مجلة الرسالة/العدد 261/بين مصر والعراق

مجلة الرسالة/العدد 261/بين مصر والعراق

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1938


تجري أحكام القدر على أسباب خافية من حكمة الله لا يؤثر في منطقها مقتضيات السياسة، ولا مناسبات الظروف ولا مجاملات الصداقة. ولو كان لهوى النفوس ومشيئة العقول أثر في تدبير الأحداث وتغيير الأقضية لما اخْتُبل في ذلك الوقت هذا الطالب العراقي المسكين فأراق على ثرى دار الحقوق البغدادية نَفْس الدكتور سيف، ودم الدكتور عزمي، وهما يجاهدان غريبين في سبيل العلم، ويؤديان مخلصين للعراق فروض المودة. وأقول في (ذلك الوقت) لأن وقوع هذا القدر المروِّع في هذه الساعة التي تنعقد فيها أَوَاخي المصاهرة بين مصر وإيران أتاح لبعض النفوس الجاهلة أو المريضة أن توازن بين ما يفعل إخوان النسب وبين ما يعمل إخوان العقيدة. ومثل هذا الحادث المشئوم يقع في كل قوم وفي كل يوم، فلا تضطرم له القلوب، ولا تضطرب به الألسنة، ولا تهن منه العلائق، ولكن وقوعه ظلماً على الغريب النافع، من القريب المنتفع، أعطاه معنى التضحية وجعل له تأثير الشهادة. وابن الوطن إذا قتل في وطنه كان مصابه مصاب أسرته، وإذا قتل في وطن غيره كان مصابه مصاب أمته أضف إلى هذه الملابسات شائعات مكذوبة وتعليقات مشوبة استطار بها السماع فدلَّست على الناس وجوه الحكم، وآذت أصدقاء العراق وعارفيه فهبوا يصححون الخطأ في المجالس، ويعلنون الصواب في الصحف، رعاية لأسباب الإخاء، وإدامةً لتعاون الفكر، وضناً بأخلاق هذا الشعب النبيل على الأفواه القارضة.

شهد الله أني قضيت بالعراق ثلاثة أعوام لم ينلني فيها كلمة تؤذي ولا فَعلة تسوء؛ إنما كنت أتقلب في بغداد كما يتقلب الطفل على أحناء الصدر الحنون، لا أحس غربة، ولا أستشعر وحشة، ولا أجد في العيون ولا على الشفاه إلا العطف عليّ والإعجاب بمصر.

وربما وجد المصري في غير مصر تناكرا بين وجه ووجه، وتدابراً بين عاطفة وعاطفة، إلا في العراق، فإنه يجد وجهه في الوجوه وهواه في الأهواء؛ ويحس أن الأدب الذي درس، والتاريخ الذي قرأ، يتمثلان لباصرته وذاكرته في كل شخص وفي كل شيء؛ ويرى أن هؤلاء الناس الذين خُلقوا كما خُلق من النهر ذي الغرين الخصب، وعاشوا كما عاش على الأرض ذات الطلَّع والحب، لا يختلفون عنه في سَحنةٍ ولا خلق؛ والعراقيون من جهتهم يؤيدون حسبانه ووجدانه بالطلعة الأنيسة، والمروءة الجزْلة، والكرم المحض.

كانت مصر إذا ذكرها في المجلس ذاكر نزعت إليها قلوب القوم كما تنزع الأسْرة إلى عَصَبتها النازحين إلى بلاد الذهب والأدب والجمال. وكان المصريين في بغداد على قلتهم منزلة ملحوظة بين الجاليات الأخرى لا تحوم حولها شبهة الارتزاق ولا سُبَّة التشرد، لأن العراقي وإن كان ضنيناً بخيره على الأجنبي الواغل، يعرف عن المصري ما يعرفه كل الناس من عزوفه عن النقلة من قرية إلى قرية، فكيف بالرحلة من وطن إلى وطن؟

وهذا الذي رأيته بعيني لا أزال أسمعه بأذني من الأساتذة المصريين الذين لا يزالون يسفرون بين الشعبين الشقيقين بالثقافة والمودة. فالأحاديث التي تندس اليوم إلى الأندية اندساس الفتنة لا ترجع إلى حق ولا تذهب إلى منفعة. وهذا الحادث على فظاعته ظاهرة من ظواهر المجتمع، يحدث في الأمم المدنية كما يحدث في الشعوب الهمجية؛ ويقع من القريب على القريب، كما يقع من المواطن على المواطن؛ وحقد النفس على النفس من طبائع الإنسان، وضلال العقل ووهن الأعصاب من آفات الحي، وما يستطيع غير الله أن يعلم خوافي الصدور وخوائن العين.

فماذا كانت تعمل حكومة العراق وأمة العراق لتدرأ ذلك العدوان الفردي المحتوم وقد تهيأت أسبابه خفية في نفس مضطربة وأعصاب موهونة ويأس مضل؟ إن الذين قَالوا إنما كان هناك وعيد كُتب، وتهديد قيل، لم يثبتوا أن الصديق الجليل عزمي قد عاج بهذا الوعيد، أو أخبر الحكومة بهذا التهديد. وإذن لا يبقى إلا نزق الشباب الذي لا طِبَّ له، وقدر الله الذب لا حيلة فيه.

إن العلاقة بين مصر والعراق طبيعية لم يفتعلها طمع الاقتصاد ولا طموح السياسة؛ إنما هي علاقة الدم واللغة والأدب والتاريخ والمجد والعقيدة؛ فإذا طاشت يد هناك، أو هفا لسان هنا، فلا ينبغي أن يقع ذلك من البلدين الأخوين إلا موقع العبث الضروري الذي لا تكون الحياة دنيا إلا لوقوعه فيها، ولا يكون الإنسان بشراً إلا لوقوعه منه.

هذه كلمة كنا نود ألا نقولها، فإن الحاجة إلى تقرير الود بين الصديقين مظنة لوقوع الشك فيه، ولكن قعائد البيوت وأحلاس المقاهي لا يحبون أن يزجُّوا فراغهم الثقيل إلا بزخرفة الأحاديث على حساب الحق، فلم يكن لنا ولهم بد من هذه الهمسة!

أحمد حسَن الزيات