مجلة الرسالة/العدد 263/بين الشرق والغرب
مجلة الرسالة/العدد 263/بين الشرق والغرب
رد على رد
للأستاذ فليكس فارس
كتبت مقالي في العددين (257 و 258) من الرسالة تحت عنوان الشرق والغرب فأوردت فيه بعض مباحث دارت بيني وبين الدكتور إسماعيل أدهم، فإذا به يأتي في عدديْ (259 و 260) بما يعتقده مؤيداً لرأيه، وهو المبدأ الذي حاول تعزيزه في مناظرة (20 مارس سنة 1938) يثبت أن من الخير لمصر أن تأخذ بالحضارة الغربية. وقد أحسن الدكتور أدهم بإيراده ملخص أقواله إذ عرض بذلك على المفكرين ما يتمم البحث بإيضاح النظرية الإيجابية في قضية تشغل كل محب لأوطانه في هذا الشرق العربي الذي آن له أن يعين اتجاهه ويتطلع إلى مصير أبنائه وأحفاده
هذا ولا بد لي في هذا المقام أن أكرر على قراء الرسالة ما قلته لمن غصَّ بهم رحب قاعة المناظرة حين دافع الدكتور عن نظريته، ولمحت شيئاً من الأشياء لموقفه على وجوه الشبيبة العربية. قلت: إن صديقي الدكتور أدهم فيلسوف غربي لا يسلم تفكيره في الاجتماع من نزعات فطرته، كما لا يسلم تفكيرنا نحن من نزعات فطرتنا. فالمسألة مسألة اجتماعية يدور بها الشيء الكثير من حوافز الذوق الموروث، لذلك أرى موقف صديقي مهاجماً أحرج من موقفي مجارياً، فأشكره على صراحته معتقداً بحسن نيته وبأن حبه للشرق ولمصر هو ما يحفزه إلى محاولة إقناعنا بأفضلية الحضارة الغربية؛ ليس عدوَّا من ناقشك ودعاك إلى الأخذ بم يعتقده حقَّاَ لأنه يتمنى لك ما ارتضاه لنفسه
والآن لأرسلن نظرة عجلى في ما كتبه الدكتور أدهم في الرسالة متناولا ما يستوقفني فيه مما لم أتناوله في مقالي السابق متجنباً التكرار متوخياً حصر الموضوع في دائرة محدودة نصل منها إلى نتيجة، لأن اقتحام الجدل من أجل الجدل لا يؤدي في الغالب إلا إلى الانتقال لفروع القضية بالتغاضي عن أصلها
1 - إن مُناظري يعترف بأن لمصر ثقافة تقليدية لا يمكنها أن تخرج عنها ما لم يهتز المجتمع في صميمه، ولكنه يعود بهذه الثقافة إلى أصل فرعوني راسخ سواء في طرق المعيشة أو في الدين؛ ودليله على استقرار مصر على حضارة فرعونية جلباب الريف الأزرق وطرق الري، وبرهانه على استقرارها على دين الفراعنة تطرق تقاليده إلى الدين الإسلامي، وبتعبير أصح إلى حياة المسلمين
أما أن يعد المناظر طريقة استغلال الأرض فطرة فذلك مما لا يوافقه أحد عليه، لأن المسألة هنا تتعلق بتطور في أساليب الصناعة، ولا شأن للفطرة فيها. ولو كان الأمر كما يقول المناظر لكان كل مرتَدٍ لغير القميص الأزرق، وكل حارث بآلة حديثة، وكل مستبدل (شادوفاً) (بطلمبة)، فاقداً للفرعونية التي يريد المناظر بعثها أساساً لحضارة مصر. . .
أما أن تكون التقاليد التي احتفظ بها السكان من الحضارة المنقرضة دليلاً على بقاء الدين فرعونياً في مصر فذلك ما لا يقره عليه أحد، لأن ما تبقى من العادات يعد بدعاً لا يزال الدين يعمل على اقتلاعها من المجتمع لخيره وسلامة إيمانه
إن مصر لن تكون فرعونية في القرن العشرين إلا إذا تراجع الزمان القهقري طاوياً معه كلمة الله التي جعلت قوم فرعون حديثاً في تاريخ الشعوب
2 - إن مناظري يستبعد سائر البلاد العربية عن البحث مدعياً أن ثقافة مصر مستقلة تجاه الحضارة العربية، لأن لها طابعاً خاصاً، ولأن لغتها العربية استمدت من الثقافة الفرعونية قدرتها على صوغ المعاني بما يتكافأ ومحيط مصر، فاللغة العامية في هذا الوادي إنما هي - بحسب رأي الدكتور أدهم - فرعونية آخذة بأسباب التعرب. . .
أما أن تكون مصر ذات ثقافة خاصة تتميز بها عن سائر الأقطار العربية فذلك ما ننكره على المناظر، لأن لشعوب سائر الأقطار العربية كلها جدوداً عاصروا الفرعونيين وتركوا في التاريخ ذكرى حضارات لم يبق منها سوى أعمدة محطمة وهياكل متداعية
إن في كل من الأقطار العربية من المميزات الإقليمية ما لا ينكره أحد؛ وقد تجد مثل هذه المميزات في أحياء مدينة واحدة، ولكنها أضعف من أن تسلخُ هذه الشعوب عن ثقافة عامة شاملة لها في اللغة والموسيقى ونظام الأسرة وروح التشريع. وهذه المميزات العامة هي ما تقوم الحضارة الأدبية عليه في كل الأمم
أما أن تكون اللغة العامية في مصر عبارة عن لغة فرعونية في أصلها فذلك مما نقف عنده متسائلين عما إذا كان الدكتور أدهم لا يقصد هزلاً به. . .
ليست اللغة العامية في مصر إلا كسائر اللغات العامية في الأقطار العربية، لغة أفسدتها عصور الانحطاط، فانك لو أغضيت عن اللهجات في كيفية الإلقاء، وهذا مما يصعب توحيده في أقاليم أية أمة، فإنك لا تجد إلا كلمات معدودات يختلف النطق بها بين مصر وسوريا وبغداد مثلاً؛ غير أنها كلمات عربية شوهها الاختصار، ولكنه استبقى على أصلها. فأين (دلوقتي) (وإزيك) من لغة الفراعنة؟ وأين (شو بدَّكْ) من لغة أبناء فينيقيه؟
3 - أراد مناظري أن يجعل العلم والثقافة شيئاً واحداً، فهو يقول بانبثاق الثقافة من العلوم الأصلية، ونحن لا نعلم ما هي العلاقة بين علم طبقات الأرض مثلاً والمبادئ الأدبية التي يقوم المجتمع عليها. وقد أوردنا في مقالنا السابق ما يغنينا عن التكرار في هذا الموضوع
يرى المناظر أن اليابان أصبحت عالة على أوربا لأنها أخذت العلم الوضعي عنها ولم تأخذ بحضاراتها في آن واحد. فحضرته يميز إذن بين العلم والحضارة. . . في حين أنه يقول بصدور الحضارة عن العلم
ثم هو يقول إن أوربا تعمل بحضارتها للتحرر من استعباد الآلة. ونحن نرى أن أوربا لن تخلص من هذا الاستعباد إذا هي لم تخرج على مبادئ حضارتها
4 - يعود المناظر إلى التمسك بقوله إن الشرق يقيم الحياة على أساس غيبي لتنظيم الصلات بين البشر؛ ونحن لا ننكر على الشرق هذه الفضيلة، ونود لو اتخذها الغرب أساساً لحضارته؛ لأن كل تنظيم لعلاقات البشر في المجتمع لا يرسو على الإيمان باستمرار الحياة بعد الموت، لا يجد مرتكزاً له في غير مبدأ الحق للقوة سواء أكان ذلك بين الأفراد أم بين الأمم
5 - نشكر للمناظر اعترافه بأن المنطق مشاع بين الأمم، بعد أن كان في مناظرته ينكره على الشرق. ولعله يذكر كما يذكر من حضر المناظرة إصراره على القول بأن الإقليم والبيئة في الشرق يجنحان بأهله إلى الخيال دون التفكير والاستقراء مما دعانا إلى الرد عليه بقولنا:
6 - إذن، لماذا تدعونا إلى ما لا قبل لنا به ولا إمكان لاقتباسه ما لم نهجر أوطاننا ونذهب إلى الغرب نتوطن فيه أجيالاً نستبدل بأدمغتنا الشرقية أدمغة غربية. إذا كان لا يسعنا أن نملك المنطق إلا بهذه التضحية فعلى المنطق العفاء. . . غير أننا كنا عندما أنشأنا حضارتنا على أرض هذه الشرق وتحت سمائه أسياد المنطق في العالم أما وقد أعلن المناظر أخيراً اعتقاده بأن المنطق مشاع بين الأمم وأنه يضعف إذا أهمل، فقد أصبحت دعوته للشرق للأخذ بمنطق الغرب دعوة لا مبرر لها، بل قد أصبحت ولها معنى واحد وهو الاهابة بالشرق للنهوض وللعمل على استعادة مجده بالرجوع إلى تفكيره وشعوره
7 - يقول المناظر إن الفلسفة الإسلامية روحها يونانية ومنطقها يوناني، لأن الفارابي وابن سينا وسواهما علقوا إرادة الخالق بقوانين الكون. ولا نعلم ماذا يقصد الدكتور بهذا. إن فلسفة المفكرين ليست إسلامية ولا مسيحية؛ إن هي إلا آراء في الخلق لا تمتُّ إلى الدين بسبب. إن الإيمان لا يقبل جعل الخالق أسيراً لما خلق. فإن كان الله جل جلاله قد وضع لهذا الكون نظاماً أفيعجز عن تبديله حين يشاء؟ إنها لفلسفة غريبة هذه الفلسفة التي تذهب متحرشة بإرادة المبدع قاصدة تحليلها لتعلم ما إذا كان بوسعه أن يحكِّم إرادته فيما أبدع
إننا نسلّم للدكتور بل نرجوه أن يقتنع بأن هذه الفلسفة منحدرة من ذهنية يونانية تعودت خلق سيئات الآلهة واختراع الأساطير عنهم وتحليل إرادتهم وغضبهم وغشهم وجنونهم وسكرهم
8 - يقول المناظر في ردّه على الأستاذ توفيق الحكيم إن علينا أن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبداً، ثم يقف فلا يورد الشق الثاني من هذه الآية العربية وهو (واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) غير أنه عليّ أن ألفت مناظري إلى أن الملحد لا يمكنه دون أن ينقض مبدأه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً لأنه يعلم أنه صائر إلى العدم وأن أبناءه مولودون لدود القبور فهو مطالب بالتنعم في يومه ما استطاع. إن من لا أبدية له لا غد له. . .
9 - إن المناظر يجد قصوراً في عدم مجاراة العرب لليونان في آدابهم التي جالت على قوله في رحاب الموضوعية خارجة من رحاب الذات، ويذهب بهذا إلى القول بأن التحليل ليس من مكنة الذهنية العربية
لا يا مناظري، إن الأديب العربي قد استوعب في ذهنيته كل ما جال في خاطره وفي الآفاق حوله، فما كان عليه أن يصوّر حياة اليونان أو يتذوق أساطيرهم وخرافاتهم فيحذو حذوهم، لأن فطرته لم تكن تستنيم لثقافة غريبة عنه. وهل لنا أن نلوم الألماني مثلاً لأنه لا يأتينا بما أتى به موسيه، أو نلوم هوجو لأنه لم يكتب كنيتشه؟. . .
إن الآداب صورة لثقافة الشعب وحياته، وقد أخذ أجدادنا العلوم عن اليونان لأن العلم مشاع كما سلمت. فهل كانت حضارتنا الأدبية يونانية لتكون آدابنا يونانية؟
10 - إن المناظر يرى في انتصار شارل مارتل إنقاذاً للعقلية الغربية من طغيان روح النسك الآسيوية. وهو يعترف في الوقت نفسه بأن العقلية الغربية كانت رازحة تحت كاهل اللاهوت الكنسي الذي قام في روما رقيباً على النفوس والعقول محملاً بكل سيئات النسك الآسيوية
أفليس من الغريب أن يرى الدكتور أدهم في انتصار مارتل إنقاذاً للغرب من روح النسك الآسيوية في حين أن الإسلام لم يكن فيه شيء من هذه الروح التي سادت بها روما باسم المسيحية؟ فإذا كان مارتل أراد إنقاذ الغرب من النسك، أفما كان عليه أن يتحول من نهر اللوار إلى روما بخيله ورجله؟
بقي علي أن ألقي نظرتي الأخيرة على أول كلمة توَّج بها مناظري ردَّه. وهي كلمة (هابل آدم) التي أوردها آية يدعونا بها إلى الأخذ بعقلية الغرب لنصلح حياتنا حتى إذا انتقلنا إلى الحياة الأخرى فهنالك نتبع العقلية الشرقية الملائمة للحياة الباقية (كذا. . .)
مرحى لهابل آدم. . . أفيلسوف اجتماعي من يقول بمثل هذا؟
ليذهب أشباه (هابل) في هذه الحياة بعقليتهم المنكرة لكل عقاب وثواب. ليسحق الأقوياء الضعفاء سحقاً سواء أكانوا أفراداً أم شعوباً، وليدوسوا على الحق بالقوة الغاشمة وبالقوة المتحيلة، حتى إذا اجتاز الكافرون معبر الموت حقّ لهم أن يعملوا بذهنية الشرق وأن يقفوا أمام الديان هاتفين: ربنا إننا نتوب إليك فاحشرنا مع المؤمنين الصالحين.
(البقية في العدد القادم)
فليكس فارس