مجلة الرسالة/العدد 261/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 261/الكُتُبْ
إلهام
قصة مصرية
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
هذه قصة دفعها إليْ صديق من أصدقاء المؤلف، ورجاني أن أقرأها وأرى رأيي فيها؛ وما سهلٌ على كاتب من الكتاب أن يتحدث عن كتاب هو مرجُوٌّ أن يتحدث عنه ويري رأيه فيه، فإن ذلك خليق أن يصبغ الرأي بلون من ألوان الهوى تختفي وراءه بعض الحقيقة؛ ولكني مع ذلك سأحاول أن أكتب، وسأحرص في هذه المحاولة أن أكون ناقداً وحسب. . .؛ ولن يفوت القارئ بعد ما قدّمتُ أن يعرف الرأي في هذا الكتاب على حقيقته، وأن يستخلصه مما قد يكون عالقاً به مما تزيفه النفس على صاحبها لتخدعه عن رأيه. . .
وبعد فهذه قصة مصرية ألفها مؤلفها منذ إحدى عشرة سنة، ولم ينشرها إلا منذ أشهر، وكان مؤلفها يوم ألفها شاباً في الثالثة والعشرين؛ وما بُّد لمن يؤلف مثل هذه القصة في مثل هذه السن أن ينظر إلى ما يحيط به؛ وهذا شئ لا ينكره المؤلف ولا يعترف به كل الاعتراف؛ فهو يقول في تقدمة هذه القصة:
(أعددت قصة إلهام للطبع في سنة 1927. . . . . .؛ ثم أرغمني كثير من ظروف الحياة على أن أهمل أمرها عشر سنوات، وفي هذه السنة أعدت قراءتها، وكنت في أثناء تلك القراءة كمن يسير بين قبور عزيزة تضم رفاتاً مقدساً وذكريات تثير الأشجان
ومع أن هذه القصة لا تصور حياة المؤلف إلا أن فيها بعضاً من نفسه وتجاريبه ومشاهداته. . .)
أما الغاية التي يقصد إليها المؤلف من قصته فإنه يقول عنها: (. . . وسترى أنها قصة مصرية لا تدور حول غاية معينة من أنواع الإصلاح، يغلب عليها ذلك النوع التصويري الذي يصور المناظر والشخصيات والميول والخواطر، لا سيما ما ينساب منها أحياناً في الرأس بلا ترتيب. . . .)
وهذه القول الذي يقوله هو حق إلى حد ما؛ فهو لم ينشئها ناظراً إلى غاية معينة من غاي الإصلاح وإن كان فيها كثير من الدعوة إلى الإصلاح مبثوث في تضاعيف القصة وفي أثناء الفصول بلا ترتيب ولا نظام، وتجد أكثره فيما جعل من الحوار على ألسنة أبطال القصة؛ بل لقد كان حرصه على أن يثبت رأيه ودعوته إلى الإصلاح داعياً له إلى أن يقحم كثيراً من القول في أساليب المحاورة لغير وقته، فكانت بعض المحاورات تطول أحياناً طولاً يدعو إلى الملالة ويبعد بموضوع المحاورة عن أصله وداعيه. والمحاورة كما يعرف كل من عالج القصة أو درس فنها - ليست موضوعاً ملائماً للدعوة إلى الإصلاح وبيان أوجه الرأي فيه، ولكنها وسيلة من البيان في أوجز عبارة تصل بين رأي ورأي أو حادثة وحادثة مما يفيض به موضوع القصة؛ ولن يكون الحوار أبداً وسيلة إلى بث فكرة أو دعوة إلى إصلاح إلا بقدر غير ملحوظ ولا مُدرَكْ في جملته. إنما يكون ذلك في الحادثة لا في الحديث، وفيما يُحكى لا فيما ينطق به. . .
على أننا وقد وافقنا المؤلف على أنه لم يكن له غاية من قصته في الدعوة إلى نوع من الإصلاح، نقول إن (ذلك النوع التصويري الذي يصور المناظر الشخصيات والميول والخواطر) هو في نفسه غاية من الغايات الرفيعة يقصد إليها كثير من أهل الفن؛ وقد بلغ المؤلف في ذلك وأجاد وانتهى إلى غاية. ولقد كنت أقرأ بعض ما كتب المؤلف من الفصول التصويرية في هذه القصة فأشعر بكثير من اللذة والإعجاب؛ وأجمل ما قرأت من هذه الفصول وصفه في الفصل الأول عيد (شم النسيم) كما يحتفل به كثير من طوائف المصريين في الريف والحضر؛ وفي الفصل الرابع وصف حياة الشاب العزب تترامى الآمال حوله في الزواج والمصاهرة، وتعترك حوله أماني الأهل والأصدقاء؛ وفصول أخرى لا تقل عن هذين الفصلين جمالاً وروعة
أما عناية المؤلف بالفن ومقدار توفيقه فيه، فما أريد أن أسهب في الحديث عنه؛ فإن من الظلم أن تكلف فتى في الثالثة والعشرين أن يكون له من السيطرة على نفسه وعلى وجدانه ما يساعده على حبك قصة طويلة كهذه القصة على ما يقتضي فن الرواية على وجهه؛ إذ كان كل هم الشباب في مثل هذه السن أن يحشد كل خواطره وأماني نفسه ومصورات خياله فيما يكتب؛ فأنه ليصعب عليه أن يغفل معنى أو فكرة أو حادثة تلُحّ على نفسه؛ ومن هنا جاءت قصته - كما قرأتها - وكأنها في نفسي قصتان لا رابطة بينهما إلا فيما تبدأ القصة وفيما تنتهي؛ أما في العرض وفي تسلسل الرواية فإن القارئ يكاد يحسّ في أكثر من موضع أنه انتقل من قصة إلى قصة فلا يشعر أنه فيما كان فيه إلا حين يوشك أن يبلغ نهاية الفصل. وذلك شيء حقيق بالنظر والتدبر عن من يريد أن يكون قاصّاً موفقاً؛ فإن أول شرط القصة هي أن تتسلسل بحوادثها تحت عيني القارئ حتى تبلغ بذلك أن تنقله من جو إلى جو فيسير في قراءتها وكأنه يعيش بين أبطالها وعلى مقربة من زمانها ومكانها؛ وما أنكر أن المؤلف قد بلغ إلى ذلك في بعض الفصول ولكنه لم يبلغ إليه في جملة القصة؛ على أن هذا التنافر في موضوع الرواية لا يستمر إلى نهايتها؛ فما هو إلا أن ينتهي القارئ إلى حد ما ثم تسير القصة إلى خاتمتها طبيعية لا تكلف فيها ولا اصطناع، حتى تنتهي إلى نهايتها في حيلة موفقة
على أن هذه القصة - وهي مصرية المغزى والموضوع في جملتها - تبتعد كثيراً في بعض فصولها وحوادثها عن المألوف من عاداتنا وما نعرف، فهي لا تصوّر صورة مصرية عامة يراها كل أحد؛ ولكنها صورة خاصة قامت في نفس كاتبها في يوم ما فرآها على التعميم حقيقة بالتسجيل في قصة يريد أن يجعل بها صورة لبعض ما في مصر؛ ولقد كنت أريد أن ألخص موضوعها في هذا الفصل لأعرضها عرضاً جلياً لمن يريد أن يعرف، ولكني أوثر أن يكون تعريفي بها من بعيد حتى لا أقطع الطريق على من يريد أن يقرأها بقلم مؤلفها ليعرفها العرفان الحق
أما أسلوب المؤلف في الأداء فهو الأسلوب السهل الطبيعي، لا تكلف فيه ولا صناعة؛ وفيه إلى ذلك روح وعاطفة وقلب نابض؛ تقرؤه فتعرف نفس كاتبه بما تجيش به من أماني والآم تراها مصوَّرة أدق تصوير وأبرعه، فكأن وراء كل عبارة قلباً ينبض، وكأن وراء الظلال من كل فصل نفسية سامية تؤمن بالمثل الأعلى إيمان الرأي والعقيدة، وتقف جهدها على تحقيق المعنى الإنساني العام في كل نفس وفي كل إنسان؛ فهو أسلوب قصة، وهو صرخات نفس حانقة، وهو غيظ حبيس يتفجر نثراً وكتابة، وهو أماني وأحلام، وهموم وأحزان؛ وهو غبطة ورضا، وسخط وألم. وإن فيه لمعاني جديدة وفكراً جديداً. . .
ولكن ذلك كله لا يحمل الناقد المنصف على تجاهل ما في أسلوب المؤلف من غلطات في اللغة والنحو وفي استعمال الكلمات كان حرياً أن يتنزه عنها؛ ولو أنها غلطات تعد لما كان من حقي أن أشير إليها هذه الإشارة، ولكنها غلطات عامة ومتكررة بحيث لا تكاد تخلو صفحة من غلطة. . . وإني وقد قرأت للمؤلف وتذوقت فنه وأدبه لأجد من الخيانة أن أغض النظر عن هذه الغلطات؛ فإن كاتباً مثل مؤلف هذه القصة حقيق بأن يكون في غد من أصحاب القلم والفكر في هذا البلد لو كان أحرص من ذلك على لغته وعبارته؛ وإن ذلك الأمل في مستقبله الأدبي ليحملني على أن ألفته إلى ذلك ليستكمل أدواته ويمهد لمستقبله
أما بعد فإنها قصة مصرية وما تزال القصة الطويلة في العربية شيئاً نحاوله فلم نبلغ فيه حد الكمال أو ما يقرب منه؛ وإنه لفن رفيع يستحق العناية من أدبائنا ليسدوا نقص العربية في هذا الباب؛ فما يغيب عني وقد ذكرت ذلك أن أثني على المؤلف الفاضل لهذه المحاولة؛ وما يغيب عني مع كل أولئك أنها قصة ألفها مؤلفها منذ إحدى عشرة سنة وما يزال يومئذ شاباً حدثاً يخطو خطاه الأولى إلى هذا المعترك الأدبي؛ فإذا كنت اليوم أرى فيها ما يستحق الملاحظة والتعليق، فإنها ملاحظات على الأديب الناشئ نقولا يوسف الذي ألف قصة (إلهام) سنة 1927 وهو في الثالثة والعشرين من عمره؛ وهو عندي غير الأديب الفاضل (الأستاذ) نقولا يوسف في سنة 1938، الذي عرفه القراء فيما أنشأ بعد ذلك من مؤلفات لها خطر ومقدار وهو مع ذلك غير الأستاذ نقولا يوسف الذي نرجو أن يكون في غد. . .
(س)