مجلة الرسالة/العدد 267/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 267/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 35 -

مقالاته للرسالة (6)

كانت خير أوقات الكتابة عند الرافعي في المساء حين يعتدل الجو، وتسكن الحركة، وتخف المعدة؛ إذ كان عمله في المحكمة يملأ بياض نهاره. فلما كان رمضان سنة 1353 (1934 الميلادية) سألني: (كيف نصنع يا شيخ سعيد في هذا الشهر وأيّ أوقاته نجعلها للكتابة؟) قلت: (فأنظر فيما تراه خيراً لك ولست أرى ما يمنع أن تستمر على عادتك فتجعل مجلسك للكتابة بعد العشاء) قال: (لا سبيل إلى ذلك والمعدة مثقلة بعد خلاء، ولكني سأحاول أن أكتب في العصر، فأنه حيثما ما امتلأت المعدة ثقل الرأس، فلعل فراغها في النهار أن يشحذ الذهن ويصقل الفكر).

وحاول أن يكون ذلك فلم يقدر عليه، ومضى يوم ويوم ويوم وانتهى الأسبوع الأول من رمضان ولم يكتب شيئاً للرسالة، واستحيا أن يعتذر، فلم طائفة من (فتات المكتب) وجعلها الجزء الثاني من (كلمة وكليمة) وبعث بها

في هذه الكلمات المنشورة بالعدد 76 كلمات عن السياسة تفسرها الحالة السياسية في مصر في أوائل عهد وزارة المغفور له نسيم باشا، وفيها حديث عن الزكاة والصوم، وفيها كلمات عن الزواج والمرأة، وفيها رسائل إلى (فلانة)!

ثم كانت مقالة الأسبوع التالي هي قصة (سمو الحب)

أشياء ثلاثة أملت عليه موضوع هذه القصة: رمضان، وكتاب الأغاني لأبي الفرج، وما يسمع من أحاديث الشبان عن الحب.

أما رمضان فسما بروحه وأمده بما في القصة من المعاني الدينية التي حكاها على لسان مفتي مكة وإمامها (عطاء بن أبي رباح) والرجل الزاهد (عبد الرحمن القس بن عبد الله بن أبي عمار)

وأما كتاب الأغاني فأعطاه صلب القصة وأساس البناء في سطور يرويها من خبر (سلاّمة المغنية) جارية يزيد بن عبد الملك، وقد وقع الرافعي على هذا الخبر اتفاقاً في إحدى مطالعاته في كتاب الأغاني

وأما أحاديث الشبان فحفزته إلى إنشاء هذا الفصل ليضربه مثلا لسمو الحب يصحح رأي الناس في الحب ويكون منه لشباب الجيل درس وموعظة

في هذا الفصل يجد كل سائل جوابه إن كان يعنيه أن يعرف كيف يجتمع الدين والمروءة والحب في قلب رجل كالرافعي يعرفه الناس فيما يكتب شيخاً من شيوخ الدين فيه تحرج وخشية، ويعرفه من يعرفه من أصحاب مجنونَ لَيْلَياتٍ وقيسَ لُبنَيات!

. . . ولكي ينتفع الرافعي بوقته في رمضان كان يتخفف من طعام الفطور، ثم يجلس مجلسه بعد العشاء للإملاء؛ فإذا فرغ من الكتابة أو الإملاء تناول السَحور، فيعوِّض فيه بعض ما فاته من فطوره ثم ينام!

على أنه لم يجد راحته في هذا النظام أيضاً؛ فلما كان الأسبوع الثالث لم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فعاد إلى أوراقه القديمة يبحث بينها عن شيء يصلح للنشر ليستريح أسبوعاً من العمل، فوقع على ورقات من مجلة المقتطف في سنة 1905 كان قد نشر بها قصته الأولى: (الدرس الأول في علبة الكبريت)، فعاد إلى قراءتها، فلما فرغ من القراءة التفت إلي قائلا: (هذه قصة ينقصها السطر الأخير) قلت: (وماذا يكون هذا السطر؟). قال: (اسمع: هذا غلام سرق علبة كبريت منذ ثلاثين سنة فحوكم بها وحكم عليه. . .) قلت: (نعم!). قال: (فما تظن هذا الغلام الآن بعد هذه الثلاثين؟) قلت: أراه الآن رجلاَ يفلح الأرض أو يعمل بالفأس في حجارة أبي زعبل!)

قال: (هذه الأخيرة أمثل به؛ لقد تلقى الدرس الأول في علبة كبريت فقاده إلى الحبس، فهل تراه بعد هذه الثلاثين إلا قد أتم دروسه ووقف على عتبة المشنقة. . .؟ أكتب. . . أكتب)

وأملى على مقالة (السطر الأخير من القصة)

لم يغير الرافعي هذه المقالة عن أصلها فيما عدا الخاتمة وعبارات قليلة؛ وزاد عليها شيئاً من المحاورة بين الغلام وقاضيه؛ وما كان حرصه على بقائها كذلك إعجاباً بها، ولكن كأنما ردته هذه المقالة إلى شيء من ماضيه تروَّح فيه من روح الصَّبي والشباب؛ فمن ذلك كان إبقاؤه عليها ليبقى فيها روح الصَّبي والشباب!

وفي الأسبوع التالي - وهو الأسبوع الأخير من رمضان - أملي على قصة (الله أكبر)

وهي بسبيل مما سمع من أحاديث الشبان عن الحب، وهي رُقية ثانية من رُقى الحب الداعر: كانت الرُقية الأولى هي كلمة (برهان ربه) في قصة سموّ الحب، وكانت الرقية هنا هي كلمة (الله أكبر)

وأول الأمر في هذه المقالة أنني كنت جالساً إلى الرافعي في القهوة نتحدث في شأن ما، وساقنا الحديث مساقه إلى بعض شئون العيد، ولم يكن بيننا وبين عيد الفطر إلا أيام، وقال الرافعي: (. . . وأنا لو ارتدّ إليّ السمع لن يطربني شيء من النشيد ما كان يطربني في صدر أيامي نشيد الناس في المساجد صبيحة يوم العيد: الله أكبر الله أكبر! يعج بها المسجد ويضج الناس. . . ليت شعري هل يسمع الناس هذا التكبير إلا كما يسمعون الكلام! الله أكبر! أما إنه لو عقل معناها كل من قالها أو سمع بها لاستقامت الحياة على وجهها ولم يضل أحد!)

ومضى يتحدث عن روح المسجد وفلسفة التكبير عند الأذان وفي كل صلاة، فما فرغ من الحديث حتى طرقنا زائر من روَّاد القهوة فحيا وجلس. . . وتنقل الحديث بيننا من فن إلى فن إلى فنون. . .

وتهيأ موضوع القصة في فكر الرافعي، فلما دعاني ليمليها عليّ لم يجد في نفسه إقبالاً على العمل، فوقف في الإملاء عند منتصف المقالة ونسأ البقية إلى غد، ثم كان تمامها

وفي صبيحة يوم العيد ذهب على عادته إلى المقبرة لزيارة أبويه وقد كان في الرافعي حرص شديد على ذكرى أبويه؛ فهما معه في كل حديث يتحدث به عن نفسه، وزيارة قبرهما فرض عليه كلما تهيأت له الفرصة؛ وما إيثاره الإقامة في طنطا على ضيقها به وجهلها مقداره إلا ليكون قريباً من قبر أبيه وأنه. وقد نقلته وزارة الحقانية مرة نقلة قريبة، فتمرد على أمر الوزارة وأبى الانتقال وانقطع عن العمل في وظيفته قرابة شهرين حتى ألغت الوزارة هذا النقل، وكانت كل حجته عند وزارة الحقانية في إيثار طنطا: أن فيها قبر أبيه وأمه!. . . وقد مات ودفن إلى جانب أبيه وأمه، فلعله الآن سعيد بقربهما في جوار الله ولعلهما به

. . . ولما عاد من زيارة المقبرة أملى عليّ مقالة (وحي القبور!)

ثم عاد إلى موضوع الزواج يتناوله من بعض أطرافه، فأنشأ قصة (بنته الصغيرة) وهي الثالثة مما نحل أئمة الصدر الأول من القصص؛ تحدث في (قصة زواج) عن سعيد بن المسيب، وتحدث في (سمو الحب) عن عطاء بن أبي رباح، وتحدث هنا عن مالك بن دينار والحسن البصري

في هذه القصة يتناول الرافعي موضوع الزواج على النحو الذي تناوله به في قصة (رؤيا في السماء) على أنه باب إلى السمو بالإنسانية، وفيها إلى ما فيها من الدعوة إلى الزواج وبر البنات شيء من الأدب الديني يضمها إلى سابقاتها

ثم نشر بعد هذه القصة الجزء الثالث من (كلمة وكليمة) - العدد 84 سنة 1935 - وفيها كلمات عن السياسة وحديث عن المرأة، ونظرات في أخلاق بعض الناس أوحى إليه بمعانيه قضية كانت له في المحكمة شغله أمرها وقتاً ما. وقصة ذلك أن الرافعي كان اشترى قطعة أرض للبناء في شمال المدينة ونقد البائع ثمنها وجعل لها حدوداً مرسومة؛ ثم أعجزه أن يبنيها فضلت خلاء بضع سنين، وكانت هي كل ما حصل الرافعي من الاشتغال بالأدب أكثر من ثلث قرن؛ ثم طمع البائع أخيراً فيما باع؛ فتحيّف القطعة من أطرافها، واصطنع بينه وبين الرافعي مشكلة قانونية تعجزه عن بلوغ حقه إلا بعد مطاولة تدفع إلى اليأس، وشكاه الرافعي وتأهب لمناضلته، فاستعان عليه خصمه بواحد من ذوي صهره يعمل مفتشاً في وزارة الحقانية، فانْتدَب للتفتيش عن أعمال الرافعي الرسمية في محكمة طنطا مهدداً متوعداً، لعله يحمله بذلك على النزول عن بعض حقه!

طالت القضية بين الرافعي وخصمه، وتعددت جلسات المحكمة وطالت كذلك دور التفتيش وكثرة تحدي المفتش للرافعي، حتى لزمه ثلاثة أشهر يفتش عن أعماله. فحص فيها عن بضع مئات من القضايا التي قدر الرافعي رسومها، لعله يعثر لهو فيها على غلطة تحمله على الخضوع له؛ وغلطة في تقدير الرسوم لقضية من القضايا معناها غرامة مالية. . . ومن أين للرافعي؟

وكنت متعودا أن أغدو على الرافعي في المحكمة في أوقات الفراغ؛ فلما علمت أن مفتشا عنده أقصرت؛ فلما علم مني سبب امتناعي عن زيارته قال: (لا عليك وخلِّ عنك هذا الوهم فلا تغير شيئا من عادتك!)

وزرته بعد ذلك مرات والمفتش عنده، وكان يدنيني إليه في مجلسه، ويجعل كرسيَّ إلى جانب كرسيه خلف المكتب، ويتأبىَّ على المفتش أن يذهب إليه حيث يكون، ليحمله على الحضور بنفسه ليسأله عما يريد من غير أن يغادر مجلسه؛ وفي أحيان كثيرة كان يحضر إليه المفتش وأنا في مجلسه ليسأله عن أمر من الأمر، فيدعه الرافعي واقفاً ويتحدث إليه وهو جالس حديثا كله سخرية وتهكم، ثم لا ينظر إليه إلا ريثما يجيبه عما سأل، ثم يغضي عنه ويدعه واقفا، ليعود إلى ما كان فيه من الحديث معي أو المطالعة في صحيفة أو كتاب!

وعلى أن المفتش لم يظفر بشيء مما أراد بالرافعي، فإنه استطاع أن يشغله بنفسه ثلاثة أشهر أو يزيد، على رغم ما كان يبدو على الرافعي من إهمال شأنه وعدم الاكتراث به!

. . . ثم انتهت قضية قطعة الأرض إلى الحكم للرافعي، وانتهت كذلك دورة التفتيش على غير طائل؛ ولكن هذه وتلك قد شغلتا الرافعي شطراً كبيرا من سنة 1935، وأوحت إليه بكلمات وكُليمات مما نشر لقراء الرسالة في هذه الفترة.

. . . ولم يفرغ بعد كل أولئك مما يتصل بموضوع الزواج وشئون الأسرة، فكانت القصة التالية (زوجة إمام) الإمام أبو محمد سليمان الأعمش، وزوجه، وتلميذه أبو معاوية الضرير.

قصة أراد بها أن يستوفي موضوع الزواج بالحديث إلى النساء عن واجب الزوجة؛ وبها تم ما أملاه عليّ في موضوع الزواج، وعِدتّه ثلاث عشرة مقالة في خمسة عشر عدداً، أولها مقالة (س. ا. ع) بالعدد 63 سنة 1934 وآخرها الجزء الثاني من (قصة إمام) بالعدد 86 سنة 1935

وددت لو أن الرافعي حين أعاد نشر هذه المقالات في وحي القلم، نشرها على الترتيب الذي كانت به والذي رويت ما أعرف من أسبابه الظاهرة؛ فان ذلك كان خليقاً أن يعين الباحث على دراستها مجتمعة متساوقة فصولها فصلا إلى فصل؛ ولكنه جمعها في وحي القلم على ترتيب رآه فجعل منها القصة، والمقالة، والحديث الديني؛ وجعل كلا من هذه الثلاثة في بابه؛ على أن ذلك لا يمنع الباحث الذي يتهيأ للرأي في هذه المقالات أن يقرأها على الترتيب الذي قدمت أسبابه وأسبابها معه.

(سيدي بشر)

محمد سعيد العريان