مجلة الرسالة/العدد 269/التشريع المصري والتشريع الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 269/التشريع المصري والتشريع الإسلامي

مجلة الرسالة - العدد 269
التشريع المصري والتشريع الإسلامي
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 08 - 1938



للأستاذ عباس طه

سجل العلامة الكبير المستشار عبد السلام ذهني بك في بعض المجلات العلمية بحثاً مستفيضاً ضافي الذيول والمرامي يتلخص في ضرورة تجميع الفقه الإسلامي في مختلف ما تكشفت عنه قرائح الأئمة المجتهدين ونحا نحوه الفقهاء من الأحرار الباحثين، ثم مقارنة مستفيضة بين الفقه الروماني وأثره في بضعة قرون ووفائه بحاجة المعاصرين يومئذ ونهوضه إلى مستوى سد حاجة الناس في باب المعاملات والأحوال الشخصية، ثم كيف استطاع أن يكون أثره في الخلود طويلاً ووفاؤه بحاجة الناس عاما، ثم بضرورة وضع موسوعة تتسع لآراء الباحثين من الأئمة المشترعين كما فعل في عهد جستنيان الخ

ونحن العلماءَ في الفقه الإسلامي نحمد لعزته تلك الألمعية وغيرته الفياضة على تراث المسلمين أن يذهب بدداً وأن تتحكم في أساليبه ومراميه وصياغته فئة من غير الناطقين بالضاد حتى أحالته ترثاً مهلهلاً لا يشفي علة ولا ينفع غلة. وبقى ذلك الداء العياء يتغلغل في أزهى عصور التاريخ وأغنى عهوده بالعلماء، فما انفرجت شفتان عن ضرورة تجميع هذا التراث الموروث عن أئمة الدين الذين أخرجوا إلى الإنسانية خير ما يقتدي به الناس في أمر معاشهم ومعادهم، وما يحكم حركة التعاون بين أفراد النوع الإنساني ويقيمها على أسس من الخير صالحة لا يتطرق إليها وهن ولا فساد

لكني أسائل أولئك الذين يكتبون حول هذه الموضوعات: ماذا يريدون بهذا التجميع؟ أيريدون بذلك أن تجمع أقوال الفقهاء المشترعين والأئمة المجتهدين في سفر واحد تراثاً مزيجاً من الآراء الفقهية بين رجل اجتهد وكد لينشئ له مذهباً ثم عاد فرجع عنه أو بقي ولكنه على وهن، وذلك شائع في مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة، ففي هذين المذهبين أئمة اشتغل علماء الفقه الإسلامي بالتعقيب على آرائهم الفقهية فباتت غير صالحة لاستهداء الناس بها والسير على مناهجها - وبين آخر صح اجتهاده، وقام على منارة الحق سداده، ولكنه ابتلى بفريق من المعتنقين لمذهبه اشتغلوا بتجريح غيره من المذاهب والإشادة بمذهبه دون سواه، فبقى طلاب الحقيقة في قطع من الليل البهيم يتلمسون لهم ما يكشف الحقيقة في صميمها ويرد الواقع إلى نصابه؟ أم يريدون أن يجمع الصحيح من أقوال الأئمة المجتهدين في موسوعة واحدة يعم نفعها وتنتشر فائدتها؟ وإذا فما قيمة هذا التجميع في نظر الواقع والتاريخ والعلم؟

لقد بذل المرحوم محمد قدري باشا مجهودا لا بأس به في تجميع شطر غير قليل من مذهب أبي حنيفة مما لم يقم به العلماء المتخصصون منذ عهد الناس بمنشأ الفقه الإسلامي فاستنبط مجهوده من كتب صيغت بأساليب رث حبلها ونقضت أشلاؤها ودق على الباحثين وجه الصواب فيها، وكان العمل يومئذ بمذهب أبي حنيفة دون سواه مما جعل قدري باشا يضع في باب الأحوال الشخصية والوقف بنوعية كتابيه على صورة مواد حتى يكون قانوناً يسهل الرجوع إليه والاستشهاد به

لكن ما أسرع أن تمخضت حيل الناس في تطبيق مواد الطلاق ومواد النفقة وافتنانهم في الهرب من تطبيق الأحكام الشرعية على مذهب أبي حنيفة عن عجز القضاة الشرعيين وعدم قدرتهم على تطبيق تلك الأحكام تلقاء ما يبديه المطلق من أفانين وحيل للفرار من طائلة العقاب، وما يبديه المحكوم عليه بالنفقة وما يبدو من حيل المحامين الشرعيين في ذلك الميدان المنبسط الذي لا يحده تقنين ولا يردع عن العبث به رادع، فجأر القضاة الشرعيون بالشكوى من فشل هذه التجربة، والأستاذ المراغي يومئذ منهم في الطليعة يشاطره قوم ذوو دراية وكفاية؛ وقد شعروا بضرورة البحث في غير مذهب أبي حنيفة من المذاهب عما يسد حاجة المتقاضين ويفسح المجال للقضاة باعتبارهم المطبقين لأحكام الشريعة والمهيمنين على تنفيذها في مواد الأحوال الشخصية نائبين في ذلك كله عن ولي الأمر في البلاد، وما يقطع الطريق على حيل المحتالين، وما يفتح عيون الباحثين على ثروة غزيرة من العلم كانت ولا تزال منهلا ينهل منه المتقاضون وغير المتقاضين، وما يقوم دليلاً في كل يوم على أن الفقه الإسلامي كفيل بمسايرة كل عصر وجيل وخليق بأن يحمل أمانة البشر في مختلف مرافقه حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ فوضع قانون رقم 25 لسنة 1920 خاصاً بأحكام النفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية مؤلفاً من ثلاث عشر مادة، وهو يتناول معالجة الأحوال التالية.

(1) النفقة (2) العجز عنها وما يترتب على ذلك العجز من الآثار (3) حكم المفقود وما يترتب عليه قبل الخصوم من حقوق (4) حكم القاضي بالتفريق للعيب وما يترتب على ذلك العيب من آثار مباشرة وغير مباشرة (5) الترخيص للزوجة بطلب التفريق من القاضي حال قيام العيب في زوجها وحاجة المجتمع إليه (6) أحكام عامة متفرقة. ثم درجت المحاكم على تطبيق ذلك القانون بأمانة وتوفيق، ودرج المفتشون القضائيون في وزارة الحقانية على تتبع تطبيق هذا القانون وتبين المدى الذي وصل إليه من إصابة حاجات الجمهور وسد كفايتهم وإقناعهم بأن في ثنايا الفقه الإسلامي ما يكفل بعث الطمأنينة إلى قلوبهم وإيصال الحقوق إلى ذويها، فلم تمض فترة من الوقت غير طويلة حتى استفاضت تقارير المفتشين القضائيين بأعطر الثناء على ذلك الأثر الطيب الذي تركه قانون سنة 1920 في نفوس المتقاضين.

وهكذا تحررت عقول طلاب الإصلاح من ربقة التقيد بكل قديم واقتنعوا بأن تطور الحياة وتشعب مسالكها وما يجد فيها من أحداث وعبر من أقوى الحوافز على تلمس أفضل المناهج في باب التقاضي، وكفالة مصالح الناس وردها إلى أمثل طريق وأبلج محجة. من أجل ذلك اطرد البحث عما يساير مصالح الناس ويماشي رغائبهم، وما يدفع عن المجتمع علله وأمراضه، فشعر المصلحون مرة أخرى بضرورة حماية الأسر من تلك الأمراض الفواتك التي لم يدفعها كثير من أحكام أبي حنيفة المتعلقة بالطلاق وبالتفريق للغيبة وبدعوى النسب وسن الحضانة وما إلى ذلك، فوضع مرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خاص ببعض الأحوال الشخصية يتألف من 25 مادة، وهو يقع في تسعة أبواب: الباب الأول الطلاق (2) الشقاق بين الزوجين (3) التطليق لغيبة الزوج (4) دعوى النسب (5) النفقة والعدة (6) المهر (7) سن الحضانة (8) المفقود (9) أحكام عامة

ولا تزال الأمة في مسيس الحاجة إلى وضع قانون موضوعي، فأشير بوضع ذلك القانون. ثم تألفت لجنة تحت رياسة فضيلة شيخ الجامع الأزهر، وهي وإن سارت بخطى بطيئة إلى الآن لاعتبارات بعضها يرجع إلى المحيط الراهن، وبعضها يرجع إلى ثقل المسئولية في هذا القانون، فهي فيما نعتقد بالغة إن قريباً وإن بعيداً ما تصبوا إليه الأمة من كفالة لمرافقها وسد عوزها التشريعي في حياتها. هذا القانون الموضوعي إذا كتب له الوجود فسوف يجمع بين دفتيه تراثاً صالحاً في شتى المذاهب حتى مذاهب الأحرار من الفقهاء المشترعين الذين كانوا ولا يزالون بعيدين عن المحيط العملي، فكان العلماء في الأزهر لا يأخذون بآرائهم ولا يلقنونه لطلبتهم بل كانوا على النقيض من ذلك من المتبرمين بهم والزارين عليهم، وكان محذوراً على القضاة الشرعيين أن يتخذوه مدداً لآرائهم القضائية أو مصدراً لثروتهم العلمية لأنهم كانوا مأخوذين بالقضاء على أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، لكن لما تشعبت الحياة في مناحيها، واتضح بجلاء أن مذهب أولئك الأحرار المشترعين خليق بتقديره وبعثه من مرقده واتخاذه قبلة للناس في بعض أحوالهم الشخصية (والحاجة كما يقولون تفتق وجه الحيلة) لجأ طلاب الإصلاح إلى سن قانون موضوعي يحيط قدر المستطاع بمرافق الناس ويسد كفايتهم القضائية ويحرر العقول من كل تقليد لا يتفق ومصالح الجمهور. فأين نحن الآن من فكرة تجميع الفقه الإسلامي في موسوعة واحدة والأحداث كل يوم تحفزنا إلى جديد من الفن في كل شيء لنلقي بين أيدينا دروساً من العظة بالماضي، وإن ما صلح اليوم للعمل به قد لا يصلح غداً؛ وإن سلسلة التجارب لما يقع تحت المشاهدات ستظل متصلة الحلقات بالوجود اتصالاً وثيقاً؛ ثم ما لنا ولتجميع الفقه الروماني وقد كان الفقه الروماني - كما يقول بحق الباحث العلامة الدكتور عبد الحميد أبو هيف - قائماً بأسسه وقواعده على التفرقة بين الطبقات؛ أما الإسلام بقواعده وأسسه فهو قائم على الديمقراطية العادلة والمساواة الواضحة؛ وأية ديمقراطية ومساواة أعمق في الوجود أثراً وأخلد في المجتمع ذكراً من تلك التي أسس قواعدها وشيد بنايتها فاطر السموات ومدبر الكائنات وبعثها على لسان الرسول الأعظم قام من بعده خلفاء راشدون، وحسبك من بينهم عمر الفاروق هذا الذي يضرب أعلى المثل وأنبلها في المساواة وخفض الجانب واحتقار الأثرة في الواقعتين التاليتين:

مرَّ الفاروق كعادته في جوف ليلة وقد اتكأ على جانب جدار أحد المنازل فسمع امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامزجيه بالماء. فأجابت الفتاة: أما علمت يا أماه بما كان من عزم أمير المؤمنين؟ قالت الأم: وما كان من عزمه؟ قالت الفتاة إنه أمر مناديه فنادى في الناس ألا يشاب اللبن بالماء. قالت: يا ابنتي قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، فنحن في موضع لا يرانا فيه عمر ولا مناديه. قالت الفتاة: يا أماه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. كان هذا الحوار الطريف يجري بين الأم وابنتها على مسمع من عمر وهو أشد ما يكون البنت إعجاباً وبالأم تبرماً. فلما تحقق من ظفر الفتاة برأيها وانتصار الحق على الباطل - أمر تابعه أن يعلم الباب ليسهل الاهتداء إلى موضعه. وما أن أشرقت الغزالة من خدرها حتى بعث رسوله يستقصي خبرهما ويرى هل الصبية بكر أم متزوجة؟ فلما علم أنها بكر جمع أولاده بين يديه وقال لهم: هل فيكم من يحتاج إلى زوجة رشيدة بصيرة بأمور دينها، شديدة المراقبة لله، تحذر الآخرة وترجو رحمة ربها؟ ويميناً لو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقني منكم أحد إليها. فاعتذر ولداه عبد الله وعبد الرحمن لأنهما متزوجان، فتقدم ولده عاصم الصغير وقال: هأنذا يا أبتاه لا زوجة لي، زوِّجني ممن اخترتها. ثم بني بها. فقال الناس: تزوج عاصم بن عمر أمير المؤمنين من فتاة راعية فقيرة تبيع اللبن! ولكن عمر لم يأبه لما به أرجفوا. وصدقه الله فيما نوى، فقد أنجبت للعالم الإسلامي عمر الثاني وهي الصورة المشبهة معنى وروحاً للفاروق - نعم ولدت زوج عاصم بنتاً وولدت البنت الخليفة عمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب الثاني. وكذلك صدقت فراسة الفاروق في صلاح هذه الفتاة وتقواها، ولم يطش ظنه فيها حينما رفعها من سكنى الكوخ إلى رفيع القصور ورضى على نفسه أن يقال: صاهر أمير المؤمنين فتاة راعية، ولكن عمر لا يأبه لكلام الناس ولا يكترث للأنساب والألقاب فليس عنده من نسب إلا نسب الإسلام، وليس له من الجاه إلا التقوى

ولقد حفظ التاريخ لعمر حادثة مشهورة رفعت قدره وأعلت ذكره، وخلدت له المثل الأعلى في النزاهة وشرف النفس وإعلاء الحق بالتضحية بأعز ما يملك في سبيل الدين. ومن أجل إحيائه تقديس شعائره - أنه قدم ابنه فلذة كبده وأحب الناس إليه ضحية على مذبح الدين وفداه لسنة الرسول الكريم

سمع انه شرب خمراً في مصر ولم يقم عليه ابن العاص الحد على ملأ من الناس ويحلق رأسه كما يجب وكما كان مفروضاً على كل مسلم، فبعث إليه يقرعه ويأمره أن يرسل ابنه وشيكاً على قتب، ففعل عمرو. وقد وصل عبد الرحمن وهو في أشد حالات الإعياء والنصب وهو يصيح:

لقد أقيم عليّ الحد في مصر يا أبت فلا تقتلني بإقامته مرة ثانية. لكن غيرة عمر وشدته في الحق على عامة المسلمين لم تكن تعرف المداجاة في زوج أو ولد، وهو الذي كان يسوي ذاته في ميزانه بأقل الناس، فلا غرو أن يقيم الحد على ولده ثم يشاهده وهو يلفظ النفس الأخير، فلا يجد عند ذلك إلا أن يهنئه على طهارته من أرجاس المعصية وأن يحمله السلام إلى صاحب الأمانة التي قام بها عنه خير قيام

غير أن لي كلمة في خاتمة هذا البحث لا تزال بصدري جياشة، وهي أن التجميع للتشريع الإسلامي وفي أوسع حدوده ومراميه لا يلقي من أهل الرأي تأييدا إلا إذا أيده المسلمون أنفسهم بقوة ما يشع في صفوفهم من وحدة، وما يقوم على رباطهم من سلطان، وبقوة تلك الروحانية التي تهيمن على عقائدهم واتجاهاتهم وتصهر ما في تلك العقائد من زيغ وريب، فإذا حل ذلك اليوم وصارت فيه الغلبة للإسلام تيسر للمسلمين تجميع الفقه الإسلامي تجميعا ما بعده تجميع. وأكبر يقيني أن هذا اليوم مؤذن في القريب ببزوغ شمس سوف تنبسط على أرجاء الشرق فتنتظم أطرافه! وإذ ذاك يحل ذلك اليوم الموموق وتستكمل مصر زعيمة الشرق في الإسلام ونشر رسالته أقوى أسباب سعادتها واطمئنانها وعلو كلمتها في ظل حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول، أيد الله دولته، ورفع في الأنام رايته، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.

(للبحث بقية)

عباس طه

المحامي الشرعي