مجلة الرسالة/العدد 266/بقية المذهب

مجلة الرسالة/العدد 266/بقية المذهب

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 08 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

في مقالي السابق (قنطار ثمين) قلت رأيي في الجسم الجميل وهو (الجسم الذي لا فضول فيه، والجسم الذي تراه فيخيل إليك إن كل عضو فيه يحمل نفسه، غير محمول على سواه)

ومن الواجب في هذا المقال أن أذكر أن الجسم الجميل غير الجسم اللذيذ وغير الجسم الصحيح وغير الجسم القوي وغير الجسم النافع، لأن الجسم قد يكون نافعاً أو قوياً أو صحيحاً أو لذيذاً، وهو في كل ذلك غير جميل

قيل لبعض الحكماء: إن فلانة كبيرة البطن ضخمة الثدي فقال: (نعم، حتى تدفئ الضجيج وتروي الرضيع). . . فهذا وصف صادق للجسم النافع ولكنه لا يستلزم جمال الجسم الموصوف، كما يقال إن هذا الكساء يدفئ صاحبه و (يعيش) سنوات ولا يستلزم ذلك جماله فيما يكون به جمال الكساء

نعم ويجب أن نذكر للذين يخرجون من (درس الألفية) ليفصلوا في مذاهب الجمال أن المرجع في هذه الآراء لن يكون إلى أعرابي قضى حياته في بادية جرداء وفي جاهلية عمياء، وإنما يكون إلى أناس سلمت لهم محاسن الأذواق ودرسوا فلسفة الجمال وأصلحوا مئات من الأجسام الجميلة وفاقا لعلم الصحة وفن الرياضة البدنية وأساليب التحسين والتقويم المتخذة في معاهد التطرية والتنسيق، واستعانة بأصول التشريح وأصول التلوين والتظليل، وتجارب التاريخ التي عرضت عليهم صنوفاً من الشمائل الإنسانية في كل أمة خلقها الله

لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطء الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:

وظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل

نعوذ بالله!

فإن كان هذا وأشباهه وصفاً لشيء فهو وصف للجسم الشهي أو الجسم اللذيذ، وليس بوصف للجسم الجميل على اعتبار الجمال معنى من المعاني التي تقاس بالإدراك، كما يقاس معنى البيت البليغ، ومعنى الصورة البارعة، ومعنى التمثال المتقن، ومعنى الخ المجرد، ومعنى الحلم البعيد

والرجال في تفضيل الجسم الشهي أو الجسم اللذيذ مذهبان مختلفان:

رجل عنده عادة الاستحسان كعادة التدخين، فهو يألف طرازاً واحداً من (المرأة) كما يألف المدخن لفيفته المعهودة، فلا يغيرها ولو كان الخلاف بينها وبين غيرها كالخلاف بين علامة (الجمل) في التبغ الأمريكي وعلامة (الخلطة السعيدة) وهما من أصل واحد

هذا الرجل إذا استحسن المرأة الطويلة لم تعجبه القصيرة ولو كانت لها ملاحة ونضارة ومتعة وحلاوة

وإذا استحسن السمراء لم تعجبه البيضاء، أو استحسن بنت العشرين لم تعجبه بنت الثلاثين، أو استحسن المصرية لم تعجبه الإنجليزية أو الروسية، وهما معجبتان

هذا مذهب

والمذهب الآخر مذهب رجل يستحسن النساء كما يستحسن الفاكهة، أو كما يستحسن صحاف الطعام، والمعول على صناعة الطاهي وغواية الأوان!

فالتفاح مقبول، والبرقوق كذلك مقبول، والتين لا يرفض، والجميز لا يعاف، والشواء مستطاب، والسمك المملح له وقت يجوز اشتهاؤه فيه

ومن المعقول أن يشتهي أعرابي من الأعراب امرأة سمينة موفورة الشحم واللحم قليلة الحركة نؤوم الضحى كما يقولون، فإنما عاش الأعراب في صحراء يسوّمون فيها الناقة بمقدار ما عليها من لحوم وشحوم، ويكبرون فيها الأغنياء بمقدار ما يأكلون من سمن ولبن ودهون، ويقال فيها إن فلاناً يملأ جوف امرأته بما يسمنها ويقعدها عن الحركة فيحسبون ذلك غاية العزة والفخار، وذروة النعمة واليسار

أما نحن في عصرنا هذا الذي تتحرك فيه المرأة لتلعب في ميدان الكرة والصولجان إن لم تتحرك لتخدم نفسها وذويها في بيتها، والذي تعددت فيه مظاهر الغنى فلا يحسب فيه امتلاء الجوف بالطعام عنوان وفر وثراء، ولا تحسب فيه الناقة ولا ألبانها (وحدة المعاملة) في الأسواق. . .

أما نحن في هذا العصر فما حاجتنا إلى اقتداء بذلك الأعرابي فيما استملح واستطاب، وما لنا ولغيلانه وعذاراه، أصلحه الله وأشبعه ورواه! وما بالنا نقتدي به ولا نقتدي بإخوانه الذين عرفوا ملاحة الهيف والرشاقة وتجملوا تارة بجمال الفطرة، وتارة أخرى بجمال الحضارة؟

أذكر أنني نظمت قصيدة في شتاء أسوان يوم كانت تزدحم بالوافدين والوافدات من آفاق المغرب والمشرق، فشببت فيها بالعين الزرقاء والشعر الأصفر والوجه الأزهر. . . فعابها ناقدون يقرءون الألفية ويحكمون على الآداب والفنون ومذاهب الجمال، وقالوا: يا رعاك الله! متى كان الشعر الأصفر مما يستملح في القصائد العربية؟ ومتى كانت زرقة العينين مما يحمد فيه الغزل والتشبيه؟

وكنت أقول لهم يومئذ: إني إن زعمت أن حسان أوربا سود العيون والشعور كذبت على الحقيقة

وإن زعمت أنهن زرق العيون مذهبات الشعور ولكنهن دميمات مجتويات كذبت على نفسي وعلى الله. . . فكيف تريدوني أن أقول؟

صفعة على القفا، علمت الآن، أجدى في مناقضة أولئك (الآدميين) من كل ذلك النقاش والحوار

قال ابن أبي ربيعة:

ولما تفاوضنا الحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا

وقال المثل المصري: (من أعجبه جسمه عرَّاه، ومن أعجبه صوته علاَّه)

ورأينا نحن مصداق هذا وذاك على شاطئ الإسكندرية، ولا نزال نراه في كل معرض جمال

فهنا لا تلبس المرأة شيئاً ولا تخلع شيئاً إلا لتبدي حسناً وتستر عيباً، وهنا بحر زاخر لمن ينظرون على مذهب التدخين، ومن ينظرون على مذهب الفاكهة والطعام، ومن ينظرون على مذهب الجسم الجميل كما بيناه، رفيعاً جداً فوق مذهب المدخنين ومذهب الآكلين، ورفيعاً جداً فوق مذهب الجسم النافع والجسم اللذيذ.

عباس محمود العقاد