مجلة الرسالة/العدد 260/من وحي الصحراء

مجلة الرسالة/العدد 260/من وحي الصحراء

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 06 - 1938



للأديب أحمد فتحي

ظَمِئْتُ، عَلَى قُرْبيِ، مِنَ النَّهْل وَالعَلِّ ... فَهَلْ عَافَ عَذْبَ الْوِرْدِ ظَمآنُ مِن قَبْليِ؟!

وَضِقْتُ بلَيْلى، ساهداً، وَلَوَ اُنَّنيِ ... تَعَزَّيْتُ لم أَشْكُ التَّشَهُّد في ليلى!

وغشَّتْ حَياتي وَحْشَةٌ ليسَ يَنْتَهِي ... مَداها، وَدُوني سائرُ الصَّحْبِ وَالأَهْلِ

وأَقْبَلْتُ، أَشْكُو للصَّحَارَى لواعِجِي ... وآنَسُ بالإخْلادِ في كَنَفِ السَّهْلِ

وقلتُ أَجئُ البيدَ ملَء سكونها ... وأسْمَعُ هَمْسَ الريح في أُذن الرمْل

تُقَبِّلُهاَ طَوْراً، وطوراً تُرِيدها ... تُنَقِّلُ كالحسناءِ رِجْلاً إلى رجل

وأُبْصِرُ بالشمس التي مَلَّتِ النَّوَى ... إلى الغَرْبِ تمشي مِشْيَةَ الواهِنِ الكَهْلِ

أراها، حريقاً أَضْرَمَ اللهُ نارهُ ... لتأكلَ آجالَ السنينَ عَلَى مهل!

أُحِسُّ لظاها في ضلُوعي وتَنثَنيِ ... ويبقى الَّلظى يُغْرِي مَآقيَّ بِالْهَمْل

نَجِيَّةَ رُوحِي لا عَدِمْتِ عواذلا! ... فماذا يكونُ الحبُّ، إن يَخْلُ من عَذْلِ؟

وهل كان يُغْرِي الشاربين بِرَاحِهِمْ ... سِوَي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الرَّاح في حِلِّ؟!

وما أنا والعُذَّالُ، يمضي حديثُهُمْ ... وَيبقَي حديث الحبِّ في قولِهِ الفصل؟!

أَصِيخِي إليَّ السَّمْعَ، لا تَتَعَجَّليِ ... بناتِ خيالي بل دعيها على رِسْلِ!

ولا تحسبي نجوايَ من عَبَثِ الهوَى ... وَلَغْوٍ حديثِ الشِّعْرِ، في الجدِّ والهزْلِ

فَرَرْتُ من الدنيا ومِنْكِ تَشَوُّقاً ... إليكِ ولِلدنيا فيا للهوى النُّبلِ

أُطهِّرُ نفسي بالبِعاَدِ، لَعَلَّهُ ... يُعَلِّمُني صَبْري على الهَجْرِ وَالدّلِّ

وما الحبُّ إلاًّ لهفةٌ، وَتَصَبُّرٌ ... وَطُغْياَنُ تَبْرِيح على عاشق مِثْلِي

سَمَوْتُ بأفكاري إليكِ ولم أزَلْ ... نَجِيَّكِِ في أحلام يقظانَ بالوَصْلِ

وأَسْرَى خَيالي طائفاً بكِ باسماً ... كما تَبْسِمُ الأزهار في الفجر للطَّلِّ

وظلَّ يُنادِي لطْفَ حُلْمِكِ في الكرى ... إلى سابقاتِ العَهْدِ، بالوصل والشَّمْلِ

فهل لَقَيِ البَرَّ السَّمِيعَ نِدَاؤُهُ ... تُرَى، أم يعودُ الطيفُ بالمنْعِ والخَذْلِ؟!

نَجِيَّةَ رُوحي قد رَمَتْ بي يد النَّوَى ... بخيلا من البَيْدَاء يجزل في البخل

تَلَفَّتُّ حَوْلِي، لم أَجِدْ لِيَ مُؤْنساً ... وقد كان كلُّ الأثس لو شِئْتُ مِنْ حَوْ وأَصْغَيْتُ للصحراء يَنْشُدُ مِسْمعي ... حديثاً، ومَنْ لي بالحديث بِهاَ، مَنْ لي؟!

هُناَ الصَّمْتُ حَرَّانُ الجوانِحِ مثْلَما ... يُصَعِّدُ صَبٌّ زَفْرة الشوق لِلْوَصل

هنا مَلْعَبُ الذِّكرى وميدانُها الذي ... تَشَعَّبَ بالعُشَّاقِ، سُبْلاً إلَى سُبْلِ

ومَسْرَح أفكار تساءل عن هَوًى ... بعيدِ المرامي لا قريب ولا سَهْلِ

وَمهْبِطُ إيحاءٍ ومَذْرَفُ أَدْمُع ... تحيَّرْنَ بين الكْبِرِ في العَيْنِ والذلِّ

وَمَعْبَدُ حُسْن قَدْ تحكَّمَ في الورى ... قضاءً جَرَي بالظلم حيناً وبالعدل

وَرَوْضٌ مِنَ الأوهام لاذَتْ بِظِلِّهِ ... قوافِلُ في الرَّمْضاءِ، تُحْدَى إلى الظِّلِّ

ودُنيا من الحِرْمَان ضجَّ ضَجِيجُها ... تَصَايَحُ بالزَّمرِ الطَّرُوبِ وَبالطَّبْلِ!!

نَجَيَّةَ رُوحي يا مُناها وسُؤْلهاَ ... هنيئاً لرُوحي بالأَماني والسُّؤْلِ

تَرَيْنَ شبابي ملء عَيْنَيْكِ ناضراً ... يُغنِّي كما تشدو الطيور على النَّهل

أَعِنْدَكِ أنَّ القلب طفل وإنَّنيِ ... أَخَافُ تَباَريح الغرام على طِفْلي؟

تَبَدَّى له النيرانُ ورداً وإنَّهُ ... من الخوف والنيران بالوَردِ في شُغْل

فلا تَفْجَعِيِه في الأماني وحُسْنِهاَ ... ولا تُركِبيهِ مَركَبَ الشَّطَطِ الهَوْل

خُذِيه حَناناً في يديك ورحمةً ... ولا تُغْلظِيِ يوماً لطفلكِ في قَوْل

وغَنِّي لَهُ الألحان فَرْحَى رقيقَةً ... فَعَلِّي أن أحْظَى بأصَدائِهاَ عَلِّي

وَرَاعيه كالأُمِّ الرَّؤُوم تَلَطفاً ... فَوَيْلىِ إذا ما اليُتْمُ رَوَّعَهُ وَيليِ

ولا تُشْبِهِي الصحراء في جَدْبِ قَلْبِهاَ ... إذا جَاَءها الظَّمآنُ للنَّهْلِ والعَلِّ!!

(القاهرة)

أحمد فتحي

مدرس بالتعليم الفني والصناعي