسمي فأقول: زكي مبارك. فيسأل: الدكتور؟ فأقول: نعم! فيبتسم ويقول: عرفت أخبارك، ولكن حدثني عند من تنزل؟ فأقول: عند آل ليلى! فيقول: وهذا وجه الإشكال!

وسأعرف بعد أيام لماذا يهتم الشرطة بمعرفة أسماء من يدخلون كركوك وأربيل والموصل

ألقيت أمتعتي في الفندق وخرجت أدبر الوسائل للبحث عن قريبات ليلى. واتفق أن جلست لأشرب كوباً من الشاي في إحدى القهوات ففاجأني الأستاذ محمد بهجة الأثري وهو يقول: أتراك تفلت من يدي يا دكتور؟ من جاء بك إلى الموصل؟ أذو نسب أم أنت بالحي عارف؟ ونقلني إلى المدرسة الثانوية للتسليم على الأستاذ بهجة النقيب، وهنالك طالعتنا مجلة الرسالة فقرأنا فقرأت من حديث ليلى المريضة في العراق، وحددنا موعداً للتلاقي بنادي الجزيرة في المساء

ولم تمضي ساعات حتى تسامع أهل الموصل بقدومي على غير ميعاد، فأقبلوا متفضلين للتسليم على الرجل الذي أحب العراق وأحبه العراق

تحدث أحدهم فقال: هل رأيت المنارة الحدباء؟

فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد خمسين درجة دار رأسه فنزل فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!

وانتقلت إلى مجلس آخر فابتدرني أحد الأدباء بهذا السؤال: هل رأيت المنارة الحدباء؟ فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد أربعين درجة دار رأسه فنزل

فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!

وفي مجلس ثالث تحث رجل فقال: هل رأيت المنارة الحدباء؟ فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد ثلاثين درجة دار رأسه فنزل

فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!

ثم صممت على صعود هذه المنارة ولو كان في ذلك حتفي، لأنقذ سمعة الجامعة المصرية، على حجراتها وغرفاتها ومدرجاتها أزكى التحيات!

سميت هذه المنارة حدباء لغلطة هندسية أورثتها الاحديداب ومن أجلها سميت مدينة الموصل (الحدباء) على طريق المجاز المرسل، وباسم الحدباء سمي نوع من الخمر يستقطره الموصلين، وكذلك انتقل الاسم من المنارة إلى المدينة إلى الشراب!

والمنارة الحدباء هي أعظم منارة في أقطار العراق، ودرجاتها فيما سمعت مائة وثلاث وتسعون درجة، وهي منارة الجامع الكبير.

ابتدأت فزرت الجامع، وهو قديم يرجع تاريخه فيما قيل إلى ثمانمائة سنة، ولمحرابه قبة عالية، وإقامة القباب فوق المحاريب طراز معروف في العراق

وبذلك الجامع مقصورة خاصة بالنساء، ولا تقام فيه الصلوات لهذا العهد إلا في الجمع والأعياد

وفي أثناء الطواف سمعت هديلاً يسجع بحنين فاجع يذيب لفائف القلوب، وسجع الحمام مألوف في العراق وقد تحدث عنه مئات الشعراء، ولكنه في هذه المرة كان حماماً موصلياً يعيش في البلد الذي نسب إليه أبو إسحاق

وقد نظرت فرأيت الهديل يسجع وبجانبه ليلاه، فما الذي كان يصنع لو غابت عنه ليلاه! ليتني في مثل حالك، أيها الهديل البكاء!

ثم توكلت على الله وصعدت المنارة بصحبة جماعة من الرفاق يحملون المصابيح، وآذاني أن أجد درجات المنارة مهتمة، وأن أعرف أن الصعود فوق الدرجات أمر صعب، ولو أنني حاولت ذلك وأنا في سن أصغر أبنائي لكان الخطب سهلاً، ولكنني اليوم عالم علامة، والعلماء العلامون يصعب عليهم السير في الطريق فكيف يصعدون المنارة الحدباء؟!

وبعد أن صعدت نحو سبعين درجة شعرت بالتعب، فقلت: أنزل!

وهل يعيبني أن أعجز عن صعود منارة عجز عن صعودها الدكتور عزام؟

وشجعني على النزول أن الدكتور عزام صديق عزيز والتعالي عليه ينافي الذوق، وهو بالتأكيد سينشرح صدره حين يعرف أنني عجزت عن صعود المنارة والضعفاء يعطف بعضهم على بعض!

وبعد أن نزلت درجتين مر بالبال خاطر مزعج: وهو أن ليلى قد تسمع بهذه القصة فتعرف أن طبيبها أصبح من الأشياخ

وكذلك انطلقت لصعود المنارة بعزائم الشياطين.

وقفت فوق المنارة ونظرت إلى الأرض فعرفت خطر ما أُصيبت به من احديداب فالذي ينظر إلى الأرض من فوق تلك المنارة يتوهم أنها ستسقط به، ولكن هذا الوهم لا يجوز على رجل مثلي!

ذلك كان من أمر الصعود، ولكن كيف النزول؟

إن النزول بدا لي أمراً خطيراً جدا ومن كان في ريب من ذلك فليجرب، وقد خشيت أن تزل قدمي فأسقط، لأن درج تلك المنارة أصبح خيالا في خيال

واقترح السيد محسن جومرد أن أضع يدي على كتفه فرفضت لأن الاعتماد على الغير عند الشدائد هو بداية الانخذال.

نزلت من المغارة بلا مساعد ولا معين، فصح أن عافيتي لا تزال باقية، وتطلعت إلى الهيام بأرجاء الموصل لأرى ما فيها من بقايا السحر والفتون، ولأبحث عن الشفيعات إلى ليلاي.

وبدأت فزرت قبر أبي تمام، وكنت كتبت كلمة عن إصلاح قبره في جريدة الأفكار منذ ثمانية عشر عاماً، وكان من رأي أن تأليف كتاب جيد عن شاعرية أبي تمام أفضل من العناية بإصلاح قبره، فمتى أشرع في تأليف هذا الكتاب؟

كنت مبلبل الخواطر فلم أقرأ الفاتحة على قبر أبي تمام، وإنما قرأت على قبر أبي تمام قول أبي تمام:

أحبَابَهُ لِمَ تفعلون بقلبهِ ... ما ليس يفعله به أعداؤهُ

وهاج حقدي على ليلاي فوقفت شارد اللب لا أعرف ما أصنع ثم تلفت فرأيت جنيات الشط، شط دجلة، فسألت رفيقي:

ما بال هؤلاء الملاح يلقين الشط بلا احتشام؟

فأجاب:

(للحديث شجون)

زكي مبارك