مجلة الرسالة/العدد 267/حرمة البيان

مجلة الرسالة/العدد 267/حرمة البيان

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1938



للأستاذ عبد المنعم خلاف

لو كان الأدباء (إلهيين) يقدمون لله الأزهار التي يقطفونها بأقلامهم من حديقته قبل أن يقدموها للناس، لحسبوا للحق والشرف والجمال الأصيل أكبر حساب، ولاستحيوا أن يقدموا لعين الله الناقدة العالمة كلاماً باطلاً أو دنيئاً أو زائفاً. . . ولكن كثيراً منهم رضوا بأن يكونوا (وثنيين) ينحتون من الألفاظ أصناماً يزوقونها ويصرفون الإنسانية بها عن وجه الله في بعض الأحيان. . .!

فهم يقدمون أزهارهم للأعين الكليلة البليدة مُغْفلين (الفنان الأعظم!) الذي يجب أن يرفع إليه كل عمل جميل شريف حتى يوقع عليه بطابعه. . .

ما هو الجمال؟ ما هو الحق؟ ما هو الشرف؟ لولا الله. . .

كل المعايير والموازين ساقطة باطلة مبلبلة إذا لم تكن في يده هو!

كل الصدق كذب. . . وكل الخير شر. . . وكل الحق باطل إذا لم يقله لنا هو!

ما الفرق بين صانع الكلام وصانع الأحذية إذا كان مدار الكلام هو الخبز. . . أو إرضاء جمهور الحرفاء أو الشهرة الجائعة التي لا تشبع أبداً؟

إني أقرأ بعض صحف الكلام فأشعر أنها من حقارتها وذلتها كالنعل. . . وكالنعل البادية القذرة لكثرة ما فيها من خروق عقل صاحبها أو خروق خلقه. . .

إن حاسة البيان جانب مقدس لأنها خاصة الإنسان المترجم عن الإلهية، فيجب أن يكون فيها ذلك السيال الخفي في الأصوات أو في السطور

وإن في حديقة الله أعاجيب وتهاويل وحقائق كبيرة لا يسمح إلا للأقلام النظيفة بالقرب منها ورصدها وتقريبها لذوي النظر القاصر من الإنسانية المادية العاملة التي ليس لها وقت للوقوف عند كل شيء ومحادثته وأخذه في النفس بالتأمل والدرس

إن في الأدب صوفية وكذلك في الفن على العموم، والصوفية نظافة وإدراك مرهف ودوران حول النفس والطبيعة وحساب دقيق للنسب بين الموجودات ثم نظرة دائمة إلى الفنان الأعظم!

فمتى يدرك الأدباء أن هذا أساس البيان وأن مقاييس الشرف الأدبي تسقط الأدب الكاذب أو الداعر أو الزائف أو الجاهل بهذه الحقائق ولو ساقوا ألف دليل ودليل على أن مهمة الأدب تسجيل كل ما في الحياة ولو كان فحشاً أو نكراً؟

إني أنزه حرمة البيان أن أسخره في شيء تافه أو دنس حتى لا أصرف عنه عيون عشاق الحكمة الشرفاء الذين إليهم وحدهم يجب أن يرفع الكلام ويوجه الأثر الفني. . . وحتى لا أقذي به عيون النساء والناشئين الذين يجب أن نصونهم عن القبح والزيف؛ والطفولة والشباب هما موضع آمال الإصلاح وقوالب المثل العليا التي فاتنا أن نحققها في أشخاصنا، والنساء هن مستودع تلك القوالب. . .

أنا أريد وأتمنى أن يكون الأدب واحة في صحراء الحياة المادية بجانب واحة الدين، لتفر إليها النفس المتهالكة المختنقة من ضجة الآلات ومادية العيش والارتفاق. وإن في الأدب صوراً تلمس فيها ذكاء وعبقرية صنع، ولكنها لا تحرك في نفسك ذلك الإحساس العميق بالحياة، ولا تثير في قلبك ذلك الدم النادر الذي لا يثور إلا في عبادة خالصة أو في فرح مقدس أو ألم مقدس. وهنالك أدب يشعرك بذلك المعنى السامي الذي يؤكد لك الإحساس به أنك أعظم من جسدك الحيواني. . . وأنك أوسع من تلك الكتلة اللحمية المحدودة. . . وأنك أخف من ذلك الجرم الترابي الكثيف المربوط بالأرض. . . وأنك باستمرار محوط بأسرار وقوى تخاطبك وتجاذبك. . . ولكنك لا تسمع ولا تحس إلا إذا فتحت سمعك كلمة منبهة من قلم نظيف حساس. . .

جوهر النفس والطبيعة ينبغي أن يكون هو وحده مطلوب الفنان، أما القشور فلا يطلبها فنان ذو افتتان بالحقائق الكبيرة التي تتطلب من راصدها عشقاً لها وحدها وأمانة لقوانينها وفضائلها.

هنالك أدب كموسيقى (الجازبند) يثير في النفس أطيش ما فيها وأخفه وأحمقه، ولا يدخل عليها محصولاً من شعور نبيل أو فكرة كريمة، ولا يلفتها إلى شيء مخبوء، ولا يفتح لها باباً مغلقاً. . . هو تماماً كتلك الموسيقى المجنونة البربرية التي تحمل على طيش الجسد ورقصه وضجة شهواته وحماقاته. قد يكون فيه براعة لفظية وخفة يد أو لسان. . . ولكنها كبراعة (الحاوي) وخفته. . . ولا تحملك على اعتقاد بأن صاحبها خالق أو جاد يقصد لباب الحياة. . .

ومنذ أن قال امرؤ القيس أقواله الفاحشة في المرأة، ونظم الفرزدق وجرير الشتائم والسباب، وقال أبو نواس وبشار وأضرابهما في معاني الشذوذ والضعف الخلقي، وامتلأ العصر العباسي الثاني بالتفنن في تسجيل الصور الدنيئة من حياة الإنسان كما يتمثل في يتيمة الدهر (قاموس الأدب الداعر الوقح!) - منذ ذلك كله تحول ذوو الطبائع الجادة وعشاق الحكمة والمشغولون بالحق والجمال الأصيل إلى وجهات أخرى في الحياة غير وجهة الأدب والاشتغال بمحصوله

لماذا يتكلم الناس؟ أللإبانة عما في نفوسهم؟ أم لإخفاء ما فيها كما يقول (تاليران) الخطيب الفرنسي المشهور؟

أنا مع تاليران كما دلتني مواقف كثيرة كنت أقرأ فيها على الوجوه وأشعة العيون غير ما يقول اللسان. . . وقد قرر عمر بن الخطاب أن مع التفاصح النفاق حين حبس الأحنف بن قيس مدة لما رأى من فصاحته ولَسنه فخشي أن يكون وراءهما نفاق، ثم تبين له شذوذ القاعدة في الأحنف فأطلقه. وقد دلتني على ذلك أيضاً ألاعيب صناع الكلام والمفتونين فيه الذين يكفرون بالحق لأجل كلمة، ويغيرون معايير الطبيعة لأجل قافية، ويخسرون صداقة الفضيلة لأجل سجعة أو نكتة!

ولو كنت ذا وصاية عامة على تهذيب الناشئين لكانت مهمتي تتلخص في تربيتهم على الاقتصاد في الكلام ما وسع الصمت وعلى التفكير فيه وحديث النفس به قبل إعلانه على تلك الآلة الصغيرة الخطرة: اللسان أو القلم!

التفكير التفكير، وارتياد طريق الكلمة قبل تسجيلها بالصوت أو المداد، وبعث الكشافة من شعور النفس وفروض السامعين أو القارئين، والإتيان بجديد إن كان المقصود بالبيان هو (الأثر الفني) وترك الآثار مدة حتى تختمر وترجع النفس وافرة وتقر الأخلاط الثائرة وتذهب فتنة ابتداء القول والإعجاب به كما يقول الجاحظ، وكما أشار العماد الأصفهاني إلى طبيعة الإحساس بالنقص في الأثر البياني من صانعه بعد مرور حين من الزمان. . .

لا يعني الشاعر المتأمل أن يتكلم بقدر ما يعنيه أن يتأمل! وإن لذة الخلوص إلى النفس، والشعر النفسي الذي ترسله الروح بحوراً لا قيود لها ولا تكلف ولا كذب ولا ألفاظ بها قراءة آثار الغير وقراءة الدنيا بدل الإملاء عليها. . . ليست أقل من لذة الكلام وإظهار ما في النفس، إن لم تفقها بأضعاف! بل إن الثانية يصحبها ألم تقييد المطلق وتحديد اللانهائي وتضييق الواسع وضغط المعاني في قوالبها وطمس جمالها بالألفاظ العجزة

وأنا شخصياً لا أجد في نفسي نشوة حين أقول بقدر النشوة التي أجدها حين أفهم ما يقال من الآثار الجميلة

والإلحاح في طلب الشهرة من طريق تتابع الآثار الأدبية الخفيفة الوزن والمحصول هو عيب أكثر أدباء الشباب. فلو عرف كل أديب أن لا عليه أن يصمت حيث لا جديد عنده يضيف إلى ميراث الأدب سطراً قيماً، لاستراح هو من النقد واستراح القارئ من تكرير المعاد المكرور (ومت بداء الصمت خير لك من داء الكلام)

والإلحاح في طلب الشهرة ينبئ عن (مركب نقص) دخيل يحسه صاحبه ويريد أن يغطيه عند نفسه أولا وعند الناس ثانيا. وما يعظم العظيم حتى يتوارى عن أعين الناقصين إشفاقا عليهم من آلام الحسد والفقد. وإذا اكتملت معاني الثقة والعظمة في نفس عاشت منها في ضجة يخيل إليها معها أن بصيرة الناس تحسها وآذان القلوب تسمعها، فلا حاجة بها بعد ذلك إلى إعلان أو إلحاح ولجاجة.

وكم يحملني شخص لم يكتب إلا كلمة أو لم يخطب إلا مرة واحدة على احترامه وتقدير ما عنده لأني عرفت نفسه وجوهر فكره وقلبه.

وكم يحملني آخر من (محترفي صناعة الكلام) على احتقاره وازدراء ما عنده ولو غطى نفسه بألف رداء من التظرف أو التوقر أو البراعة في اللعب بالألفاظ. . . جوهر النفس أشع وأوضح من أن يخفى. . فليعرف ذلك الخادعون للناس والمخدوعون في أنفسهم المغرورون بالألفاظ، السيئو الظن بعقول الناس وذاكرتهم وتأويل صمتهم. . .

ألاعبون بالألفاظ أيها الأدباء. . . أم مؤمنون بالخير والجمال الأصيل؟

أأرضيون أنتم تترجمون عن حياة حيوانية. . . أم متعلقون بما فوق. . .؟

أأذكياء أنتم تعرضون فصاحتكم وشقشقتكم واختلاج ألسنتكم وأقلامكم. . . أم لكم قلوب تشيرون بها وحدها إلى الحقائق الكبيرة في الحياة؟

أمصرون على التلهي بالأصداف والقواقع والقشور. . . أم ساعون جاهدون إلى إدراك الجوهر واللب؟ أأوابد مفرقة متهاترة. . . أم جنود في كتيبة واحدة لغاية واحدة؟ إنكم بالأوضاع الأولى محترفون للتعيش والكسب. . . وبالأوضاع الأخرى أصحاب رسالة. . . إنكم بالأولى ترضون أن تبيعوا أقلامكم وتعيشوا من غير عقيدة وهدف وتؤجروا كما تؤجر النوادب أو القيان للوقوف في المآتم والأعراس بدون قلوب ولا دموع ولا ابتسام ولا ابتهاج. . .

وإنكم بالأخرى تفرضون صحتكم على أمراض العقول وتصحيحكم على أغلاط الناس وتسيرون في الناس كالراعي في القطيع وكالآباء في الأسرة. . .

يا لضيعة الإنسانية إذا ما سخرت جهالتها علومَها وآثامها فضائلها وأمراضها سلامتَها! يا لضيعة الرءوس إذا ما تحكمت فيها الأقدام والأيدي والمعدات!

غفرانك يا قلم! وصفحاً عن جريرة الذين يحملونك ولا يدرون مجدك وملكوتك!

هم لا يدرون أين يغمسونك. . . فهم يغمسونك في الأوحال والأدناس ويقدمون على طرفك للناس بعراً. . . وهم يتوهمونه زهراً. . . من تدليس معاطسهم وكيد أنوفهم وانتكاس طبائعهم

إن بعض الكتاب لا يغمسونك إلا في دماء قلوبهم ولا يصدرون بك إلا عن وحي الحق والواجب والمجد والجمال الأصيل فهم لا يكتبوا ليملؤا صحائف بمداد أسود وكفى. . . فعل الذين يعلنون به عن أنفسهم التي تحس الحقارة وتغطيها بالشهرة وتريد أن تقول حتى للحمير والكلاب والأحجار: هأنذا. هأنذا أديب كبير أيتها الأحجار والحمير! ولكنهم يكتبون فاهمين حرمة القلم الذي أقسم به الإله. . . وفاهمين أنه هو الذي غير تاريخ البشرية وجعلها تسير نحو مجدها وتسجل خطواتها، فليس لأحد أن يستعمله إلا في مطالب الشرف

ولو درى بعض الأدباء أي جناية يجنونها على الخلق والشرف والجمال في نفوس الشباب لحطموا أقلامهم واستبدلوا بها الفئوس أو المكانس. . . فان استعمال الفأس أو المكنسة معنى سامياً في خدمة الإنسانية من وجوه. . .

إن بعض الأدباء أفلسوا في أن يقدموا للإنسانية معنى يرفعها أو شعاعاً يهديها. . . فماذا يفعلون ليشتهروا؟ لا شيء إلا أن يقدموا لها معنى يخفضها. . . على مذهب القائل:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ... يرجى الفتى إذ ما يضر وينفع

وشهد الله أننا ما نكتب لشهوة الكلام، ولا لرؤية الصحف المسودة. . . ولا ليقال عنا إننا كذا وكذا. . . وإنما نكتب حين نشعر أن دمنا يسير إلى أقلامنا ويرعش بنائنا فترسم به صوراً. . .!

ليس بنا فتنة الحديث إلى أحد. . . وإنما نتحدث إلى أشياء أخرى لا يراها الناس. . . نتحدث إلى طبقة (أرستقراطية) مخبوءة مضنون بها على أكثر العيون والأسماع. . . نقول لها وتقول لنا، ونلازمها وتلازمنا متفاهمين ليس بيننا غل ولا شحناء. ترينا من عجائبها وتلبسنا مما عندها مناظير وأثواباً. . . وتضيء لنا بمصابيح. . . وتعرفنا إلى جهات مجهولة، وتقذف بنا إلى كل ناء بعيد. . . وتقول للدنيا المستورة: هذا قارع لبابك طويلاً فافتحي له وخذيه. . . .

وأعود فأكرر: إن في حديقة الله أعاجيب وتهاويل وحقائق كثيرة لا تنالها ألا الأقلام النظيفة

وإن في الأدب الحق صوفية تحتم إدامة النظر إلى (الفنان الأعظم) الذي (إليه يصعد الكلم الطيب)

(القاهرة)

عبد المنعم خلاف