مجلة الرسالة/العدد 271/في (الحب)

مجلة الرسالة/العدد 271/في (الحب)



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

- 1 -

(يا أخي، أقول لك الحق وأمري إلى الله، أنا لا أعرف الحب، ولا أستطيع أن أحب، ولم يخلقني الله لأحب، فأنا على الأرجح مخلوق ممسوخ، أو هذه الخلائق هي المسيخة إذا صدق ما يزعمون عن الحب وما يعانون من تدليهه؟)

فهز صاحبي رأسه مفكراً وسألني: (وإبراهيم الكاتب؟)

فقلت: (إبراهيم الكاتب مخلوق لا حقيقة له. . . أنا الذي خلقته، فإذا كنت لم أحسن خلقه فاعذرني، فإنها أول تجربة لي في (الخلق). ومع ذلك أدر عينيك في الغادين علينا والغاديات والرائحين والرائحات، وتدبر نفوسهم إذا استطعت، واعذرني: وأحسبك تريد أن تزعم أني وصفت حب إبراهيم هذا، أو معاشقه، وأن هذا وصف خبير. ربما! الحقيقة أني نسيت حكاية إبراهيم هذا ولكني واثق أن عقله لم يطر من الحب، ولبه لم يزدهف، وأنه كان يعرف القيمة الحقيقية لكل واحدة ممن أحب، وكان يستطيع أن يكبح نفسه ويصرفها)

فكابر بالخلاف، فتركت له الصفقة، إيثاراً للراحة من عناء الجدل الذي لا طائل تحته، وأردت أن أستطرد عن هذا الموضوع إلى سواه، فأبى أن يدعني أهرب، فدار بي فعاد إلى الحب، فقلت له: (إني أراك جائعا) قال: (جائع؟ أبداً) قلت: (والله جائع، ومتضور أيضاً. . .) ووضعت إصبعي على قلبه: (هنا فراغ أسميه أنا جوعاً، فأنت لهذا فيما أرجح، تجد لذة في الكلام في الحب الذي حرمت ما تتوهمه نعمته. . . أعترف!)

قال بضحك: (ليتني أكون محباً محبوباً. . . الحقيقة إن حياتي صحراء جرداء)

قلت: (اشكر الله، وأسأله دوام هذه النعمة.)

قال: (يا شيخ، حرام عليك!)

قلت: (والله إني أريد لك الخير، أو اسمع، إذا كان لا بد من هذا، فأحبب أنت كما تشاء، فأن أمرك يبقى بيدك، ولكن إياك أن تكون محبوباً من امرأة، فأن هذا هو العذاب الغليظ)

فظنني أمزح، فقلت: (لا والله. وإني في هذا لأتكلم بلسان الخبير المسكين. هل تصدق أن امرأة في هذه الدنيا يبلغ من قلة عقلها أن تترك الناس جميعاً وتحبني أنا؟ قال: (ولم لا؟ هذا جائز)

قلت: (جائز. . . وهل أنا أتكلم في الجائز وغير الجائز؟ جائز أيضاً أن تصح ساقي المهيضة، وتسلم؛ وجائز أن تطول قامتي وتعرض ألواحي، وأن اصبح مصارعاً ومن أبطال العلم في هذا الباب. . . ولكن تصور عقل هذه الفتاة المسكينة! وتصور موقفي أنا حيالها. . . أنا الذي ليس له طاقة على الحب ولا صبر لي على ما يغري به من الحماقات والسخافات. أقول لها مثلاً، وأنا أناشدها أن تثوب إلى رشدها: (يا ستي! يا حبيبتي! أين ذهب عقلك؟) فتترك السؤال. . . لا تسمعه في الحقيقة. . . وتصيح وتلوح بيديها وتقول: (حبيبتك!؟ هذه أول مرة أسمع فيها منك هذا اللفظ الجميل. . . أعده على سمعي. . . أرجو) فأدهش من سوء التأويل وأقول لها: (يا ستي إنما عنيت. . . لم أعن شيئا في الحقيقة. . . مثل قولي يا صديقتي لا أكثر) فتقطب وتقول (خيبت أملي! لماذا تأبى عليَّ حتى أن أسعد بلفظ؟) فأقول: (يا ستي والله ما أكره لك السعادة ولا أنا آباها عليك لو كان بيدي إسعادك؛ ولكني لا أستطيع أن أكذب عليك، وعلى نفسي. . . هذا الحب شيء لا قبل لي به) فتقول: (ولكني أريده) فأقول: (إذن التمسيه عند غيري. . . اطلبيه من دكان آخر) فتغالط نفسها وتقول: (أنت هكذا دائماً. . مكابر. . هذا أنت. . . بس أريد أن أعرف ماذا تخسر إذا اعترفت؟) فأقول: (وكيف أعترف بما لا أحس به؟) فتروح تحاورني وتداورني، وفي ظنها أني أغالطها وأكذب عليها، أو أن، بي كبراً يمنعني من الإقرار لها بحبها، وتمسح لي شعري. . . أعني الشعرات العشر الباقية في رأسي. . . وتربت على كتفي برقة فأضحك، فتدير إلي محياها الدقيق وعلى ثغرها الرقيق اللين ابتسامة سرور، وفي عينيها ومضة أمل، فأقول، وأنا أرد القهقهة التي أحس أني أوشك أن أنفجر بها: (أتراني لعبة؟) فتقول (لعبة؟ استغفر الله! لماذا تقول هذا؟ أنت عندي. . .) فأقاطعها وأقول (دعي هذا. . . فأني أعرف منزلتي التي لا تدانيها منزلة. ولكن أن تمسحي لي شعري؟ أين هذا الشعر الذي تمسحينه؟ سبع شعرات ونصف شعرة! ومع ذلك أقول لك الحق: أنا استحيي أن أراك تصنعين هذا. . . أحس - لا أدري لماذا؟ - أني ارتددت طفلا صغيرا تلاعبينه. . .) فتقاطعني هي وتقول (يسرني أن ألاعبك. . أن تكون لعبتي!) فأقول: (أما الملاعبة فأنا فيها خادمك المطيع، تعالي نلعب كما تشائين. . . ولكن أن تلعبي أنت بي أنا. . .؟ هذا لا يكون. . . لا استكبارا مني، بل لأن طباعي، وفطرتي لا تساعد على هذا. . . ثم كيف تلعبين بي؟ أأنا كرة؟ أم ماذا! ألا ترين أن هذا كلام فارغ، وإنا نضيع الوقت فيما لا خير فيه ولا متعة؟ أولى بنا أن نضحك، ونلعب. . .)

فتعود إلى رأس البلاء وتقول (ولكن لماذا تكره الكلام في الحب؟ أليس لذيذا؟)

فأقول (لست أكره شيئا، وإنه ليسرني أن يكون مدار حديثنا على شرط أن لا أكون أنا مداره! ثم قولي لي، أليس في عينك نظر؟)

فتعبس وتهز رأسها مستفسرة فأقول: (تحبينني أنا؟ يا خبر أسود! وهل خلت الدنيا من الناس فلم تجدي سواي؟)

فتطمئن وتضحك، وتقول (أنت متواضع. . جدا)

فأقول (يا ستي والله أبدا. . . إن بي كبرا أن يكون بي كبر. ولكن الحقيقة أنك بلهاء أو لا أدري ماذا دهاك. . .)

فتسأل بلا مناسبة: (لماذا لا تحبني؟)

فأقول: (هذا سؤال غريب. . . طيب أسمعي. . . أنا لا أحبك لأني لست عدوك!)

فتصيح: (ايه؟)

فأقول: (تمام. الحب في لغتنا لفظ سقط منه حرف. . . كان يجب أن يسمى الحرب!)

(حرب؟)

(أي نعم يا مولاتي! لأنه ضرب من الجوع)

(جوع؟)

(أي نعم مرة أخرى يا مولاتي. . تجوعين فتشتهين الملوخية بالأرانب، أو الإوز، وتجوعين جوعاً آخر فتشتهين رجلا. . . وأنت تحبين الملوخية، ولكن ليس بينكما مودة متبادلة، وإنما العلاقة بينكما آكل بمأكول؛ وكذلك الجوع الذي نسميه الحب، فأنه ليس أكثر من رغبة في الاستيلاء على مخلوق آخر أو التهامه إذا شئت. وإذا كان الحب متبادلا فان معنى هذا أن الحرب معلنة من الجانبين - كل جانب يريد أن يستحوذ على الجانب الآخر بأسلحة شتى، منها الغزل والقبل والعناق والضم وغير ذلك من وسائل التليين. . .)

قالت: (لا أصدق هذا الكلام الفارغ) قلت: (سامحك الله. وخذي كلاماً آخر لا تصدقينه. . . كما أن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على طعام واحد، فلا يأكل سوى الملوخية مثلا، كذلك لا صبر للإنسان على امرأة واحدة. وصدقي هذا أو لا تصدقيه، فأنت حرة؛ ولكن ثقي أن من يقول لك غير هذا يكون خادعاً أو مخدوعاً: خادعاً إذا كان يدرك الحقائق، ومخدوعاً إذا كان مثلي يأبى أن يواجهها، وأنا أعرف منك بالحياة وأخبر. الرجال جميعاً خوانون غدارون - إذا صح أن نسمي غدراً وخيانة ما ليس سوى نزول منهم على حكم الطبيعة)

فقالت بسرعة: (هذا صحيح. . . كلهم خائن)

قلت: (لا تعجلي فالنساء أيضاً مثل الرجال. والطبيعة واحدة يا ستي!) فلم تقتنع يا أخي، وقد تعبت ومللت، وخطر لي مراراً أن أتركها وشأنها، ولم أكتمها أني ضجرت من هذا الحب، ولكني أشفق عليها وإن كان هذا الحب منها يغيظني ويحنقني. وما ذنبها إذا كانت لا تستطيع أن تدرك هذا الذي أبينه لها؟؟ ثم إن عقولهن غير عقولنا - نحن الرجال عقولنا في رؤوسنا، أو نحن على الأقل نتوهم ذلك، أما النساء فعقولهن ليست في رؤوسهن - هذا محقق - وقد قلت هذا مرة، فثارت علي فتاة ذكية جميلة مثقفة وسألتني وهي محنقة (أين إذن عقل المرأة إذا لم يكن في رأسها؟) فحرت كيف أجيب، وكان الجواب حاضراً ولكن الإفصاح عنه لا سبيل إليه، وألهمني الله أن أخرج من المأزق بقولي (عقولهن في قلوبهن) فأرضاها هذا التعبير الحسن عن معنى يعده الجهلة سيئاً وما هو بسيئ، وإنما هو الطبيعي. فكيف تريد مني وهذا تصوري للأشياء أن أعرف الحب كما تريد النساء والشبان أن أعرفه. . . خيالات وأوهاماً وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، ووفاء وحفاظاً إلى آخر هذا الهراء الذي لا يكون؟؟

فهز رأسه متعجباً، ولم يقل شيئاً، فحمدت الله واغتنمت فرصة سكوته واستأذنت في الانصراف

إبراهيم عبد القادر المازني