مجلة الرسالة/العدد 268/مائة صورة من الحياة

مجلة الرسالة/العدد 268/مائة صورة من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1938



للأستاذ علي الطنطاوي

3 - مجنون

أصبحت اليوم خاثر النفس لَقساً، فتركت عملي وركبت (الترام رقم 6) الذي يجوز بداري ثم يذهب فيخترق (الغوطة الشرقية) - حديقة الأرض - حتى ينتهي إلى (دوما). فنزلت على ابن عمٍ لي فيها طبيب، فلم ير أبلغ في إكرامي من أن يحملني في سيارته إلى (القصير) فيجمعني بإخواننا الكرام ساكني تلك الديار. ولم يكن الدخول إلى (القصير) سهلا ولا ميسوراً، وما كنّا نطمع أن يؤذن لنا به، فجعلنا نطيف بتلك الحدائق الواسعة الجميلة فما راعنا إلا القوم قد ملئوا الحدائق، خارجين إلى النزهة والعمل فجعلنا نكلم من نراه منهم من وراء الدرابزين فنسمع عجباً كما نرى عجباً. فمنهم من هو نائم على وجهه؛ ومنهم من قائم على رجل واحدة؛ ومنهم من يرسم في الهواء دوائر وهمية، ويكلم أشباحاً لا ترى؛ ومنهم من هو باك منتحب ثم لا يلبث أن يضحك حتى يكركر من الضحك. . . وما ظنك بسكان القصير؟

وكان أعجب ما شهدنا من العجب رجلاً عارياً إلا من خرقة تستر عورته، ولحية له طويلة عريضة تبلغ والله سّرته وتحجب صدره. حقيقة أقول لا مبالغة ولا مجازاً، وقد انتحى ناحية من حدائق (المارستان) ثم مشى فيها مقبلاً مدبراً متبوعاً عجلا، فقلت لابن عمي: تنح بنا عنه وتنكب طريقه، فربما بطش بنا. . . وإني لأرى جسماً قوياً، وعصباً مشدوداً، وما في كل من رأينا (أو ما رأينا فأننا نتحدث عن المجانين) من هو أظهر منه جنوناً، وأبدى حماقة. . .

قال: عجباً منك! هذا الشيخ فضل الحموي!

قلت: بل منك والله العجب. . . أتراني سائلاً إذا هشم أنفي وهتمت أسناني، أفعل ذلك الشيخ فضل الحموي أم الشيخ محمد المغربي؟ حسبي منه أنه مجنون. . . فعدّ بنا عنه!

قال: إذن يذهب سعيي باطلا، فما حملتك في السيارة وجئت بك إلى هذه الديار، إلا لأريك الشيخ فضل الحموي؟

قلت: دعني. فلقد رأيت مجانين كثيرين، شباناً ومشايخ، وأدباء وعلماء، وعاشق ومعشوقين، ولم يبق لي في رؤية مجنون أرب. . . وإنما غدا أربي في رؤية عاقل

قال: هذا هو الذي تريد. . . هذا رجل يتظاهر بالجنون، وهو أعقل العقلاء

قلت: أو يكون هذا؟ أئذا لم أجد في المدرسة والكلية عاقلاً والسوق والنادي أجده في (البيمارستان)؟

قال: نعم، تعال انظر

فأقبلنا نميل إليه. فلما رأى السيارة مقبلةً قال ما لا يفهم، وأشار بيديه وأبدى سيما المجانين، فنظرت إلى ابن عمي وابتسمت، فأشار لي أن أنتظر؛ ونادى الرجل باسمه، فلما عرفه هدأ، وقال له: هذا أنت يا فلان؟

قال: نعم. وهذا الشيخ. . . (وسمّاني)

فنظر إليَّ وابتسم، فظننت أنه قائل لي مقالة كل (عاقل) يلقاني: أين العمة واللحية والشارب؟ كأن الشيخ لا يكون شيخاً إلا بهذا! ولكن (المجنون) لم يقل شيئاً. فقال له ابن عمي:

ألا تعجب منه شيخاً حليق الوجه حاسر الرأس؟

قال: ويحك يا فلان! ألا تعلم أنها إذا اتصلت الأرواح، بطلت الأشباح؟

وأفاض في كلام مثل هذا بلغة صحيحة وإلقاء متزن، فقلت في نفسي هذا من (عقلاء المجانين) الذين ألف في أخبارهم أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري رحمه الله، ولست آمن أن تدركه الآن جٌنته فيؤذينا، ووقفت حذراً. . . .

فلما انتهى قال له ابن عمي وقد أمتد إلينا الظلام ونحن في ظلال الأشجار

ألا تسير بنا إلى النور؟

فقال لنا وهو يضحك، وما رأيناه إلا ضاحكا:

لولا أننا هنا لقلت لكم (إن نوركم كاف) ولكن مثل هذا (النفاق) لا يقال هنا. . .

فقلت: ولمه؟ أولا ترى لنا نوراً؟

فقال: إن في كل كائن نوراً وجمالا، ولكن العيون المدركات قليل. . . إن الناس جميعاً يؤخذون بجمال القمر، ولكن الشمس لا يؤخذ بجمالها إلا من كان له عين تصبر على نورها. ولذلك كان الشمسيون من الناس (والتعبير له) أقل من القمريين وأندر؛ وهؤلاء هم الكبار من الصوفية، فإذا جازوا مرحلة الشمس ونفذوا منها إلى منطقة السديم استوى عندهم جمال القمر وجمال النجم، واستوت عندهم الظلمة، والنور لأنهم بلغوا مرتبة الفناء في الموجد، فلم يبالوا بعد بالموجودات. . .

وتكلم في مثل هذا أكثر من ساعة كلاماً ما سمعت مثله ولا قرأته، وفسر آيات، وتمثل بأبيات، وذكر نظريات العلماء المحدثين حتى أدهشني والله، وكاد يمضي في كلامه إلى الليل لولا أن قرع الناقوس ليدخلوا فودعناه وقلت له: لقد استفدت منك

فضحك وقال: لا ترفع صوتك فيسمعك أحد

قلت: ولمه؟

قال: ولمه؟ أعاقل يستفيد من مجنون؟

وكان الحارس قد وصل، فلما رآه الشيخ فضل غمرني بعينه وعاد يقول ما لا يفهم، ويشير إشارات المجانين، فدعوت الحارس فسألته:

ما هو جنون هذا الرجل؟

قال: أما ترى؟ أما ترى لحيته وعريه؟

قلت: بلى، فماذا في العرى؟ أليس الرجال جميعاً والنساء على ساحل الإسكندرية وحمامات بيروت على مثل عريه؟ ألا يتكشف (الكشافة) دائماً؟ أما اللحية فقف في السوق وانظر كم ترى من لحية. فلم أمسكتم بهذا وحده دون أولئك؟

قال: هذا يقول بأن كل شيْ هو الله. أما هذا جنون؟ أما هو كفر؟

قلت: من حسن حظ الشيخ محي الدين بن عربي أنه مات قبل افتتاح مستشفى القصير!

قال: أنه يتكلم ساعات فلا يفهم عنه أحد

قلت: كذلك كل الفلاسفة وكذلك أكثر المعلمين. .

قال: ويسكت أحياناً يومين كاملين

قلت: هذا من العقل، هذا. .

فنظر إلي الحارس نظرة فهمت منها أنه يعجب مني كيف لا أدخل المستشفى وأكون من أهله! فأسرعت بالهرب قبل أن يقبض علي بتهمة الجنون. . .

(دوما) علي الطنطاوي