مجلة الرسالة/العدد 264/للأدب والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 264/للأدب والتاريخ
مصطفي صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 32 -
(منذ عام دعاني الأستاذ الزيات لأنشر هذا الحديث على قراء الرسالة، فصدعت بأمره عرفانا بحق الداعي والمدعو له. واليوم وقد بلغت هذا المبلغ فلم يبق إلا بضعة فصول، فإنني أتقدم بالرجاء إلى قراء هذه المقالات أن يعينوني على تمام هذا التاريخ؛ فأيما أحد كان عنده من خبر الرافعي شيء أغفلته، أو سهوت عنه، أو تصرفت فيه بنقص أو زيادة، أو لم يبلغني نبؤه - فليتفضل بالكتابة إلي في البريد أو على صفحات الرسالة؛ وفاء بحق الأدب على أهله. وإني لأعني بهذه الدعوة أصدقاءه وخاصته، ومن كتبوا إليه وكتب إليهم، ومن كان عندهم من رسائله ومن أوراقه؛ ولا أستثني هؤلاء الذين عرفوه على بعد أو سمعوا من أنبائه؛ على أني لا أسأل أحداً رأيه، فما يعنيني في هذه الفصول إلا الرواية والخبر والحادثة، وللرأي كتاب ثان بعد الفراغ من تدوين التاريخ)
سعيد العريان
مقالاته للرسالة (3)
كان بين الرافعي والابراشي ما قدمت الحديث عنه في بعض الفصول السابقة، وكان منه أن انقطعت صلة الرافعي بصاحب العرش ليحل محله الأستاذ عبد الله عفيفي. . . وسارت الخصومة بين الرافعي والابراشي إلى مدى، حتى انتهت إلى قطع المعونة الملكية عن (الدكتور) محمد الرافعي مبعوث الخاصة الملكية لدراسة الطب في جامعة ليون!
وضاقت نفس الرافعي بهذا اللون من ألوان الكيد، ولكنه صبر له واحتمل مشقاته وتكاليفه؛ وألزمته الضرورةُ أن يقوم بالإنفاق على ولده حتى يبلغ مأمله، على قلة إيراده وضيق ذات يده؛ فاستمر يرسل إليه أول كل شهر ما يقدر عليه وفي نفسه أن يأتي يوم يرفع فيه أمره إلى الملك فيحط هذا العبء عن كاهله! ووجد الفرصة سانحة لذلك في عيد الجلوس الملكي سنة 1934، فانشأ كلمة بليغة في تحيته بعنوان (آية الأدب في آية الملك) وأرسل بها إلى الرسالة لتنشر في العدد 66 سنة 1934، فلم تنشر به وإنما نشرتها الأهرام في صبيحة عيد الجلوس، وقرأها من قرأها. ثم كانت آخرة العهد الابراشي بعد ذلك بشهر واحد، فكتب من كتب من خصوم الرافعي يعددّ فيما يعدد من (جناية الابراشي باشا على الأدب) أنه كان يصطنع الأدباء ليحارب بهم سلطة الأمة، ويسخرهم للإشادة بحكم الفرد؛ وكان الرافعي عنده من صنائعه، وآيته هذا المقال وآيات أخرى من تلفيق الخيال!
وأرسل الرافعي إلى الرسالة بدل هذا المقال مقال (أرملة حكومة) وكانَ يعني به صديقنا الأديب المهندس محمداً، وهو شاب من (أدباء القراء) أبيقوري المذهب صريح الرأي؛ سلخ من عمره ثلاثين سنة ولم يتزوج، وبينه وبين الأستاذ إسماعيل خ صاحب (أستنوق الجمل) صلة من الود، وشركة في الرأي، وصحبة في البيت والندي والشارع. . .
لقينا مجتمعين في القهوة اجتماعنا كل مساء، فعاج يسلم ثم جلس، وسأله الرافعي: (. . . وأنت فلماذا لم تتزوج؟)
قال المهندس: (لست والله من رأي صاحبي فيما حدثكم به أمس، إني لأريد الزواج وأسعى إليه؛ ولكن من أين لي. . . من أين لي المهر، وهدايا العروس، وأكلاف الفرح؟ إن الزواج عندي ليشبه أن يكون معجزة مالية لا قبل لي بها!. . . ولو قد عرفت أن هذه المعجزة تتهيأ لي بالبخل على نفسي والقصد في نفقاتي وباحتمال العسر والمشقة على نفسي وعلى من حولي - لما وجدت ما يشجعني على هذا الاحتمال. إني لأعرف من بنات اليوم ما لا يعرف غيري، أفتريدني على أن أحتمل هذا العنت سنتين أو ثلاثاً حتى يجتمع لي من المال ما يجتمع، من أجل الوصول إلى زوجة قد يكون لي منها شقاء النفس وعدو العمر. . .؟)
وقال الرافعي. . . وقال الشاب. . . وطوى الرافعي ورقاته وقد اجتمع له موضوع جديد. وتهيأت له الفكرة تامة ناضجة فأملى علي مقالة (أرملة حكومة) وبعث بها إلى الرسالة في البريد المستعجل لتدرك موضعها في عدد الأسبوع
وقلت للرافعي وقد فرغ من إملاء هذا المقال: (أراك لم تنصف صاحبنا المهندس فيما كتبت عنه وما نقلت من رأيه وما رددت به، إنه ليعتذر إليك بعذر لم أجد جوابه فيما أمليتَ عليّ، لقد صدق؛ فمن أين له. . . من أين له هو؟. . . إنه لحري بك أن توجه العتب والملامة إلى آباء الفتيات وإلى هذه التقاليد التي تفرض على الشاب الذي يريد الزواج ما لا طاقة له به إلا أن تكون له معجزة مالية!)
فضحك الرافعي وقال: (أتراه كان يتحدث بلسانك؟. . لقد أخفيتها عني يوم سألتُك؛ وليس ثمة ما يمنعني أن أصحبك غداً إلى ع. . . لأطلب إليه أن يعفيك من هذه المعجزة المالية!)
. . . ومضت أيام، ثم دعاني ليملي عليّ (قصة زواج): قصة سعيد بن المسَّيب إمام المدينة وعالمها الذي ردّ رسولَ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وقد جاءه في خطبة ابنته لولي عهده الوليد بن عبد الملك، وزوَّجها من طالب العلم الفقير أبي وداعة على مهرٍ ثلاثة دراهم!
كانت هذه القصة هي جواب ما سألتُه تأخر إلى ميعاد. وكانت هي أول ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة
وإني لأراني وقد بلغت هذا الحد، مسئولاً أن أتحدث عن قصص الرافعي، وكيف كان يؤلفها، وأول ما عالج منها، وطريقته فيها:
لم يعالج الرافعي القصة - فيما أعلم - قبل قصة سعيد ابن المسيب إلا مرتين: أما أولهما ففي سنة 1905، وكانت مجلة المقتطف قد سبقت بين الأدباء جائزة لمن ينشئ أحسن قصة مصرية، فأنشأ الرافعي قصته الأولى وكان عنوانها (الدرس الأول في علبة كبريت) ولم يحصل بها على جائزة، ولكن المقتطف كافأته بنشرها اعترافاً بما بذل فيها من جهد. وقد أعاد الرافعي نشرها بعد ذلك بثلاثين سنة، بعنوان (السطر الأخير من القصة) وسأتحدث عنها في موضعها
أما القصة الثانية فأنشأها في سنة 1925 بعنوان (عاصفة القدر) ونشرتها المقتطف أيضاً. ثم كانت قصة سعيد ابن المسيب في سنة 1934
على أن ثمة فرقاً بين هذه القصة والقصتين الأوليين؛ ذلك أن هاتين القصتين هو أنشأهما إنشاءً فلم يعتمد فيهما على حادثة في التاريخ أو حدث في كتاب؛ أما قصة سعيد بن المسيب فلها أصل معتمد في التاريخ فلم يكن له في إنشائها إلا بيان الأديب وفن القاص، وكانت نواةً فمهد لها وأستنبتها فنمت وازدهرت. وفي الأدب القديم نوَيات كثيرة من مثل هذه النواة لم ينتبه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبهوا لها لوجدوا معيناً لا ينضب كان حرياً بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فناً جديداً من غير أن يقطعوا بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي؛ وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين، لا إلى الاستعارة والاستجداء من أدب الغرب والجري في غبار كتابه وشعرائه
. . . أعترف بأن الرافعي لم يكن يعرف عن فن القصة شيئاً يحمله على معالجتها ويغريه على العناية بها؛ وقد قدمتُ القول بأنه كان يسخر ممن يقصر جهده من الأدباء على معالجة القصة ولا يراه أهلاً لأن يكون من أصحاب امتياز في الأدب؛ إذ لم تكن القصة عنده إلا ضرباً من العبث ولوناً من ألوان الأدب الرخيص لا ينبغي أن تكون هي كلَّ أدب الأديب وفن الكاتب. وقد كان يعيب عليّ لأول عهدي بالكتابة أنني لا أكاد أكتب في غير القصة، وأنني أجعل بعض همي في دراسة الأدب أن أقرأ كل ما أستطيع أن أقرأ عن فن القصة وأسلوبها وطرائقها ومذاهب الكتاب فيها، وكان يرى مني ذلك تخلفاً وعجزاً ونزولا بنفسي غير منزلتها بين أهل الأدب!
على أنه إلى ذلك كان يجد لذة في قراءة القصة على أنها لون من ألوان الرياضة العقلية لا باب من الأدب؛ كما يشاهد رواية في السينما أو يقرأ حادثة في جريدة. وأحسب أنه كان يعتقد - على أنه كان لا يعرف التواضع في الأدب - بأنه لا يحسن أن ينشئ قصة ولا ينبغي له. واحسبه أيضاً حين انشأ قصة سعيد بن المسيب لم يقصد إلى أن تكون قصة، ولكنها هكذا جاءت على غير إرادته فكأنما اكتشف بها نفسه. . .
والحقيقة أن الرافعي كان يملك طبيعة فنية خصبة في القصة، يعرفها من يعرفه في أحاديثه الخاصة بينه وبين أصحابه، حين كان يعتمد العبث والتسلية، فيطوي من الحديث وينشره، ويكتم ويوري، ويورد الخبر إلى مورده، ويهزل ولا يقول إلا الجد؛ ويطوي النادرة إلا أخر الحديث، ويقول في آخر المقال ما كان ينبغي أن يكون في أوله.
وكان له إلى ذلك تعبير رشيق وفكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقُّر المصنوع؛ وإن له في هذه الفكاهة لمذاهب عقلية بديعة تحس فيها روحه الشاعرة وحكمته المتزنة وسخريته اللاذعة. ويكاد كثير من مقالاته يكون برهاناً على ذلك؛ فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة.
. . . وهذه هي كل أدوات القاص الموفق؛ فما ينقصه إلا أن يدرس فنّ القصة ومذاهبها ليكون فيها من السابقين المبرَّزين. ولكن الرافعي كان يجهل طبيعة نفسه، وكان له في كتَّاب القصة ما قدمت من الرأي، فكان تخلفه من هذين!
وحتى فيما أنشأ من القصص بعد ذلك، لم يكن له مذهب فني خاص يحتذيه ويسير على نهجه؛ ولكنه كان يقص كما تلهمه فطرته غير ملقٍ باله إلى ما رسم أهل الفن من حدود القصة وقواعدها؛ فإننا بذلك لنستطيع أن ندرس طبيعته وطريقته القصصية خالصةً له وحده، غير متأثر فيها بمذهب من مذاهب المتقدمين أو المتأخرين من كتاب القصص؛ على ما قد يكون فيها من نقص وتخَّلف، أو ابتكار وتجديد.
وطريقة الرافعي في كتابة قصصه غريبة، وغايته منها غير غاية القُصاص، فالقصة عنده لا تعدو أن تكون مقالة من مقالاته في أسلوب جديد؛ فهو لا يفكر في الحادثة أول ما يفكر، ولكن في الحكمة والمغزى والحديث والمذهب الأدبي، ثم تأتي الحادثة من بعد؛ فهو إذا هم أن ينشأ قصة من القصص، كان همه الأول أن يفكر في الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في إنشاء المقالات - فإذا اجتمعت له عناصر الموضوع وانتهى في تحديد الفكرة إلى ما يريد، يكون بذلك قد انتهى إلى موضوعه فليس له إلا أن يفكر في أسلوب الأداء، وسواءٌ عليه بعد ذلك أن يؤدي موضوعه على طريقة المقالة أو على طريقة القصة فكلاهما ينتهيان به إلى هدف واحد؛ فإذا اختار أن تكون قصة تناول كتاباً من كتب التراجم الكثيرة بين يديه، فيقرأ منها ما يتفق، حتى يعثر باسم من أعلام التاريخ، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه ومجالسه؛ ثم يصطنع من ذلك قصة صغيرة يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل؛ وإنه ليلهَم أحياناً ويوفق في ذلك توفيقاً عجيباً، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ وما للتاريخ فيها إلا نادرة ويرويها في سطور، أو إلا أسماء الرجال. . . . . .
على أن الإبداع في ذلك هو قدرة الرافعي - يرحمه الله - على أنه يعيش بخياله في كل عصر من عصور التاريخ، فيحس إحساسه ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك كثير ممن يقرأ قصة من قصص الرافعي في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء. . .
وأحسب أن الرافعي لم يتخذ هذه الطريقة في تأليف القصص عن عمد واختيار؛ فلم يكن ثمة ما يدفعه إلى معالجة القصة واختيار طريقة فيها - ورأيه في القصة رأيه - ولكنه مذهب اتفق له اتفاقاً بلا قصد ولا معاناة؛ وإنما تأتى له ذلك من طريقته التي أشرتُ إليها في الحديث عنه عندما يهم بالكتابة؛ فقد أسلفتُ القول أنه كان يحرص على أن يعيش وقتاً ما قبل الكتابة في جو عربي، فيتناول كتاباً من كتب الأدب القديم يقرأ منه فصلاً ما قبل أن يشرع في إملاء مقاله؛ فمن هنا كان أول الطريق إلى مذهبه في القصة. ولكل شيء سبب. وأحسبه لما همَّ أن يكتب عن (المعجزة المالية) في تقاليد الزواج وعن فلسفة المهر، وقد اجتمعت له الفكرة في ذلك، تناول - كعادته - كتاباً من كتب العربية يقرأ فيه ما تيسر، فأنفق له في مطالعته أن يقرأ قصة سعيد بن المسيب والوليد بن عبد الملك وأبي وداعة فرآها أشبه بموضوعه وفيها تمامه، فبدا له أن يؤدي موضوعه هذا الأداء فكانت قصة. وأذكر أنه لما دعاني ليملي عليّ هذه القصة قال لي في لهجة الظافر: (. . . لقد وقعت علي نادرة مدهشة من التاريخ تتحدث عن فلسفة المهر حديثاً لا أعرف أبلغ منه في موضوعه. . .!)؛ فمن ذلك أعتقد أن أول هذا المذهب في القصة كان اتفاقاً غير مقصود، صادف طبيعة خصبة ونفساً شاعرة فكان فناً جديداً
وأكثر قصص الرافعي من بُعد على هذا المذهب. على أن لكل قصة من هذه القصص - أو لأكثرها - أصلاً يستند إليه من رواية في التاريخ أو خبر مهمل في زاوية لا ينتبه له إلا من كان له مثل طبيعة لرافعي الفنية وإحساسه ويقظته؛ على أن أهم ما أعانه على ذلك هو عندي صلته الروحية بهذا الماضي وشعوره بالحياة فيه كأنه من أهله ومن ناسه؛ فإن له بجانب كل حادثة وكل خبر من أخبار ذلك الماضي قلباً ينبض كأن له فيه ذكرى حيةً من ذكرياته تصل بين ماضيه وحاضره، فما يقرؤه تاريخاً كان وانطوت أيامه ولكنه يقرأ صفحة من ماضيه ما يزال يحس فيها إحساس الحيّ بين أهله فما أهون عليه أن يترجمها من لغة التاريخ إلى لغة الأحياء!
وتماماً لهذا البحث سأحرص في فصل قادم على أن أرد كل قصة من قصص الرافعي إلى أصلها من التاريخ وأنسبها إلى راويها الأول، ليكون النموذج واضحاً لمن يريد أن يحتذي ليتمم ما بدأ الرافعي على مذهبه في تجديد الأدب العربي.
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان