مجلة الرسالة/العدد 271/عود على بدء

مجلة الرسالة/العدد 271/عود على بدء



بين الغرب والشرق

للدكتور إسماعيل احمد أدهم

- 3 -

(قلنا في المقال الأول في الرد على مزاعم مناظرنا الفاضل الأستاذ فيلكس فارس إن لكل أمة في العالم روحها التي تحتضن تراثها التقليدي، وعن طريق تحليل تراث مصر التقليدي انتهينا إلى أنها فرعونية آخذة بأسباب العربية لتجاري فن الحياة في ذلك العصر الذي طغت فيه العربية على كل شيء وكانت مركزاً للجذب الاجتماعي في الشرق الأدنى.

وفي المقال الثاني بينا الفروق الأساسية بين ما سميناه ذهنية للغرب وطابعاً للشرق، وقلنا إن نزعة الذهن الغربي يقينية ونزعة العقلية الشرقية غيبية، واستدللنا على هذه الحقيقة من حقائق التاريخ، واستشهدنا بكلام للأديب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم. ولهذا قلنا إنه من الصعوبة بمكان أن تأخذ مصر الثقافة الغربية وهي محتفظة بثقافتها التقليدية وأساسها الإيمان بالغيب. وقد قرأ قراء (الرسالة) منبر الأدب الحي في الشرق العربي رد مناظرنا الفاضل على ما قلناه في عددي الرسالة 263، 264، لهذا اضطررنا أن نعيد الكرة من جديد لدحض ما أثاره المناظر الفاضل من اعتراضات. ولن نتقيد في ردنا على المناظر بما جاء في كلامه، وإنما سنرجع لكتاب رسالة المنبر إلى الشرق العربي فهو إنجيل المناظر في الأيمان بثقافة الشرق)

يقول الأديب النابغة فيلكس فارس:

(الثقافة راسخة في الفطرة، والفطرة في الفرد كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، فإذا كان العقل رائداً لبلوغ الحاجة فليست الفطرة إلا القوة المتمتعة في الإنسان بتلك الحاجة بعد بلوغه إياها)

هذا. . . ونحن نفرق بين الثقافة والفطرة، بين تراث الشعب الذي يخرج به من ماضيه انسلالا على مدى الدهور والأعوام، وبين الفطرة من حيث هي روح الأمة التي تحتضن تراثها. فتراث مصر الفرعونية التي أسلمته لمصر الإسلامية فاختلطت نتيجة لذلك الفرعونية والعربية فكان من ذلك ما سميناه لمصر من ثقافة تقليدية شيء والروح المصرية شيء آخر. إلا أن هذا لا يمنع من أن ترسخ الثقافة التقليدية وتصبح وكأنها من صميم فطرة الشعب. وانسلاخ الشعب عن ثقافته التقليدية، وإن كان لها رجة في صميم الفطرة والروح إلا أنها لا تعني انسلاخ الشعب عن روحه وفطرته. وما ثقافة الشعب وتراثه إلا أثر وقوع الفطرة والروح تحت تأثير ظروف ومؤثرات تجد في طريقها للمحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية للشعب. بيان ذلك أن الروح المصرية تحتفظ بذاتيتها منصبة في قوالب شتى، فهي في قالب في العصر الفرعوني، وهي في قالب في العصر الإسلامي، وجماع هذه القوالب المختلفة يكافئ الحالات المتباينة التي يتضمنها المحيط اجتماعياً وطبيعياً. وإنكار هذا معناه أن الروح المصرية تغيرت من العصر الفرعوني إلى صورة أخرى في العصر الإسلامي. فما الذي يمنع أن تتغير إلى صورة أخرى في العصر الحديث؟ ولعمري هذا لا يتفق مع ما يعرف من قواعد الاجتماع وعلم تكون الشعوب، لأن روح الشعب شيء مجرد، يكتسب عن طريق وقوعه تحت تأثير الفواعل الاجتماعية والطبيعية خصائص متباينة شكلا وإن كانت متفقة روحاُ

من هذا أرى أنه من الضروري التفرقة بين روح الأمة من جهة، وثقافتها وتراثها الشعبي من جهة أخرى، وإذاً أيكون من الممكن لمصر أن تتجرد عن ثقافتها التقليدية، وتستبدل مثلاً بدينها ديناً آخر وبلغتها لغة أخرى كما حدث ذلك في عهد الفتح العربي ومع ذلك تحتفظ مصر بروحها وفطرتها، لأن ما ستأخذه الروح من القوالب سيكون عن طريق الوقوع تحت تأثير عوامل ومؤثرات وجدت طريقها للمحيط الاجتماعي والطبيعي، ويكون بذلك صور متباينة تأخذها فطرة الشعب، وبمعنى آخر قوالب شتى، غير أن قانون العادة يدخل لاستحداث المماثلة في عقل ومشاعر الشعب فيكون من ذلك تماثل الثقافة التقليدية الجديدة في سريرة كل فرد من أبناء الشعب

على هذا الوجه فقط يمكن تعليل تفسير القالب العربي للروح المصرية والذي تكون نتيجة لوقوع الروح المصرية تحت تأثير الثقافة العربية. وعلى نفس الوجه يمكن تفسير وجه قيام الثقافة الغربية في مصر مع احتفاظ مصر بروحها وفطرتها.

وأظن أن هذا الإيضاح كاف يقطع السبيل على كل اعتراض يمكن توجيهه من أن الثقافة الغربية لا تتفق والروح المصرية.

وكل الخلاف على ما يتبين أخيراً راجع إلى عدم التفريق بين الثقافة التقليدية والروح، فعندما يقوم أنصار الثقافة الغربية بدعوة إلى مدنية الغرب يثور عليهم أنصار الثقافة العربية قائلين إن معنى ذلك ضياع الروح المصرية والقومية، مع أن الروح شيء ثابت والثقافة شيء عرضي يتقوم بالروح وفطرة الشعب.

والآن لنتمش مع كلام المناظر في رده ولنعقب عليه بما يكفي لإظهار زيغه وبيان وجه بطلانه.

1 - نقلنا في صدر كلامنا في المقال الأول في الرد على مزاعم مناظرنا الفاضل كلمة عن هابل آدم بك الفيلسوف الاجتماعي المعروف. والكلام واضح بين في أننا بحكم كوننا في الحياة يجب أن نفكر فيها وحدها وأن نعمل لأجلها وأقامتها على أساس إنساني بدون أن نجعل للغيب سبيلاً للتدخل فيها. وهذه الكلمة تتجلى في صدر الحديث النبوي: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا). ومع ذلك رأى المناظر فيها غموضاً وحاول أن يتعسف بتأويل الكلام إلى أن معناه إنكار الآخرة. وقال وأين عجز الحديث: (واعمل لأخرتك كأنك تموت غداً)

يا صديقي ليس هكذا يكون الكلام!

قد يكون بدؤنا في طريق الله ونهايتنا في طريق الله، لكن (الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة أخرى طريق بعضنا إلى البعض) يجب أن يكون مبدؤها ومردها الأول والأخير عندنا، حيث يقوم العقل الإنساني بتنظيم الحياة البشرية

هذا هو حقيقة كلام هابل آدم في ضوء تحليل مدلول عبارته التي أستهل بها كتابه الخالد (مصطفى كمال للترك كتابي) الذي ترجم لأكثر اللغات الحية ونقل ملخصاً إلى العربية بقلم صديقنا الأستاذ إسماعيل مظهر عن ترجمته الإنجليزية.

2 - قلنا إن موضوع الخلاف بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق يرجع إلى كون الثقافة الشرقية وقفت عند حدود الدرجة الثانية في سلم الارتقاء الفعلي بعكس الثقافة الغربية فإنها اجتازت هذه الدرجة إلى التي بعدها. ولا أدل على ذلك من بعض المراجعة لثقافة كل من الشرق والغرب في ضوء قانون الدرجات الثلاث الذي كشف عنه أوغست كونت يقول أوغست كونت:

(إن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا وكل فروع معرفتنا لا بد من أن تمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة: الأولى الحالة الخرافية وهي حالة تصورية تخيلية، والثانية الحالة الغيبية وهي حال تجرد، والثالثة الحالة اليقينية وهي حالة تيقن)

ومع ذلك يجادلنا المناظر فليكس فارس مرجحاً الحالة الغيبية وهذا قلب لقانون الدرجات الثلاث!

3 - يرى المناظر متابعة لاعتقاده برجحان الحالة الغيبية أن ميزة الشرق هي في الحالة الغيبية وفي إيمانه بالغيبيات. وهذا القول لو صدر من شخص ليس في مكانة مناظرنا الأستاذ فليكس فارس - وهو على علم واسع وفضل راجح - لما اهتممنا له. ولكن صدوره من مناظرنا يجعله حدث الأحداث في عصرنا الراهن

وإذا كان وقوف الشرق عند الدرجة الثانية في سلم الارتقاء العقلي سبباً للاعتقاد بتفوق هذه الدرجة على ما بعدها، فماذا يكون موقف مناظرنا إزاء أحد الزنوج أو متوحش أفريقيا إن وقف يرجح الحالة الهمجية والحالة الخرافية اعتقادا منه بتفوقها على ما فوقها، وقال لمناظرنا ما يقوله هو لنا؟ إذن ماذا يكون منه الجواب؟

4 - إن قول المناظر برجحان الحالة الغيبية على الحالة اليقينية وإن كانت ظاهرة البطلان إلا أن هذا البطلان لا يمنعنا عن مناقشتها حتى لا يظن مناظرنا أن كلامه حق يعلو على التجريح والنقد

يقول العالم الياباني (موريكاتو إيناجاكي) إن في كل عنصر بشري استعداد لأن يظن في نفسه الكمال. ويثبت هذا العالم هذه الحقيقة من حقائق علم النفس والإنسان. وفي ضوء هذا القول نفهم اعتقاد مناظرنا برجحان ثقافة الشرق الغيبية، ولكن ما هي الأسباب العلمية والفلسفية التي يبرر بها المناظر إيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية؟

بحثت كثيراً في كلام المناظر وفتشت بين السطور عن الأسباب العلمية لإيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية، ولكن بلا جدوى. فرجعت لكتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) فلم أخرج بغير (قانون الرجعي) سببا في تفوق ثقافة الشرق الغيبية!

يرى المناظر أن العلم الحديث أكد وجود قوة مستترة في الإنسان أسماها العقل الباطن، وهي مستودع الفطرة والانطباعات السابقة، وهي نفسها تسير الآن متلبسة بمظهر الاختيار. وما العقل الباطن كما دلت التجارب إلا الحوافز التي وجدت في الأجداد ونمت على اتجاه مقدور أيضاً زمن الطفولة. وهذه الحوافز تكمن فيها فطرة الأمم لأنها أداة شعورها بالحياة. وما دام الأمر كذلك فهو يرى أن سعادة المجتمع العربي في ملاءمته لما فطر عليه هي الغيبيات لأنها استلهام للروح العليا

كلام كما تراه يخترمه التناقض ومجانبة الحقائق. ومع ذلك فلننظر فيه

من المعلوم أن الإنسان بتكوينه الطبيعي يستجيب للمؤثرات الداخلية والخارجية استجابة ذاتية وهذه الاستجابة مرتبطة فيه بأنصاف الكرات المخية التي هي أعضاء رد الفعل في الإنسان. وترتبط بهذه الأنصاف الكروية المخية الوراثة والعقل الباطن. بيان ذلك أننا لو أتينا بكلب ووضعنا أمامه قطعة من الحلوى فان لعاب الكلب يسيل. هذه الظاهرة تحدث بتأثر ذاتي في الكلب ومن غير أن يكون للتجربة يد في تغييره أو تكوينه؛ ومن هنا تعتبر فعلاً عكسياً أصيلاً. وهذه الأفعال العكسية الأصيلة هي ما كنا نسميها من قبل بالغرائز. فالغرائز مجموعة من الأفعال العكسية مندغم بعضها في بعض كما هو الحال في غريزة بناء الطيور لأعشاشها. غير أن هذا الفعل العكسي الأصيل وإن كان يحدث بقاسر ذاتي في الأحياء العضوية لا يتغير فإن ذلك وقف على الأحياء الدنيا. أما في الأحياء العليا في سلم المملكة الحيوانية فان سلوك هذه الحيوانات وإن كان مرتكزاً على استجاباتها بقواسر ذاتية للمؤثرات فإنها تستفيد من التجارب، إذ تترك التجارب أثراً بيناً في سلوكها. والإنسان كأحد أصناف المملكة الحيوانية العليا يخضع لنفس هذه السنن. والأفعال العكسية المستفادة من التجارب مؤصلة لأنها مكتسبة يكتسبها الحي من ظروف حياته كنتيجة لما يلابسه من مؤثرات؛ وهذه الأفعال تختفي وتضمحل إذا ما تغايرت المؤثرات. ولما كانت الأفعال العكسية في الأصل تحدث بقاسر ذاتي مصحوبة بحركة انفعالية جاز لنا أن نعتبر الأفعال العكسية المؤصلة - وهي المستفادة من التجارب - كنمو ارتفاقي في الأفعال العكسية الأصيلة.

ولما كانت هذه الأفعال تقوى وتضمحل وتضعف وتتغاير باضمحلال المؤثرات وتغايرها، فإن مراكزها في الكرات النصفية المخية تكون قابلة لدرجة قليلة أو كبيرة لإمكان تكون الانعكاسات المؤصلة حيث تعتمد في قوتها على التكرار الاصطحابي كما أن ضعف أواصر التلازم أو تقطعها يؤدي إلى ضعف الانعكاس المؤصل أو اضمحلاله. غير أنه يعود بصورة أيسر لأنه يكون قد ترك أثراً في الحي من حالته الأولى الارتفاقية. وهذه الحقائق بإثباتها ديناميكية خاصة للنفس وساحة لا شعورية تبين إلى أي حد قد جانب المناظر في كلامه حقائق العلم. لأن الحوافز التي بالأحياء نتيجة للارتباط الارتفاقي بين الأفعال العكسية الأصيلة والمؤصلة وليست نتيجة للوراثة. وهذا لا يمنع أن الإنسان يولد وفي تضاعيف تلافيف مخه، وفي ثنايا أنصاف كراته المخية، وفي لحائها، وفي مراكز أعصابه ميول وكفايات إمكان لبعض الأفعال المؤصلة. والإنسان بخروجه لعالم الحياة يكون جهازه العصبي في طور نمو وتكوين إذ تسيطر عليه الأفعال العكسية سيطرة مطلقة، وهذه الأفعال مجردة. . . ويكون للمؤثرات التي تلابس الإنسان أثراً في أن تحدث استجابات تكون مقدمة لفعل عكسي مؤصل. فأذن العلاقة بينما هو كائن في النفس عن طريق الوراثة لا تتعدى الإمكان المحض. وهو تحت تأثير المؤثرات يظهر مصحوباً به. فالاعتقاد بوجود أساس وراثي يرثه الإنسان ويتركب عليه مكتسباته لا يتعدى هذه الحقيقة. وهو لا يثبت دعوى أن اللاواعية أو العقل الباطن يحتوي على الحوافز المتوارثة عن الأجداد

فإذا لاحظنا هذا كله وجدنا أن للمحيط الاجتماعي وما يعرض له من العوامل والمؤثرات الأثر الأكبر في تكوين الإنسان على غرار معين. . . وإذاً يكون التجاء المناظر إلى الوراثة والحوافز المتوارثة عن الأجداد - وهي حالات إمكان في النفس - خطأ من الناحية العلمية، ويكون بالتبعية اعتقاده في سلامة وسعادة المجتمع لما فطر عليه من الحوافز المتوارثة خطأ. والصحيح أن يقال إن الإنسان من حيث يولد وهو طفل وأفعاله العكسية المؤصلة هي التي تستحكم في جهازه العصبي، وبتعبير أدق غرائزه، يكون مطواعاً للمؤثرات التي يحتويها محيطه الطبيعي والاجتماعي، ويخرج مصبوبا في قالب معين يكافئ الحالات التي أحاطته. ونظراً لأن المحيط الطبيعي والاجتماعي عادة واحد في الحالات الاعتيادية فإن المؤثرات تكون واحدة، ومن هنا يخرج الناس في قبيل معين وجيل معين مصبوبين في قالب معين.

وقانون العادة يتدخل لأحداث المماثلة في القالب المصبوب فيه القبيل حتى ينتهي لذلك. أما في الحالات التي تكون فيها المؤثرات في المحيط الاجتماعي متباينة، فان القبيل يخرج في قوالب شتى جماعها يكافئ الحالات التي يتضمنها المحيط الاجتماعي؛ وهذا ما هو حادث اليوم في مصر. فإن أهل المدن من الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة يعيشون على غرار غربي، لأن العوامل في محيطهم الاجتماعي متأثرة بالروح الأوربية، بعكس أهل الريف الذين يعيشون على غرار شرقي. وهذا الانقسام في المجتمع المصري ملحوظ للنظر.

وإذن تكون نقطة الخطأ في كلام المناظر، بل الخطأ الأساسي هو إغفاله للمؤثرات الطارئة التي تدخل في المحيط الاجتماعي، وتؤثر في المجموع الإنساني، وتصبهم في قوالب جديدة تكافئ المحيط الاجتماعي في الصورة الجديدة التي أخذها بالمؤثرات التي طرأت عليه. وهذه الحقيقة تتبين من نظرة سريعة في كتاب (رسالة المنبر إلى الشرق العربي).

ولقد كشفنا عن هذه الحقيقة في النقد الذي كتبناه في مجلة (العصبة الأندلسية) في عددي فبراير ومارس سنة 1938 لكتابه، وهي تبين أن المناظر يمضي في كلامه مغفلاً شأن العوامل والمؤثرات التي تجد طريقها إلى المحيط الاجتماعي للشرق العربي. ومن هنا نرى أن الشرق العربي شاء أو لم يشأ مفكروه سيمضي في سلسلة من التغايرات حتى ينتهي إلى أن يحوز المكافأة للمؤثرات التي دخلت محيطه؟

(إسكندرية)

إسماعيل احمد أدهم