مجلة الرسالة/العدد 267/هذه داري وهذا وطني
مجلة الرسالة/العدد 267/هذه داري وهذا وطني
ولكن أين أحبائي؟!
للدكتور زكي مبارك
هذه داري، الدار التي أقمتها على أطراف الصحراء بمصر الجديدة لأفتح أمام قلبي آفاق المجهول من عوالم المعاني، وهذا وطني، الوطن الذي عانيت من أجله ما عانيت، ولم أخنه في سر ولا جهر، ولم ير مني غير الصدق والوفاء
هذه داري وهذا وطني، ولكن أين أحبائي؟
من كان يظن أني أقضي الأيام والأسابيع فلا أجد من يسأل عني بعد غياب الشهور الطوال؟ من كان يظن أني لا أجد أنيساً غير بريد بغداد على بُعد ما بيني وبين بغداد؟
من كان يظن أني أحبس نفسي في داري لياليَ وأياماً فلا يُسهد لعزلتي جفن، ولا يحزن قلب، ولا يرتاع وجدان؟
من كان يظن أني لم أتلق من الإسكندرية غير خطاب واحد، ولم أتلق من دمياط غير خطاب واحد، ولم أتلق من سنتريس غير خطابين اثنين، وسكت من أهواهم في المنصورة وأسيوط؟!
من كان يظن أني لم أعبُر شارع فؤاد غير مرة واحدة منذ رجعت من بغداد؟
وما فائدتي من عبور ذلك الشارع المتموِّج؟
كان لي في القاهرة هوًى معبود فتبدد وضاع، كانت ليلاي في الزمالك، فأين ليلاي وأين الزمالك؟
أنا أطفئ المصباح بعد نصف الليل وأفتح النوافذ لأرى كيف يهيم نور القمر فوق رمال الصحراء، فماذا تصنع ليلاي بالزمالك أو ليلاي في العراق؟
آه ثم آه من حيرة القلب في غفوات الليل!
أيتها الصحراء
إن حالك مثل حالي مَوَات في مَواَت
وقد تمرح فوق ثراك الميت هوامّ وحشرات
وفوق ثرى قلبي الميت تمرح هوام وحشرات هي السخرية من الناس، واليأس من صلاح القلوب، وجمال الوجود
وقد ترقّ حواشيك بالندى أو الغيث فتنبت فوق ثراك الأعشاب!
أما قلبي فقد أمحل إلى الأبد ولن ينبت فيه شيء
وأشقى الناس من يعيش بقلب أبخل من الصحراء
أيها الليل!
هل رأيت في دنياك من ينافسك في ظلامك غير قلبي؟
هل عرفت منذ أجيال وأجيال شقاء مثل شقائي؟
أيها الليل
خذ السواد من قلبي إن أعوزك السواد
خذا الظلام من حظي إن أعوزك الظلام
خذ من قلبي ومن حظي ذخيرتك للأحقاب المقبلات
خذ مني ما تشاء، أيها الليل، فلن تجد مشتهاك عند إنسان سواي
خذ مني ما تشاء بلا مَنٍّ عليك، فما أخذت السواد إلا منك ولا ورثت الظلام إلا عنك،
ومثلي يحفظ الجميل
أيها الليل
لا تجزع من العزلة، فأنا هنالك أسامرك وأناجيك
لا تفزع من الوحدة، ففي قلبي ظلمات تساير ما تحمل من ظلمات
عندي آلامي، وعندك آلامك، والجريح يأنس بالجريح بالليل
أنا أعرف من أنا في دنياي، فمن أنت في دنياك، يا ليل؟
أنت جزء من الزمان هجرته الشمس فأظلمت دنياه
وأنا جزء من الوجود هجرته الشمس فأظلمت دنياه
إن شمسي تغرب في الزمالك أو في بغداد، فأين تغرب شمسك
إن شمسك تغرب ثم تعجز عن الصبر على فراقك فترجع
وشمسي تغرب فلا ترجع
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل! والمقادير تترفق بك فتسوق القمر والنجوم لإيناسك
وأنا أعاني الظلام المطلق حين تغيب الشمس التي تعرف
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!
وأنت باق على الزمان، وأنا صائر إلى الفناء
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!
والناس يخافون بأسك فيتقربون إليك بالقناديل والمصابيح
وأنا مأمون الجانب فلا يتقرب أحد إليّ بشيء
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل
من أسمك يا ليل جاء اسم ليلى، ففيها طغيانك وفيها ظلامك فلا عفا الحب عنها ولا عفا
الله عنك!
هذه داري، وهذا وطني، ولكن أين أحبائي؟
إن قلبي يستحق التأديب، فليتلق من الضيم ما هو له أهل
ألم يتلق رسائل الشوق من بغداد فسكت عنها سكوت الغادرين؟
ألم يتلق رسائل الشوق من باريس فسكت عنها سكوت الجاحدين؟
ألم تنتقل إليه الغادة النورمندية فاستعفى من صحبتها بالقاهرة محافظة على سمعته بين
الناس؟
إن قلبي يستحق التأديب، فليتلق من الضيم ما هو له أهل
أيها الليل
قد اقترب صباحك، فمتى يقترب صباحي؟
لك الخلاص من ظلماتك، فأين الخلاص من ظلماتي؟
ستمضي لشأنك وتتركني يا ليل
إن الظلمات تقتل شبابي وتحيي شبابك
إن الظلمات تصَّيرك أقوى وأعنف، وتصيرني أرقَّ وألطف، والرقة واللطف من بواكير
الفناء
أيها الليل! لقد عرفت قسوتك في بلاد كثيرة من الشرق والغرب، وما كنت أعرف أنك أقسى ما
تكون في داري وفي وطني
أما بعد فأنا أعترف أن قلبي يستحق التأديب
كنت أصم أذني عمن يسألون عني في باريس وفي بغداد لأفرغ لما سموه الواجب، فليتني
أجبت الدعوة في باريس وفي بغداد لآخذ ذخيرتي من الحب والعطف!
ليتني صنعت وصنعت، ولكن هيهات فقد فات ما فات!
أيها الليل في مصر الجديدة
أنا على كل حال رفيقك وأخوك
وستمضي الأعوام والدهور، ولا تعرف أصدق مني يا ليل
سيذكرني الناسون يوم تشوكهم ... شمائلُ من بعض الخلائق سُودُ
سيذكرني الناسون حين ترُوعهم ... صنائع من ذكرى هوايَ شهود
فوالله ما أسلمت عهدي لعدرةٍ ... ولا شاب نفسي في الغرام جحود
ولا شهد الناسون مني جناية ... على الحب إلا أن يقال شهيد
زكي مبارك