مجلة الرسالة/العدد 263/تعليم أبناء الفقراء في إنجلترا

مجلة الرسالة/العدد 263/تعليم أبناء الفقراء في إنجلترا

مجلة الرسالة - العدد 263
تعليم أبناء الفقراء في إنجلترا
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 07 - 1938



للآنسة الفاضلة أسماء فهمي

درجة شرف في التاريخ ودرجة الأستاذية من إنجلترا

وأستاذة بمعهد التربية

استأثرت الطبقات الغنية في إنجلترا بما كان يعد أرقى أنواع التعليم والثقافة إلى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر. وكان يتلقى أبناء تلك الطبقات العلم في المدارس الخصوصية وفي جامعتي اكسفورد وكمبردج، ذات النفقات الباهظة والنزعة الأرستقراطية البحثة، تلك المعاهد التي استحالت بالتدريج إلى معاهد خاصة بذوي اليسر والجاه وأن لم تنشأ في أول الأمر من أجل هذه الطبقة بالذات

أما أبناء الطبقات الفقيرة فكانوا يتلقون قشور العلم في مدارس أولية متواضعة تشبه الكتاتيب في مصر في أكثر نظمها وأساليبها. وكان يقوم بتأسيس هذه المدارس الجمعيات الخيرية وأهل البر والإحسان؛ أما الحكومة فلم تتدخل في أول الأمر تدخلاً مباشراً في شئون التعليم بل اكتفت بتقديم الإعانات المالية للجمعيات ابتداء من سنة 1833، وبتكوين اللجان من حين إلى حين لدرس حالة التعليم وتقديم الاقتراحات والتقارير للقائمين بشأنه، مما كان له أثر يذكر في النهوض بالتعليم وتوجيهه التوجيه الصالح

ولقد كانت نظرة الحكومة والمتطوعين لنشر التعليم بين الفقراء قاصرة مبتورة، إذ كان الغرض مجرد القضاء على الأمية وتعليم الأطفال بعض الأعمال اليدوية التي قد تساعدهم على كسب الرزق. وعلى ذلك كان منهج الدراسة الأولية عبارة عن مبادئ القراءة والكتابة والحساب والدين ذلك الذي كان يمزج بتلقين الطاعة للرئيس والقناعة بنصيب المرء في هذه الحياة الدنيا. والواقع أن التعليم كان مبنياً على أساس الاحتفاظ بنظام الطبقات العتيق وخضوع الفقراء للأغنياء، فكان يخشى أن يؤدي التوسع في تعليم الفقراء إلى عدم رضائهم بحظهم من الحياة. ولقد تجلت تلك النظرة المحدودة في تقرير اللجنة المعروفة بلجنة عهد إليها بدراسة حالة تعليم أبناء الشعب فأصدرت تقريراً وافياً عام 1860 أعلنت فيه رضاءها عن حالة تعليم أبناء الفقراء إذ ذكرت بشيء من الدهشة أن في مكنة ثلاثة أخماس التلاميذ المدونة أسماؤهم في سجلات المدارس الأولية أن يتعلموا القراءة والكتابة دون صعوبة ظاهرة، وأن يقوموا بإجراء العمليات الحسابية البسيطة التي تتصل بحياتهم اليومية كما يتلقون مبادئ الدين الأساسية وما يتصل بها من التعاليم الخلقية. . . أما مواد الثقافة العامة كالتاريخ والجغرافيا التي كانت قد بدأت تشق لنفسها طريقاً في المنهج فلم تعرها اللجنة التفاتاً إذ لم تكن معتبرة من المواد الأساسية

على أن تلك النظرة الضيقة إلى تعليم أبناء الفقراء أخذت تتغير تغيراً كبيراً في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر تحت تأثير عوامل مختلفة أهمها انتشار الأفكار الحرة ونمو حركة العمال واتساع نطاق الحقوق الانتخابية التي شملت طبقة العمال سنة 1867، فأصبحت تلك الطبقة تلعب دوراً هاماً في مصير الأمة وتكييف شئونها. وسرعان ما شعرت الطبقة الحاكمة بأهمية هذا الانتقال الذي أوجب تعليم الطبقات الفقيرة بما أنها ضمت إلى زمرة السادة والحكام نتيجة تعديل نظام الانتخاب. وعلى ذلك نجد الحكومة الإنجليزية تتدخل تدخلا جدياً في شئون التعليم وتسن القوانين لتعميم التعليم الأولى ففي سنة 1870 صدر قانون بتكوين مجالس للتعليم الأولى في المناطق المختلفة التي تقل فيها أو تنعدم المدارس التي كان يقوم بإنشائها الجمعيات الخيرية للقيام بسد النقص وتوفير التعليم لجميع أبناء الشعب، كما جعل من اختصاصها الإشراف على التعليم في المدارس الأولية المختلفة بينما جعلت مدة الدراسة الأولية خمس سنوات من سن الخامسة إلى العاشرة. على أن التعليم لم يصبح إجبارياً يعاقب القانون على تركه إلا في سنة 1880. ومنذ ذلك الانتقال الهام أدخلت مواد جديدة في برامج التعليم الأولى في حين منحت إعانات مالية لكثير من التلاميذ الفقراء النجباء لمساعدتهم على دخول المدارس القانونية والفنية والجامعات. وهكذا نجد أن اتساع دائرة الحقوق النيابية في إنجلترا يقابلها اتساع وإصلاح في دائرة تعليم الفقراء، وفي ذلك بلا نزاع لب الحكمة، إذ أن الخطر كل الخطر في وضع القوة السياسية أو الحقوق الانتخابية في يد قوم جهلاء يقضون على الديمقراطية باسم الديمقراطية

وفي القرن العشرين خطا تعليم أبناء الفقراء خطوات واسعة حوالي سنة 1900، فمدت الدراسة الأولية إلى سن الرابعة عشرة، وأنشئت الخدمة الطبية للمدارس سنة 1907 للاهتمام بصحة فقراء التلاميذ. وكان للحرب الأوربية الكبرى أعظم الأثر في تدعيم مبادئ الديمقراطية والمساواة ظهر أثره بجلاء في ميدان التعليم والعناية بأمر الأطفال دون تمييز بين الطبقات. ويشير الأرل بلدوين رئيس الوزارة الإنجليزية السابقة إلى تلك النزعة الحديثة عندما يقول: (إن وجود نوع واحد من الثقافة من أقوى عوامل الوحدة والائتلاف بين أفراد الشعب، وإن إنجلترا لم تربح في الماضي بسبب عدم اهتمامها بتكوين التفاهم والارتباط العقلي بين طبقات الأمة. فلقد كانت مدارسنا مقسمة بحسب الطبقات لا بحسب الفروق العلمية. . . ولكن قد بزغ فجر عهد جديد الآن، فان بناء المدرسة الأولية الهرم قد أقيم أخيراً على أنقاضه بناء جديد. . .)

والواقع أن هذا القرن يمتاز بالرغبة والعمل على القضاء على آثار الفروق المادية والاجتماعية من ميدان التعليم، تلك الفروق التي لم تكن تؤدي إلى الاختلاف في أنواع الثقافة والتربية بين أبناء الشعب فحسب، وإنما كانت تحول في أغلب الأحايين دون ظهور نبوغ أبناء الفقراء لسبب إهمال تنمية مواهبهم مما ينتج عنه بطبيعة الحال إقلال عدد النابغين في الأمة خصوصاً إذا راعينا أن الطبقة الفقيرة لا يقل عدد أفرادها عن أربعة أمثال عدد أفراد الطبقة الغنية والمتوسطة معاً، وأن عدد النابغين فيها إن لم يزد على عدد الموهوبين في الطبقتين المذكورتين لا يمكن أن يقل؛ وهكذا يضيع نصف نبوغ الأمة سدى إذ يقصر على تأدية الأعمال الوضيعة التي لا تستغل ولا تنمي المواهب العالية

ولتحقيق أغراض التربية الحديثة يبدأ الاهتمام بأمر الأطفال الفقراء في سن مبكرة؛ فمن سن الثانية إلى الخامسة يرسل الأطفال - إذا أرادت الأم - إلى مدارس الحضانة التي توجد عادة في الأحياء الصناعية الفقيرة المكتظة بالسكان حيث تضطر الأمهات في أغلب الأحيان إلى مغادرة منازلهن في الصباح الباكر للعمل مع أزواجهن في المصانع؛ فتقوم هذه المدارس بتعهد الأطفال للعب في أمكنة معرضة لأشعة الشمس والهواء، وتزود بكل أنواع اللعب المعدة للتسلية والحركة والابتكار؛ ويقضي الأطفال اليوم في اللعب والغناء والحركات التوقيعية وسماع القصص المصورة كما يعودون على القيام ببعض الأعمال التعاونية كالاشتراك في إعداد مائدة الطعام وتنسيق الأزهار وترتيب الحجرة، كما يعودون على آداب المائدة والترتيب والنظافة واحترام رغبات الغير ويبدأ التعليم الإلزامي من سن الخامسة إلى الرابعة أو الخامسة عشرة. وتقسم مرحلة التعليم الإلزامي الآن إلى ثلاث مراحل؛ فالمرحلة الأولى من سن 5 - 7، وفي هذه المرحلة تسير الدراسة وفق برنامج رياض الأطفال في مصر فيهتم بالألعاب والقصص والرسم والأناشيد والرقص، ويبدأ تعليم القراءة والكتابة عن طريق اللعب. والمرحلة الثانية من سن 7 - 11. وفي هذه المرحلة يدرس الأطفال ما يدرسه تلاميذ المدرسة الابتدائية المصرية ماعدا اللغات الأجنبية في أكثر المدارس. ويهتم في هذه المدارس اهتماما كبير بالأعمال اليدوية والموسيقى. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من سن 11 - 14 أو 15 وهذه المرحلة تعرف بمرحلة التعليم الثانوي. وعند بدء هذا الدور يعقد امتحان عام للتلاميذ الذين يبلغون الحادية عشرة، وبمقتضى نتيجة هذا الامتحان يقسم التلاميذ إلى ثلاثة أقسام، فالتلاميذ المتفوقون يرسلون إلى المدارس الثانوية التي تعد للجامعات والوظائف الفنية؛ والذين يكونون في المرتبة الثانية يذهبون إلى نوع آخر من المدارس الثانوية تسمى المدارس المركزية تختلف عن المدارس الثانوية العادية في كونها تتجه في السنتين الأخيرتين اتجاها عمليا، فترتبط مواد الدراسة بالبيئة كأن تشمل مادة الجغرافيا دراسة حالة البلد الاقتصادية وأسواقها التجارية وصناعاتها وعلاقاتها بالأمم الأخرى الخ، وكأن تكون اللغة الأجنبية التي تدرس لغة حية يكون الغرض من دراستها التفاهم بخصوص الشئون التي تتصل بحياة الطالب وعمله ودائرة تفكيره لا أن تكون أكاديمية بمعنى أنها تهتم بخواص الأجرومية أو المعاني والمصطلحات التي قلما يحتاج إليها في الحياة العملية. أما تلاميذ المرتبة الثالثة فيرسلون إلى مدارس ابتدائية راقية تتمشى برامجها إلى حد ما مع برامج المدارس الثانوية من ناحية الاهتمام بالثقافة العام بينما توجه عناية كبيرة إلى إعداد الطالب لبيئته الخاصة فتهتم مثلا بالعلوم الزراعية إذا كان الطالب يعيش في بيئة زراعية، أو بالمواد التجارية إذا كان الطالب يعيش في منطقة تجارية. وبالجملة يراعى في هذا التقسيم التمشي مع مقدرة الطالب العقلية ثم الاهتمام بالناحية الثقافية وتوسيع دائرة اهتمام الطالب بالروابط الإنسانية ونواحي الحضارة المختلفة. ولا يقصد بهذا التقسيم التوجيه المهني بالذات أو إعداد الطالب لكسب العيش بطريقة مباشرة، وإنما الغرض الأول من الدراسة الإلزامية في مراحلها الثلاث أي من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة هو إعداد الطفل لأن يكون إنساناً مهذب الخلق والإحساس ذا قسط من الثقافة قبل أن يعد لأن يكون تاجراً أو صانعاً

ولا يقصر الاهتمام في هذا الدور من التعليم على التربية العقلية والخلقية، وإنما يولي أولو الشأن عناية كبرى إلى صحة التلاميذ الفقراء. فلقد جعل لهم عيادات طبية يشرف عليها أطباء وممرضات تعطي العلاج والدواء مجاناً للتلاميذ، وتقوم الممرضات بعيادة منازل الأطفال لتوجيه النصح والإرشاد للأمهات كما توجد مستشفيات ودور نقاهة خاصة بهؤلاء الأطفال. كذلك تعمل المدارس على علاج ضعاف الأجسام من فقراء التلاميذ بتقديم اللبن لهم مجاناً حتى في أيام المسامحات لمن تظهر عليهم علامات الضعف بسبب رداءة التغذية. ومما يستحق الذكر في هذا المقام أن الأموال التي جمعت لعمل تذكار للملك جورج الخامس خصصت لشراء أراض واسعة تستعمل ملاعب للأطفال الفقراء

ولقد كان من نتائج زيادة الاهتمام بالتعليم الإلزامي وتعديل مناهجه مضاعفة الاهتمام بالمدرسين وإعدادهم إعداداً يتمشى مع تلك النزعة الديمقراطية الحرة؛ وعلى ذلك نجد الاتجاه الآن أن يكون المدرسون ممن حصلوا على تعليم جامعي أو ما يعادله حتى تتوفر لديهم الثقافة الواسعة والتهذيب العقلي والعاطفي الذي يحتاج إليه مربي النشء من بيئة ديمقراطية

ولا تقف مطامع المشتغلين بالتربية في إنجلترا وأنصار مبادئ الديمقراطية والمساواة عند هذا الحد إذ هم لا يكتفون بتعليم أبناء الفقراء حتى سن الخامسة عشرة بل يطالبون بإطالة مدة تعليمهم على نفقة الدولة حتى سن الثامنة عشرة، إذ يرون أن الولد الذي يبدأ حياته العملية في سن الخامسة عشرة لا يكون مزوداً بالمعرفة الكافية، ولا بالإعداد الذي يعينه على اقتحام معركة الحياة بنجاح. وإن الدلائل كلها لتدل على احتمال تحقيق هذا الرأي إما عاجلاً وإما آجلاً

مما ذكر يتبين لنا التغيير الهام الذي طرأ على الأفكار بخصوص تعليم أبناء الفقراء في بحر قرن تقريباً. ففي أوائل القرن الماضي كان يتساءل أعضاء البرلمان الإنجليزي عما إذا كان تعليم الطبقات الفقيرة أمراً مرغوباً فيه؛ واليوم يقولون جميعاً في إيمان إن التعليم الشامل الصحيح الذي يعم جميع الطبقات والذي يبرز النبوغ وينمي الاستعداد ويكون الخلق ويهذب العقل والقلب ويبين السمين من الغث هو حق ضروري لكل طفل بغض النظر عن العوامل المادية. وعلى ذلك لا يكتفي الآن بتعليم القراءة والكتابة ومبادئ الدين والحساب لأن هذا التعليم المحدود لم يعد يلائم حاجات الديمقراطية ولا المبادئ الإنسانية التي لحسن الحظ قد أثمرت أينع الثمر في ميدان التعليم.

أسماء فهمي

درجة شرف في التاريخ

ودرجة الأستاذية في التربية في إنجلترا