مجلة الرسالة/العدد 267/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 267/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1938



هكذا أغني

ديوان الأستاذ محمود حسن إسماعيل

للأديب عباس حسان خضر

يقول شاعرنا:

إن تسل في الشعر عني ... هكذا كنت أغني

ونحن نسأل عنه في الشعر، فلننظر كيف يغني. . .

هو يغني بشعره، صادراً عن طبيعة خصبة، مترجماً عن نفس زاخرة بعناصر الشاعرية من إحساس مرهف، وعاطفة مضطربة، وعقل (فني) يدرك به الجوانب الفنية للأشياء، يتملك كل هذه خيال طامح متوثب. وهو عندما يشحذ هذه العُدة يمضي متدفقاً مندفعاً عنيفاً، وفي كثير من الأحيان يتبع هذا التدفق والعنف عدم اكتراث بسلامة الذوق، واعتساف في الفكر وفي التعبير - كما نبين فيما يأتي - معتمداً في ذلك على قوة طبيعته ونشاط خياله، غير متقيد ولا محترس، فهو يعول على الهبة الفطرية أكثر مما يعول على المهارة الاكتسابية

ويمتاز شعر هذا الديوان بشيء لعلي موفق إذ أسميه (الروعة) وهو ذلك الذي يستغرق المشاعر ويروع العواطف ويأخذ بالذهن إلى عوالم متنائية الأطراف، ولعل مبعثه بُعد المدى في الخيال، والإيغال في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض، ومن ذلك كثرة ترديده لذكر الرهبان والقسس والأديرة وانتزاع الصور من محيطها الغامض. ومما تتجلى فيه تلك الروعة قصيدة (دمعة في قلب الليل) وقد أبدع في وصف الدموع في هدأة الليل، وأفتن في تصوير المعاني افتتاناً. قال يخاطب الليل:

خلني للدموع وحدي أناجي ... ها في العزلة السوداء

أنا من كأسها شربت صبيًّا ... خمرة سلست من البأساء

عصرت من مطارف الألم الدا ... وي بقلبي وعتقت في دمائي

تخِذتْ جامها المحاجر والسا ... قي همًّا يؤج في أحشائي هي أشهى إلى عيوني من النو ... ر، وأبهى من لمحة الأنداء

هات يا ليل قطرها فهي حيرى ... كتمت برحها من الكبرياء

فأنظر كيف يصور الدموع خمراً عصرت من قلبه موطن آلامه ثم اتخذت لها مسرى دمائه دناناً تعتق فيها، ثم صبت في كؤوس من محاجر العيون، يقوم على سقيها ساق من الهم يضطرب في الأحشاء. . . ثم انظر كيف يستقطرها الليل لتترقرق مستورة حيرى في عزلة الليل وقد برح بها الكتمان لأن الكبرياء أبت عليها الظهور في وضح النهار. وإن كان قد شاب هذه الصورة بفساد في بعض التصوير، فقد قال (عصرت من مطارف الألم) فجعلنا نتمثل امرأة حاسرة عن ذراعيها أمام طست الغسيل تعصر تلك المطارف والأثواب. . .

وهاك مزهراً تتكون أوتاره من الأهداب وتحدث أنغامه من رنين البكاء:

همسها في الجفون أصداء ناي ... بلعت شدوه رياح المساء

مزهر للعيون أوتاره الهد ... ب. . . وأنغامه رنين البكاء

يستعذب الشاعر دموعه ويطرب من ذرفها فيصورها في الجفون هذا التصوير الرائع. . . كصدى الناي البعيد تستهلك شدوه الرياح فلا يصل إلى السمع منه إلا كالهمس. . . هذه - من غير شك - دموع شاعر يتغنى على تسكابها فيبدع ويطرب

وهناك في ذلك الظلام السائد يرزح تحت أثقال الليل كوخ:

رجفت شمعة بجنيه تهفو ... في دجاه كالمقلة العمشاء

خنق الليل نورها خنقة البؤ ... س لأرواح أهلها التعساء

إنك لتشعر بالروعة حيال هذا المنظر: كوخ يعاني ضوء شمعته الخافت من الظلام ما يعاني أهله من البؤس

وأبرز شيء في شعر شاعرنا اللمعة الذهنية المتألقة حتى أنه ليُذهل بها عن كثير مما لم يمسه التنقيح والتهذيب، فهو بذلك يختلف عن شعراء يعاودون كلامهم بالصقل ويتناولونه بالتشذيب فيخرج سليماً مثقفاً، ومع ذلك ليس فيه من المفاجآت الشعرية ما يملك الحواس ويؤثر في العواطف

وقصيدة (ثورة الإسلام في بدر) تدل على اقتدار الشاعر على استيحاء الحوادث أروع معاني الحياة وانتزاع المغزى الفني من الوقائع المادية، فهو يتعرض لمواقف غزوة بدر تعرض شاعر يزجي الحقائق ملونة بخواطره، ويبرز ما يرمي إليه في أبرع الصور حتى لقد جاءت هذه القصيدة ملحمة صغيرة رائعة. استمع إليه ينطق الأصنام بالحديث عن الإسلام:

سجد (اللاتُ) مؤمناً! وجثا (العز ... ى) يناجي (مناة) يا صاح أبشر!

هلْ في ساحنا وميض من النو ... ر غريب التلماح، خافي التصور

ذره أرعد الصفا! وأحال الص ... خور روحاً يكاد في الرمل يخطر

لا من الشمس فيضه فلكم شع ... ت علينا فلم ترع أو تبهر

لا من النجم لمحه. . فلكم لا ... ح كئيب الضياء وهنان أصفر

قد نسخنا به! ومن غابر الده ... ر نسخنا البلى ولم نتغير

ألهونا. . وعفروا - وهم الصي ... د - علاهم على ثرانا المعفر

سر بنا يا (مناة) نخشع جلالا ... لسنا النور. . . عله اليوم يغفر

عجباً! خرت المحاريب والأص ... نام دكا. . والعبد ما زال يكفر!

وشاعرنا فنان يصرف الكلام تصريف اللبق، يقول في جلالة الملك:

سجدات وجه مشرق نضح التقى ... في كل ما لمحت به سيماؤه

لو راءه عاتي المجوس تخشعت ... للنار من غي النهى أعضاؤه

لانحاز في ركب النبي، وناره ... نور تدفق في الصلاة ضياؤه

استطاع - بمهارة في التعبير - أن يحول المجوسي من غيه في عبادة النار إلى الإعجاب بنور الهدى

تلك بعض خصائص الشعر في ديوان (هكذا أغني) وذلك بعض ما تغنى به فأطرب. . . وقد ألمعنا إلى مآخذ فيه (وهي النشاز) يقتضينا الإنصاف أن نسوق من الدلائل عليها:

يقول في قصيدة (يوم التاج) يصف مغنياً في حفلة عابدين الساهرة:

وقف المغني في حماك مجلجلا ... باللحن تخفق في الورى أصداؤه

فيه من الأقدار وهلة غيبها ... خبأته عن لمع الحجا أطواؤه

ومن الكتائب أرزمت أسلاتها ... صخب يزمجر بالفتوح نداؤه ومن المواكب هولها في فيلق ... نشوان في يوم الفخار لواؤه

فأي مغن هذا المجلجل الذي اجتمعت فيه وهلة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! إن هذه الصفات المروعة لا تصطلح على مغن ولو كان من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة. . .

يقول في قصيدة (الذهول)

أم بلبل تحت ظلال النخيل ... أسكره الصدح

فنام. . . واستلقى عليه الأصيل ... والظل والدوح!

فإذا تصورنا استلقاء الأصيل أو الظل على البلبل بمعنى وقوع الظلال عليه، فكيف تستلقي الدوح على ذلك المسكين دون أن يرديه هذا المزاح الثقيل. . .؟

ويقول في هذه القصيدة:

الوجه ساج كصلاة الغدير ... . . . . . . بين الطيور

فكيف يصلي الغدير بين الطيور؟ لعله يريد (صلاة) الطيور على الغدير بحسوها منه، فقلب التعبير، كما فعل في مطلع قصيدة (عارية ستانلي باي) إذ قال:

من علم البحر لجاج الهوى ... وأترع الحب بشطآنه

فما أرى للشطر الثاني معنى مستقيماً إلا على (القلب) كأنه يريد: وأترع شطآنه بالحب، وإلا فما معنى أن الحب ملئ بشطآن البحر؟ ليس هذا إلا كخرق الثوب للمسمار!

يقول في قصيدة: (دمعة في قلب الليل)

لامَني في هواه خال من اله ... م بليد الفؤاد جمُّ الغباء

ردَّ عني يا ليل دعواه. . . إني ... كدت من لومه أحطم نائي

وهو - بطبيعة المعنى - يقصد من (نائي) الناي، ولكن القافية الهمزية العصّية جنت على الناي فهمزته ولمزته. . . ولست أدري لماذا لم ينتفع الشاعر بهذه الكلمة (ناء) التي اخترعها - في تصريع قصيدة (يوم التاج) إذ قال في المطلع:

شاديك من قصب الفرادس نايه ... ومن السنا والطيب علَّ غناؤه

ولم يقل (ناؤه) بدل (نايه)؟ لعله لم يرد استغلال الاختراع كثيراً، فاقتصر على حاجة القافية الماسة، أما التصريع فأمر فواته أهون. .

يقول في قصيدة (من لهيب الحرمان):

رب ومض من لحظ عينيك ساج ... فجر الوحي من سنا لمحاتك

ومض لحظ العينين هو سنا اللمحات، فكيف يفجر ومض لحظ العينيين الوحي من ومض لحظ العينين؟

يقول في قصيدة (الذهول) السالفة، ويظهر أن الشاعر قالها في ذهول:

وذاع من جفنيك فيها عبير ... . . . . . . دام حسير

إذا أكرهنا المجاز على تقبل ذيوع العبير من الجفنين، فأي ذوق يسيغ وصف العبير بأنه دام. . .؟

تقدم في أبيات من قصيدة (دمعة في قلب الليل) قوله:

عصرت من مطارف الألم الدا ... وي بقلبي وعتقت في دمائي

والمقصود هنا كلمة (الداوي) فهي من الأغلاط الشائعة لأن الفعل الموجود لهذا المعنى (دوَّى) بالتشديد وليس هناك (دوي) ثلاثياً حتى يجئ منه (الداوي)

الشاعر مغرم بكلمات يرددها كثيراً مثل الغناء واللحن والناي وما إليها، حتى أنه في قصيدة واحدة هي قصيدة: (هكذا أغني) أطال استخدام مادة واحدة هي: (غنى يغني) وصاغ منها ثماني قواف. . .

وبعد فإن ديوان: (هكذا أغني) زاخر بالشعر النابض بالشباب، يتمثل فيه جلال التخيل، وقوة العاطفة، وتألق الشاعرية، والقدرة على استخدام تعابير حية؛ والواقع الغريب أن استشراء الصفات الثلاث الأولى يؤدي بالشاعر إلى الاندفاع الجارف. والأستاذ محمود حسن إسماعيل لا ينقصه - ليكون في شعراء الذروة - إلا أن يعاود ما ينشده بالصقل والإصلاح

عباس حسان خضر