مجلة الرسالة/العدد 260/يبن الغرب والشرق

مجلة الرسالة/العدد 260/يبن الغرب والشرق

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 06 - 1938



للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

تتمة

كان ذلك منذ أشهر وكنت أحاضر جمهوراً من الأدباء بكلية الليسيه بالإسكندرية، وكان موضوع المحاضرة (الحياة الإنسانية بين قضاء وقدر الشرق ومذاهب الغرب في حرية الإرادة). وقد جاء في محاضرتي كلام جيد عن الفروق بين أهل الشرق وبين أهل الغرب، لهذا رجعت وأنا أجول جولتي في كلام مناظري الفاضل إليها آخذ منها لردي على المناظر ما أراه ذا صلة وثيقة بالمسألة التي أثارها في العلم والثقافة.

قلت في محاضرتي ما نصه:

(هنالك فرق أساسي في منطق التفكير بين الشرقي والغربي، وهذا الفرق ينحصر في أن الشرقي يبدأ بحثه من الوحدة المتجلية حوله فينتهي للخالق ومنه للطبيعة. بعكس الغربي الذي يبدأ بحثه من التغاير الذي يكتنفه فينتهي للطبيعة ومنها للخالق)

هذا الفرق المشهود في أن الشرقي يبدأ من عالم الغيب لينتهي للعالم المنظور، بعكس الغربي الذي يبدأ من عالم المنظور لينتهي لعالم الغيب - كان سبباً لظهور اللاهوت عند الشرقيين والفلسفة عند الغربيين.

وهذا التباين في منزع التفكير ذهب بالعقل الشرقي إلى الاعتقاد بأن العالم حادث كما انتهى إلى أنه قديم عند الغربيين، ذلك أن الشرقي بدأ بحثه من الخالق فانتهى كما انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وأن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكل ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وما سيكون، بينما البحث عن التغاير المشهود في الكون يدفع بالأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر، وهذا كله ينتهي بالإنسان كما انتهى بمفكري الغرب إلى أن لكل حادثة سبباً في الكون، وأن للعالم وحدته وانسجامه، وأنه خاضع لنواميس وسنن ثابتة لا تتغير لا في الزمان ولا في المكان، فإذا انتهى إلى الله قيده بهذه السنن والنواميس، وتصبح بذلك إرادة الله مقيدة بنظام هذا الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار.

والإنسان من حيث هو كائن في العلم المنظور، فهو في نظر الشرقي خاضع لإرادة عليا، هي إرادة الخلق الحرة، هو الذي يقضي فيكون ويقدر فيحدث. وهذه فكرة القضاء والقدر عند الشرقيين، فإذا قضى الله أمراً فلا مرد لقضائه، وإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون. غير أن الإرادة الإلهية لا تتعلق بالأمر الذي قضي بوقوعه إلا إذا تعلقت به إرادة الإنسان المخلوق الذي وهبه الخالق حرية الإرادة، في أن تتعلق بالأشياء فكأن للإنسان اختياراً، غير أنه عند النظر مقيد بالعلم الإلهي الأزلي وبتعلق الإرادة الإلهية لترجح.

أما في نظر الغربي فالإنسان وإن كان يتبع في تصرفاته وسلوكه نواميس الحياة ويخضع لها، فإن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجوده والعمل على إيجاد الملاءمة بين حاجات الإنسان في الحياة ومطالبه في الوجود، وبين المقدر له عن طريق تغييره يتكافأ وصالحه.

وخلاصة القول أن قي الشرق استسلاماً محضا للغيب، والغرب نضالا محضا مع قوى الغيب، وبين منطق الغرب وروح الشرق تسير البشرية في قافلة الحياة.

هذا الكلام الذي لخصت فيه في ختام محاضرتي كل ما قلته في ذلك المساء، أجده بليغاً في الرد على مزاعم مناظري الفاضل.

وخشية أن يقف بعض الناس عند ظاهر هذا القول فلا ينزلون إلى أغواره القصية، أحب أن ألفت أنظارهم إلى أشياء.

1 - إن ما نعنيه باصطلاح الشرق والغرب لا يقوم على أساس من تقسيم العالم إلى شرق وغرب في تقويم البلدان، وإنما ترجع التفرقة عندنا إلى ما نلمسه من طابع ذهني للغرب ومنزع ثقافي للشرق، على اعتبار أن هذا الطابع عام للغرب وذلك المنزع عام للشرق. غير أن هذا لا يمنع أن نجد مجتمعاً غربياً ينزع منزع الذهن الشرقي في قلب أوروبا في زمن من أزمنة التاريخ نتيجة لغلبة الطابع الشرقي لأسباب خارجة وطارئة على المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية، فمثلاً يمكننا أن نقول إن طابع التفكير في القرون الوسطى في أوروبا كان شرقياً في العموم لغلبة المنزع الشرقي على الطابع الغربي نتيجة لبلوغ المنزع الشرقي شغاف أوربا وغزوها الغرب مع الدين المسيحي.

2 - إن هذا المنزع الثقافي والطابع الذهني لكل من الشرق والغرب إذا اعتبرناه. من الخصائص الأولية لشعوب الشرق والغرب، فذلك لا يرجع لعوامل بيولوجية أو انتروبولوجية كما حاول أن يثبتها بعض مفكري القرن التاسع عشر، إنما هي ترجع لأسباب طارئة على المحيط الطبيعي والبيئة الاجتماعية فلهذا لا يرد علينا بما كتبه المناظر في الرد على غوبنيو.

3 - إن الفلسفة الإسلامية التي ظهرت على يد الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من أعلام الفلسفة الإسلامية ليست شرقية الروح لأنها وليدة الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني. ويمكنك بكل سهولة أن تنزل بخطوط فلسفة فلاسفة الإسلام لأصولها عن أفلاطون وأرسطو وفلاسفة الإسكندرية من الأفلوطنيين، فمن هنا لا يعترض علينا بأن هنالك من الفلاسفة الشرقيين من علقوا إرادة الخالق بسنن الوجود وقوانين الكون. كذلك لا يعترض علينا بالجانب العلمي من الثقافة السلامية لأنها نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني.

هذه أوليات ألفت إليها الأنظار حتى أكفي نفسي مقدماً الرد على ما سيثار حولها من رد وجدال.

قد يكون من الأهمية في مكان أن أستطرد قليلاً هنا وأنقل بعض فقرات من الأستاذ الحكيم استشهد بها على صحة ما أرى من الفرق بين منزع الفكر الغربي وطابع الذهن الشرقي.

يقول الأستاذ توفيق الحكيم:

(إن الشرق قد حل معضلة وجود أغنياء وفقراء وسعداء وتعساء على هذه الأرض في يوم ما، هذا لا ريب فيه. إن أنبياء الشرق قد فهموا أن المساواة لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض وأنه ليس في مقدورهم تقسيم مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء فأدخلوا في القسمة مملكة السماء، وجعلوا أساس التوزيع بين الناس الأرض والسماء معاً، فمن حرم الحظ في جنة الدنيا فحقه محفوظ في جنة السماء. هذا جميل. ولو استمرت هذه المبادئ وبقيت هذه العقائد حتى اليوم لما إلى العالم كله في هذه الأتون المضطرم).

إن مذاهب الغرب حينما نزلت الميدان تحاول إصلاح الحياة ألقت قنبلة المادية والبغضاء واللهفة والعجلة بين الناس. لقد أفهمت الناس أنه ليس هنالك غير الأرض، يوم أخرجت السماء من الحساب، ذلك أن علم الاقتصاد الحديث لا يعرف السماء. أما أنبياء الشرق فقد القوا زهرة الصبر والأمل في النفوس يوم قالوا للناس لا تتهالكوا على الأرض، ليست الأرض كل شيء. إن هنالك شيئاً آخر غير الأرض يدخل في التوزيع) وليس من شأني هنا أن أرد على الأستاذ الحكيم آراءه وأقول له بأننا ما دمنا في الحياة فيجب أن نعمل من أجلها ومن أجلها وحدها. . . اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وإننا إذا لم نحل مشاكلنا على هذه الأرض فلن نحلها في وقت من الأوقات ولن تحل!

ليس هذا ما يعنيني؛ أما الذي يعنيني من هذا الكلام أن أستوضح الفرق وأستبينه بين منطق الغرب ألا ثباتي وروح الشرق الغيبي بملاحظة أن المنطق العربي ينظر للحياة الإنسانية كما هي، وعن طريق العقل وحده يحاول معرفة حقيقته وتنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري. بعكس الذهن الشرقي الذي يدخل عنصراً غيبياً في الحياة الإنسانية، وعن طريق هذا العنصر الغيبي يحاول تفسير الحياة وتنظيم الصلات الإنسانية وإقامة العلاقات بين أفراد الهيئة الإنسانية.

ولنا أن نخلص من هذا كله بأن الثقافة الغربية إنسانية وإنها انتمت إلى المرحلة الأخيرة من مراحل التفكير الإنساني الذي كشف عنه أوغست كونت، بعكس الثقافة الشرقية التي وقفت عند حدود المرحلة الثانية حيث يمتزج فيها العالم المنظور بعالم ما وراء المنظور.

وإذن من الخطأ التفريق بين مفهوم الثقافة ومفهوم العلم الوضعي باعتبار أن الثاني عام والأولى خاصة كما يريد أن يثبت مناظري الفاضل، والصحيح أن يقال إن العلم الوضعي رغم أنه عام يقوم بمنهجه الثقافي، وإن العلم يتلون (بروح الأمة) وهذا ما نلمسه نحن المشتغلين بمسائل العلم من قيام مدارس علمية في أمم متباينة الروح فتخرج متباينة المذاهب والطرائق والاتجاهات؛ ولا أدل على ذلك مما نراه من مدارس في العلم، كل تحمل اسم أمة بعينها. مثال ذلك المدرسة الألمانية والمدرسة الفرنسية في الرياضيات والطبيعيات وبقية فروع العلم مما يعرفه كل من درس العلم في أوربا في جامعاتها الكبرى.

إذا صح ما ذكرته كله ولا أخاله إلا صحيحاً - فمن العجيب أن يناقشنا الأستاذ فليكس فارس الرأي فيما قلناه من كون الثقافة الشرقية ذاتية بكلام يلقيه على عواهنه دون أن ينظر إلى ما قدمناه من أدلة استفاضت بها كلمتنا التي أدلينا بها في مناظرتنا معه والتي شغلت أكثر من ثلاث صفحات من النص الذي نشرته (المجلة الجديدة). ومع ذلك أحب أن أنظر في كلام مناظري الفاضل، وأول شيء ألمسه أنه يعترف ضمناً بما نقول حيث كتب يقول:

(ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم العلمي لم تستهويهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا ما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم لذلك لا تجد في شعر العرب شيئاً من إبهام بيندار وأورببيد وهوميروس)

وأنت ترى مناظرنا يعترف بأن العرب لم يتقبلوا تراث اليونان الأدبي، لوجود مهاو سحيقة بينهم وبين ثقافة اليونان التقليدية التي احتضنها روح اليونان، وهذا ما نقوله ونشرحه بأن ثقافة العرب ذاتية وأن الثقافة موضوعية عند اليونان. ولهذا لن تجد في الأدب العربي شعراً قصصياً ولا شعراً تمثيلياً ولا شعراً تصويرياً لأن القصص والتمثيل والتصوير يستلزم الانسحاب من آفاق الذات إلى رحاب الموضوعية، وليس هذا في مكنة الذهنية العربية كما شرحنا ذلك في توطئة كتابنا (الزهاوي الشاعر) الذي صدر منذ عام وفي دراستنا الإنجليزية لشعر الدكتور أبو شادي.

يتساءل مناظري بعد ذلك أين كانت العقلية الغربية قبل عصر النهضة - الرينسانس - أيام كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة، ويسبقنا بالجواب فيقول: إنهم كانوا يغطون في نومهم، ولم تزل تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم، فبلغ عدد هؤلاء الآلهة ثمانية آلاف في الأساطير. وأقول أنا رداً عليه: إنه لو قلب وجوه النظر في ما أدليت به في مناظرتي ما يجده منشوراً بالمجلة الجديدة، فانه ليجد الجواب موجوداً على ما أراده، وإذا أراد أن ننقل له الكلام بحرفه نقلناه.

قلناه هناك ما نصه:

(قامت المدنية الرومانية على تراث الإغريق، غير أن المسيحية سرعان ما غزت روما وهبت عليها حاملة معها نزعات المنطق الأسيوي والروح الشرقية، إلا أن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وامتصتها ومثلتها، وكان في هذا الابتلاع والامتصاص والتمثيل بعض الخلاص لمنطق الغرب من روح النسك الأسيوية، ولو لم تكن المسيحية ديانة روحية صرفة قابلة للكثير من التفاسير مرنة بطبيعتها غير حاملة في طياتها منطق حياة اجتماعية معينة ونظم وشرائع مخصوصة لقام النضال بين منطق الغرب وأصول مجتمعه وبين روح الشرق وشرائعه التي هبت بها على أوربا. . . ولقد نضب معين مدينة روما لعوامل داخلية فهاجمها البربر من الجرمان والصقلب والسلاف والهون، وسقطت إمبراطورية الرومان على ضفاف التبر. . . فكانت عصور ظلام في أوربا؛ غير أن الشعوب البربرية التي ورثت إمبراطورية الرومان احتفظت بالكثير من نظم الرومان الإدارية وعاداتهم، ولم يعد ما أحدثه البرابرة في أوربا سوى القضاء على التجارة الواسعة النطاق وعلى الإدارة العامة، وبذلك قامت بيوتات تجارية صغيرة تستطيع كفاية أهلها بمنتجاتها، فكان ذلك مقدمة للعهد الإقطاعي. وهكذا قدر لهؤلاء البرابرة أن يركزوا الحياة الاقتصادية في العمل الصغير، وبذلك وضعوا النواة لعهد الإنتاج الصناعي.

ثم طغت موجة العرب على الغرب. . . غير أن الغربيين نجحوا في وقف الموجة العربية عندما تفاقم أمرها. . . وكان نجاح شارل مارتل على العرب على نهر اللوار كنجاح الإغريق على الفرس سبباً في إنقاذ العقلية الغربية من طغيان روح النسك الأسيوية. . . في ذلك الوقت كانت العقلية الغربية رازحة تحت كاهل اللاهوت الكنسي الذي قام بروما رقيباً على النفوس والعقول محملاً بكل سيئات روح التنسك الأسيوية. . . غير أن العقلية الجرمانية لم تر في رقابة روما وتسلط البابا إلا روحاً أسيوية بعيدة عن طبيعة الذهن الغربي، فعملت كل الجهد في تقطيع أوصالها، وبدأ عهد الإصلاح بالصراع بين الذهنية الجرمانية الخالصة ممثلة العقلية الأوربية وبين العقلية الباباوية التي تحمل في طياتها شيئاً من روح النسك الأسيوية. . . في ذلك الوقت شق لوثر طريقه وكان عصر الإصلاح الديني وعهد الإحياء الفكري)

ومن هنا أرى عن حق أن مناظري الفاضل لم ينظر نظرة عميقة لكلامي وما أتى به لا يعد نقاشاً لما قلته لهذا أستحسن أن ينظر في كلامي وهو منشور بالمجلة الجديدة، ثم ينظر في كلامه المنشور بعددي الرسالة وردي عليه قبل أن يكتب رده فذلك أجدى لحسم نقط الخلاف في الموضوع.

ويبقى بعد ذلك كلمة أو كلمتان في موضوع الموسيقى الذي أثاره المناظر ولم أجد له أصلاً فيما قلت، ومع ذلك فأنا عند ظن المناظر أنتدب له الدكتور حسين فوزي وهو أخصائي في فن الموسيقى وله من العلم الواسع في هذا الموضوع ما يمكنه من بيان نواحي الزيف في آراء المناظر، وهو على ذلك قدير (الإسكندرية)

إسماعيل أحمد أدهم