مجلة الرسالة/العدد 271/إنهاض اللغة العربية

مجلة الرسالة/العدد 271/إنهاض اللغة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 09 - 1938


للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات

جرى قلمك بإضافة اسمي إلى المؤلفين الذين نسيتهم لجنة إنهاض اللغة العربية، وذلك منك تفضل وتلطف، فمن الغريب حقا أن اخطر على بالك أو على بال غيرك، ومالي وسيلة في هذه البلاد غير الكدح الموصول في التفكير والتأليف، وهي وسيلة ضعيفة في زمن لا ينفع فيه غير تضييع الوقت في خلق الصداقات والمودات مع الذين يملكون تأليف اللجان لتقرير مصاير العلوم والآداب والفنون

وأنت قد تشجعت فقلت ما قلت لأنك خارج القفص

أما أنا فأعيش في قفص لأني موظف في الحكومة المصرية، وقد سمعت أنها حكومة رقيقة القلب يؤذيها أن يمر النسيم على خدها الأسيل!

ومن واجبي أن أتلطف بهذه الحكومة وأترفق، وإلا كان جزائي أن اخرج من القفص لأعيش كما كنت أعيش بين الأزهار والرياحين

ولكن الحكومة أمكنتني من ناصيتها هذه المرة؛ لأنها في هذه القضية ممثلة في جماعة من الأدباء كنا نصلح لمحادثتهم ومسايرتهم منذ حين. ومن ذا الذي يتوهم إني اعجز عن مصاولة علي الجارم أو أحمد أمين، وهم خلق من خلق الشعر والنثر والتأليف؟ من ذا الذي يتوهم إني أتهيب مناوشة القائمين بتأليف اللجان في وزارة المعارف وفي يدي قلم أمضى من السيف وأحد من السنان؟

اعترف باني أتردد في الهجوم على وزير المعارف لأنه يملك إيذائي حين يشاء

ولكن وزير المعارف في هذه المرة زميل قديم. وللزمالة وإن قدمت حقوق. وهو قد شغل نفسه في الأعوام الأخيرة يدرس الدين الحنيف، ولابد أن يكون عرف أن لصاحب الحق مقالا، وصاحب الحق في قضية اليوم هو مؤلف النثر الفني، الكتاب الذي استحق أن يثني عليه معالي الدكتور هيكل باشا في مجلة الهلال

ولكن ماذا صنعت لجنة إنهاض اللغة العربية حتى نوجه أليها الملام؟

إنها اختارت طوائف من المؤلفات الحديثة فأقرت مبدأ تعبنا في الدعوة إليه منذ سنين ف منا أطيب الحمد واجزل الثناء

وأنت تعيب عليها أنها نسيتك ونسيتني، واللوم في هذا عليَّ وعليك، لأننا لم نحسن التذكير بأنفسنا عند السيدين الكريمين علي الجارم واحمد أمين

وأخشى أن نكون أسأنا اختيار الظرف المناسب للتذكير المنشود، فهؤلاء الزملاء يملكون ما لا نملك، وكان العقل يقضي ن ننتظر حتى يتفضلوا بالاعتراف بأننا بشر مثلهم نكتب وننظم ونؤلف!

وكلمة (زملاء) تسبق إلى قلمي بلا تحفظ، لأني واثق بأنهم اكرم والطف من أن يبخلوا علينا بهذا التطاول الخفيف!

إن لجنة إنهاض اللغة العربية فوق الشبهات، ولكني لا افهم كيف جاز أن تقرر كتاب ضحى الإسلام وتنسى كتاب النثر الفني مع أن كتاب ضحى الإسلام لا علاقة له بتقويم الأساليب

ومن الصعب عليّ أن اقبل أن يكون في اللغة العربية كتاب يشبه كتاب النثر الفني، ولكني راضٍ للضرورة بأن يكون قريعا لكتاب ضحى الإسلام. أنا راض بان أكون من زملاء الأستاذ احمد أمين في قوة التأليف ليصل كتابي عن طريق وزارة المعارف إلى الجيل الحديث، إن كان التواضع ينفعني عند أولئك الناس

وأين كانت اللجنة من كتاب (الموازنة بين الشعراء)؟

دلوني متى عرف النقد الأدبي مثل هذا الكتاب؟

إن الحياة في مصر أصبحت جحيما لا يحتمل ولا يطاق بفضل ما يقع فيها من الاستهانة بآثار العقول. وأخشى إن طال هذا الليل أن تنقرض حياة التفكير والتأليف، وأن ينفض الباحثون أيديهم من الثقة بموازين العدل في هذه البلاد

إن مصر لا تعرف أنها مدينة بسمعتها الأدبية والعلمية إلى رجال يعدون بالآحاد لا بالعشرات ولا بالمئات ولا بالألوف، وهؤلاء الآحاد ينفقون من أعصابهم ودمائهم ليحفظوا لمصر مكانتها العلمية بين الأمم العربية

وما يليق بمصر أن تترك مصاير هؤلاء الآحاد لرجل آو رجلين يسمى أولهما علي الجارم وثانيهما احمد أمين ما يليق بمصر أن تسكت عن أبنائها الأوفياء حتى يصرخوا من الظلم والإجحاف

ما يليق بمصر أن يعرف علماؤها وأدباؤها أن لا حياة لهم ألا أن ضيعوا ذاتياتهم بالفناء في خدمة الأحزاب

أما بعد فأنا لا انتظر شيئا من وزارة المعارف، ويكفي ما ظفرت به من القراء الذين استطعت بفضل إقبالهم أن أقول إن في مؤلفاتي ما طبع مرتين وما طبع ثلاث مرات

هذا عصر التضحية يا صديقي، وهذه مصر التي لا تعرف أبناءها الأوفياء

فإن سمعت إننا قهرنا المصاعب فصدق

وان سمعت أننا أمنا عدوان الأحقاد والضغائن فصدق أيضا

صدق كل شيء يا صديقي، إلا شيئا واحدا، هو ما تسمع أحيانا من اعتدال الموازين

وكل ما أرجوه في ختام هذه الكلمة الوجيزة أن تسكت عني سكوتا مطلقا فلا تذكرني بهمومي في وطني وبين أهلي

لقد كنت نسيت فكيف جاز لك أن تصنع ما صنعت!

وهل كان الأمل في إنصاف الزملاء إلا باباً من الخيبة والضياع؟

إن أرزاقنا في آسنة أقلامنا، وسنصبر بعون الله على الصدق في الجهاد

والعاقبة للصابرين والصادقين.

(مصر الجديدة)

زكي مبارك