مجلة الرسالة/العدد 270/بين الفن والنقد

مجلة الرسالة/العدد 270/بين الفن والنقد

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 09 - 1938



للأستاذ عبد المنعم خلاف

قالت لي نفسي بعد شهودها معركة للنقد بين جماعة من أصدقائي لحق منها مؤسسين عظيمين من مؤسسي الأدب الحديث جملة من النعوت أذكر أنها لم تكن لتلحقهما لو مضيا من الحياة ولم يتركها بيانهما العظيم:

(حطم قلمك! وأغلق أقفالي عليّ، واتركني أمضي من الحياة من غير صوت ولا ذيول يتعلق بها متجن وعابث. ودعك من أسطورة الخلود. . . تلك التي تفتنكم وتجركم إلى النزاع وإضافة تعبيرات جديدة إلى سجل الشتائم المهذبة الخالدة المذاعة وقل في تلك الأسطورة ما قال المازني الأديب الساخر منذ سنوات في صحيفة البلاغ: (طُزْ!)

فقلت لها يا نفسي: ألم تعلمي في سنن الحياة أن لكل شيء وجهين: وجه جمال، ووجه قبح؟. ألم تحفظي قول القائل:

نقول هذا مجاج النحل تمدحه=وإن تذم فقل قيء الزنابير

(والعظيم دائماً يحظى بشرف المبالغة من أنصاره وأعدائه) وتاريخ الآداب والفنون والعلوم مملوء بالمعارك العنيفة بين المنتج والناقد وأنصارهما. ولم يفد الأدب والعلم بقدر ما أفادا من النقد على شريطة الإنصاف فيه والبعد عن المهاترة وتسقط العيوب وإدخال النوازع الشخصية في موازينه

غير أن المنتج غيور على إنتاجه، فتارة يجهد نفسه في التجويد والتهذيب والتنقيح قبل أن يعرض نتاجه كما يفعل زهير في حولياته. وتارة لا يلقي باله إلى كلام النقاد ولا يحفل رضاهم أو سخطهم ما دام هو راضياً عن نفسه، كما قال الفرزدق لناقد احتار في إعراب كلمة من شعره (عليَّ أن أقول وعليكم أن تعربوا) وكما قال المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم

وكما قال الأستاذ العقاد في تقدمه ديوانه:

هذا كتابي في يد القراء

ينزل في بحر بلا انتهاء

فليلق بين القدح والثناء ما شاءت الدنيا من الجزاء

وكما هو شعار برناردشو الذي يستدفئ بموقد كتبت على حافته هذه الكلمة:

(إنهم يقولون. . . ماذا يقولون؟ دعهم يقولون. . .)

وتارة يحمل المنتج على النقاد فيخافون لسانه ويقرظونه أو يسكتون عنه كما كان يفعل ابن الرومي

وتارة ينال المنتج من الناقدة ثأره كما قال شلي الشاعر الإنجليزي (ما عدا أمثلة نادرة لا يمثل النقاد سوى سلالة غبية خبيثة. وكما يتحول اللص المفلس إلى خفير كذلك يتحول المؤلف العاجز إلى ناقد!) وقال كولردج (النقاد هم عادة أناس كان ينتظر أن يكونوا شعراء ومؤرخين وكتاب سير لو استطاعوا. وقد جربوا مواهبهم في هذا أو ذاك ففشلوا؛ ولذلك انقلبوا نقاداً)

غير أن من القليل النادر أن نجد هذه الغيرة من الفنان والمنتج تبدو في صورة (الكبت) أو (الوأد) ولن يقدم على ذلك أديب أو عالم محترف أو مؤمن بنفسه يريد أن يفرضها على التاريخ؛ وإنما هو أحد رجلين: رجل (هاو) يجمع إلى إنتاجه وفنه حرفة أخرى يلابس الحياة بها وينال احترام الناس منها، فلن يضيره أن يتخلى عن إذاعة فنه عندما يرى أنه سيجلب عليه تنغيصاً ومحنة وعداوة من حيث يرجو الترفيه والحب؛ كما قال المتنبي (أعادي على ما يوجب الحب للفتى)؛ أو هو رجل شاك في نفسه رافع ثقته فيها لا يراها إلا بعيون الناس، فإذا قالوا لها أو عليها فهو وما قالوا

والأستاذ عبد الرحمن شكري والدكتور الشاعر إبراهيم ناجي مثلان مضروبان للرجل الأول في عهد من عهودهما بين يدي هذا العصر؛ كما يضرب أبو حيان التوحيدي الأديب المتوفى سنة 403هـ مثلاً في العصر القديم، فقد أحرق مؤلفاته ولما سئل في ذلك أجاب (شق على أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها)

هذه صورة من غيرة المنتج، في بعضها يصل الناقد إلى حد الجناية لأنه يحمل بعض النفوس على الكبت أو الوأد لما لا بد أن يشتمل على نفع كثير للإنسانية ما عساه أن يكون فيه من ضرر أو تفاهة. نعم إن بعض المنتجين يعرضون أشياء تافهة أو مكررة تستحق التزييف وتأديب أصحابها لأنهم لم يعوا معنى كلمة الجاحظ (ينبغي لمن يكتب كتاباً أن يكتبه على أن الناس كلهم له أعداء، وأنهم أعلم منه بما يقول. وأن لابتداء القول فتنة وعجبا)، ولا قول الآخر: (من ألف فقد استهدف)

غير أن هذا كله ليس مبرراً لتهجم الناقد على نفس المنقود وذهنه، وليس داعياً إلى تحطيم حرماته وإهدار قداسته الطبيعية التي هي له حق طبيعي من قبل أن يخط حرفاً أو يعمل عملا هو فيه حسن النية لا ريب؛ إذ أنه يريد أن يشارك به في المجهود الإنساني. فإذا لم ينل الشكر فلا أقل من ترك حرماته من غير تجريح

وأذكر أنني قرأت منذ عشر سنوات لكاتب تونسي لا أتذكر اسمه كلمة في مقدمة كتاب ألفه، تفيض باسترحام القارئ ليفضي عما في الكتاب من نقص يجده؛ إذ أن مؤلفه كتبه بضياء عينيه ساهداً في جوف الليل ليسعد به قارئوه الذين كانوا نياماً في ذلك الوقت. وهو معنى جميل لو وضعه الناقد أمام عينيه لوقف وقدر ثم وقف وقدر كرتين قبل أن يعمل قلمه بالنقد المسلح الجارح

وأظن أن كاتباً ما، لم يحمل قلمه ويخط به حرفا إلا وهو يضمر مع ما يضمر من شهوة خلود الذكر أو الشهرة، النفع وتنمية الميراث الفكري. وهذا وحدة يحتم علينا احترام اتجاهه تشجيعا له ولغيره. اللهم إلا الكاتبين الهدامين الذين في تركهم أو تقديرهم خطر؛ فأولئك يجب هدمهم بالنقد وإهدار حرماتهم كما أهدروا حرمات المجتمع

وما أجمل مذهب القائل - وأظنه شاعرا سوريا أو لبنانيا معاصراً -:

أيها الناقص أعمال الورى ... هل أريت الناس ماذا تعمل؟

لا تقل عن عمل: ذا ناقص ... جيء بأوفى ثم قل: ذا أكمل

إن يغب عن عين سارٍ قمر ... فحرام أن يعاب المشعل

القاهرة

عبد المنعم خلاف